داء الوسوسة.. الأسباب والآثار

منذ 2014-03-05

ملخص محاضرة "رسالة إلى موسوس" للشيخ سلمان العودة

الحمد لله..

جعل هذه الحياة داراً للابتلاء والامتحان، وميداناً للصراع بين الإنسان وبين الشيطان، وجعل موطن هذا الصراع وميدان هذه المعركة هو قلب الإنسان. فأيهما تمكن منه كانت له الغلبة وكان له الفوز. فإذا فاز الإنسان بالإيمان تمكن من القلب وطرد الشيطان، وإذا كان العكس كانت العاقبة للشيطان فباض فيه وفرخ وسكن فيه ووسوس.

والوسوسة نوع من الابتلاء الذي يصاب به الإنسان ويحزنه به الشيطان فيفسد عليه دينه وعبادته، بل وينغص عليه حياته كلها.

الوساوس داء عضال، ومقت ووبال، وقد يبغض المرء بسببه العبادة، ويستثقل الحياة، وقد يصاب بمرض نفسي أو عضوي بسبب الوسواس.

صليت بالأمس بجانب رجل صلاة الظهر فراعني والله ما رأيت، وعجبت مما سمعت وشاهدت، حتى أفسد على صلاتي أو كاد، ولم أملك في النهاية إلا أن أدعو الله تعالى أن يعافيه من هذا البلاء الشديد والكرب العجيب.

وقد كثرت شكوى الموسوسين هذا الزمان في أشياء كثيرة من شئون دينهم ودنياهم، فأحببت أن أكتب حول هذه القضية.


سبب الوسوسة

ذكر أهل العلم كالإمام الجويني رحمه الله في كتابه الذي سماه: التبصرة في الوسوسة، ثم نقل هذا عنه عدد من العلماء أن الوسواس لا يكون إلا بأحد سببين: إما نقص في غريزة العقل، وإما جهل بمسالك الشريعة.

 

النقص في غريزة العقل

أما كونه نقصاً في العقل فإن أحدهم يغسل يده عشر مرات ثم هو يظن أنها لم تغسل ولم يصل إليها الماء، ويقف أحدهم ينوي للصلاة ويرفع صوته فيسمع نفسه ويسمعه كل من حوله ثم هو بعد ذلك يظن أنه لم ينو، ولولا نقص عقلهم ما بلغ الشيطان منهم هذا المبلغ.

ولذلك ذكر ابن الجوزي وابن القيم رحمهما الله أن رجلاً جاء إلى الإمام أبي الوفاء بن عقيل الحنبلي فقال له: يا إمام إنني أنغمس في الماء مرة، ومرتين، وثلاثاً، ثم أخرج منه، وأنا أشك هل ارتفعت الجنابة عني أم لا، هل اغتسلت أم لا. فقال له أبو الوفاء بن عقيل رحمه الله: اذهب فقد سقطت عنك الصلاة، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «رفع القلم عن ثلاثة: النائم حتى يستيقظ، والصغير حتى يبلغ، والمجنون حتى يفيق»، وهذا جنون.

 

الجهل بمسالك الشريعة

وذلك أن كثيراً من الموسوسين أيضاً يجهلون حكم الله ورسوله فيما يعانونه، يجهلون أسماء الله عز وجل وصفاته وما ينبغي له، وما لا يجوز عليه، فيقعون في الوسوسة في أسماء الله وصفاته، يجهلون أحكام الطهارات والمياه وغيرها فيقعون في الوسوسة في ذلك،.


أنواع الوسوسة

أنواع الوسوسة كثيرة فإنها ضرب من الجنون، وكما قالوا الجنون فنون، فمن أنواع الوسواس:

 

الوسوسة في الإيمانيات

وفي قضايا العقائد، حيث يتنطع بعض الناس في التفكير في ذات الله تعالى وأسمائه وصفاته، ويخطر في فكره وقلبه خواطر وتصورات وظنون تشغل باله، وتجعله يشك في نفسه ويشك في إيمانه وتقلقه، حتى ربما يسهر بعضهم الليالي ذوات العدد وهو يتقلب في الفراش يفكر في هذه الأمور ويحاول أن يدفعها، ثم يرد على قلبه خاطر أعظم وأطم من ذلك، فيقول له الشيطان الذي أوقعه في الشبكة: مسكين أنت، قد تموت وأنت على هذه الحال، شاك في الله عز وجل مرتد عن دينه، فيكون مصيرك إلى نار جهنم، ولا يزال الشيطان يغلي هذا الإنسان في هذا الحريق حتى يصبح كالحبة التي تتقلب على النار، لا يهدأ له بال، ولا ينعم بنوم، فهذا هو النوع الأول.

 

الوسوسة في النية

أما النوع الثاني: فهو الوسواس في شأن النية: فإن كثيراً من الناس يوسوسون في نياتهم ومقاصدهم، يوسوس في نيته إذا أراد الطهارة، فيتوضأ مرة ثم يعود فيبدأ في الوضوء، فإذا انتصف قال: ربما لم أتوضأ، فقطع النية وعاد من جديد وهكذا يبدأ ويعيد، فإذا أراد أن يصلي أصابه ما قرب وما بعد في شأن النية، فإذا بدأ فيها ونصفها ربما قطعها وخرج منها ليعيد نيته من جديد مما يقود إلى الوقوع في كثير من البدع التي تزيد على العشر، كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. ويصيبه من ذلك والعياذ بالله من المشقة والعنت ما لا يحمد عليه في الدنيا، ولا يؤجر عليه في الآخرة فنسأل الله السلامة بمنه وكرمه.

 

الوسوسة في الطهارة والمياه

أما النوع الثالث من أنواع الوسوسة: فهو الوسوسة في الطهارة والمياه وغيرها، فتجد الإنسان إذا قضى حاجته تعب في ذلك أشد التعب، وربما بقي في مكان الخلاء الساعات الطوال ومع ذلك يخرج وهو لا يدري هل تظهر أم لا.


الوسوسة في العبادات

وبطبيعة الحال فالوسوسة في العبادة ليست في الصلاة، فقط، بل قد يداخله الوسواس في الصيام وفي الحج، في عدد الطواف مثلاً، وفي عدد الحصوات التي رمى بها، وفي نوع العمل الذي عمله وفي كل عبادة من العبادات، فيفسدها عليه، ويحرمه من لذة العبادة وهو مع أهميته وجلاله أقل ما يمكن أن يصيب أصحاب الوساوس.

 

الوسوسة في المعاملات

والنوع الخامس من أنواع الوسوسة: هو الوسوسة في المعاملات، فتجد الإنسان يشدد على نفسه ويبالغ في ذلك وربما يطول بكم العجب لو رأيتم بعض ما ابتلي به هؤلاء الموسوسون في مثل ذلك، ثم إذا اشترى شيئاً أو باع شيئاً، رجع إلى بيته فنسي، هل أديت المال وقيمة هذه السلعة أم لا؟ فغلب على ظنه أنه لم يؤدها فرجع وربما يدفع قيمة ما اشتراه مرتين وثلاث مرات، وربما يكثر من مراجعة نفسه، أنك قلت في فلان كذا والواقع أن الأمر كذا، وقلت في أمك كذا، وقلت في أبيك كذا، وقلت في زوجتك كذا، وبدأ الشيطان يتلاعب به في أقواله وأفعاله، حتى أفسد عليه دينه ودنياه، هذه أهم أنواع الوسوسة.


آثار الوسوسة ومضارها

فهي تنقسم إلى: مضار دينية، ومضار دنيوية.

 

المضار الدينية على الموسوس

فالمضار الدينية أن هذا الموسوس قد يبغض إليه كثير من أمور الدين بسبب ما ابتلي به من الوسواس، فيبغض العبادة، يبغض الصلاة ويبغض قراءة القرآن لما يعرض له في ذلك من كيد الشيطان، وإذا حصل له هذه النوايا في قلبه بسبب ما ابتلى به من الوسواس ابتلي بوسواس آخر فقال له الشيطان: أنت الآن تبغض قراءة القرآن، أنت تبغض الصلاة لأنك ربما قد وقعت في الكفر، فجره إلى نوع آخر من الوسوسة والعياذ بالله! وانظر كيف يتدرج الشيطان بالإنسان، فهي سلسله من الوساوس إذا بدأت في الإنسان لا تكاد تنتهي، إلا بتوفيق الله عز وجل.

ومن المضار الدينية التي يبتلى بها الموسوس أنه قد يترك هذه العبادة، لا يكتفي ببغضها بل قد يتركها، فربما ترك الصلاة أو ترك على الأقل كثيراً من النوافل بسبب الوسوسة.

إن الوسوسة تشغل كثيراً من وقته فيما لا فائدة فيه فينشغل عن القراءة والذكر والعلم والدعوة بهذا البلاء المستطير، وربما دخل قلبه شيء من الخوف الذي هو خوف في غير مكانه، وأدى إلى ضرر عظيم على هذا الإنسان.

 

المضار الدنيوية على الموسوس

أولاً: أن الإنسان قد يبتلى ببلاء من جنس ما وسوس فيه. كمن يوسوس في نزول البول بعد الطهارة فما يزال بنفسه حتى يصيبه ذلك من كثرة ما يخطئ في أسلوب الطهارة.

ثانيًا: أنه يؤثر في صحته وجسمه، لأنه هم وغم يصيب الإنسان فيؤثر على عقله وبدنه، حتى ترى بعضهم هزيلا ضعيفا من كثرة الفكر وطول الهم خاصة إذا طال الزمن.

ثالثاً: أنه قد يحرم الإنسان من المنافع الدنيوية، فأعرف من ترك طلب العلم والدراسة، أو التجارة أو غير ذلك وانشغل بهذا الأمر، فإذا انشغل تفرغ لهذا الوسواس وتفرغ الشيطان له، وكما يقال: زاد الطين بلة.

 

آثاره على غير الموسوس

وللوسوسة آثار ومضار على غير أصحاب البلاء، فمن آثاره ومضاره:

أنه يجعل نفسه مسخرة للناس حيث يضحكون به ويسخرون به، وربما نالهم الإثم بسبب غيبتهم له أو ضحكهم منه، أو استهزائهم بأعماله وتصرفاته.

ومنها: أن بعض من يحسنون الظن بهذا الموسوس قد يجارونه ويسايرونه ويقتدون به فيما فعل، فيسبب لهؤلاء الناس ضرراً وإثماً، وكان قدوة سيئة لغيره في ذلك.

ومن أضراره على الناس أيضاً، وهذه من الأضرار العظيمة في هذا العصر خاصة أنه يفتح ثغرة على أهل الخير حيث إن كثيراً من الأشرار وأعداء المؤمنين قد يسخرون منهم بسبب هؤلاء الموسوسين، فإذا وجدوا بين المؤمنين شخصاً موسوساً أطلقوا الوسواس على كل المؤمنين، فإذا رأوا إنساناً يعمل عبادة مشروعة مستحبة، بل ربما يعمل واجباً قالوا: هذا موسوس، فألصقوا به هذه الفرية بسبب وجود فرد أو أفراد مبتلين بهذا الداء، وبعضهم يقول للأب إذا رأى ابنه مع الصالحين: ابنك سيتحول إلى موسوس ويصاب بما أصيب به فلان من ترك العمل، وترك الدراسة، وكثرة البقاء في دورات المياه وإطالة الصلاة، وما أشبه ذلك من الأمور التي قد يجدونها في بعض الموسوسين.


علاج الوسواس

الوسواس داء وما أنزل الله من داء إلا أنزل له دواء، عَلِمه من عَلِمه وجَهِله من جَهِله. فعلى المبتلى أن يعرف أين طريق العلاج ثم يسلك فيه فيشفى بإذن الله. وهو ما سنحاول أن نبينه في مقال قادم بإذن الله .. نسأل الله أن يشفي كل مريض مسلم، وأن يلبسنا جميعا ثوب الصحة والعافية.