{قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ}

منذ 2014-03-12

إن هذه جريمة من أبشع الجرائم؛ أن يقوم قوم بإضرام نيران ضخمة داخل أخاديد عميقة، وإلقاء الموحدين فيها؛ لا لجرم فعلوه إلا أنهم آمنوا بالله العزيز الحميد، ثم يجلسون يشاهدونهم وهم يُعَذَّبُون في النار، ويتقلبون فيها ويتصايحون من شدة العذاب كما يشاهد أحدهم خروفًا يُشوَى على النار، يستمتعون بعذاب المؤمنين كما يستمتعون بإعداد طعامهم الحنيذ، ولبشاعة هذا الجرم وهوله، قدم الله له بهذه الأقسام.

الحمد لله العزيز الحميد الذي له ملك السماوات والأرض، والله على كل شيء شهيد، والصلاة والسلام على خاتم النبيين والمبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

تمهيد:

أخي القارئ الكريم لعلك تذكر أننا قد انتهينا في اللقاء الماضي من الحديث عن قصة عيسى عليه السلام آخر أنبياء بني إسرائيل منذ ولادته من أمِّه الطاهرة البتول مريم عليها السلام حتى رفعه الله إليه، وما اكتنف ذلك من أحداث، واستخلصنا ما يسَّره الله لنا من دروس وعبر، ومن الحقائق الثابتة شرعًا وتاريخًا أن عيسى عليه السلام تعرَّض لإنكار اليهود لنبوته ورسالته، بل وصل الأمر بهم لاتهام أمِّه الكريمة في شرفها وعِرْضها، واستمروا في اضطهادهم لعيسى عليه السلام حتى حاولوا قتله، وهم يعترفون بذلك صراحة بغير مواربة، بل ويظنون أنهم قتلوه، لكن الله رفعه إليه، ولم يمكّنهم منه وألقى شَبَهه على أحد الخونة فقتلوه وفُتنوا بذلك وفَتنوا غيرهم.

وإن كان هذا حال عيسى إبَّان حياته على الأرض؛ فإن أتباعه الموحدين المؤمنين به حق الإيمان تعرّضوا بعد رفعه لفتنة أشد على أيدي اليهود والرومان من جانب، وعلى أيدي أبناء ملتهم الذين اختلفوا معهم في طبيعة عيسى عليه السلام من جانب آخر، حتى اضطروا إلى ترك العمران، واعتزال الناس، والهروب بدينهم في الشعاب وعلى رؤوس الجبال، وسكنوا الكهوف، ورضوا بالزهيد من العيش؛ حفاظًا على توحيدهم وصحة اعتقادهم.

وهذه سورة البروج من القرآن الكريم تقدم لنا إحدى صور الصراع بين الحق والباطل، بين الإيمان والكفر، بين التوحيد والشرك؛ فلنتأمل الآيات، قال الله تعالى: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ . وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ . وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ . قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ . النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ . إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ . وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ . وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ . الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [البروج:1-9].

أخي الكريم: لنتأمّل الآيات الكريمة على النحو الآتي:

بشاعة الجريمة

إن هذه جريمة من أبشع الجرائم؛ أن يقوم قوم بإضرام نيران ضخمة داخل أخاديد عميقة، وإلقاء الموحدين فيها؛ لا لجرم فعلوه إلا أنهم آمنوا بالله العزيز الحميد، ثم يجلسون يشاهدونهم وهم يُعَذَّبُون في النار، ويتقلبون فيها ويتصايحون من شدة العذاب كما يشاهد أحدهم خروفًا يُشوَى على النار، يستمتعون بعذاب المؤمنين كما يستمتعون بإعداد طعامهم الحنيذ، ولبشاعة هذا الجرم وهوله، قدم الله له بهذه الأقسام.

قال ابن القيم رحمه الله: "والإقسام بهذه الأمور متناول لكل موجود في الدنيا والآخرة، ولكل منها آية مستقلة دالة على ربوبيته وإلهيته، فأقسم بالعالم العلوي، وهي السماء وما فيها من البروج، ثم أقسم بأعظم الأيام وأجلها قدرًا، الذي هو مظهر ملكه، وأمره ونهيه، وثوابه وعقابه، ومجمع أوليائه وأعدائه، والحكم بينهم بعلمه وعدله، ثم أقسم بما هو أعمّ من ذلك كله وهو الشاهد والمشهود، وناسب هذا القَسَم ذكر أصحاب الأخدود الذين عذبوا أولياءه، وهم شهود على ما يفعلون بهم" ا. هـ.

وقال رحمه الله: "ثم وصف الله حالهم القبيحة بأنهم قعود على جانب الأخدود، شاهدين ما يجري على عباد الله تعالى وأوليائه عيانًا، ولا تأخذهم بهم رأفة ولا رحمة، ولا يعيبون عليهم دينًا سوى إيمانهم بالله العزيز الحميد، وهذا شأن أعداء الله دائمًا، ينقمون من أوليائه، كما قال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ} [المائدة:59]، وكذلك قوم لوط نقموا على عباد الله طهرهم وعفافهم: {أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [الأعراف من الآية:82].

وكذلك أهل الشرك ينقمون من الموحدين تجريدهم التوحيد، وإخلاص الدعوة والعبودية لله وحده، وكذلك أهل البدع ينقمون على أهل السنة تجريد متابعتها وترك ما خالفها وكذلك المعطّلة ينقمون على أهل الإثبات إثباتهم لله صفات كماله ونعوت جلاله، وكذلك الرافضة ينقمون على أهل السنة محبتهم للصحابة جميعهم وترضيهم عنهم، وولايتهم إياهم، وتقديم من قدَّمه رسول الله منهم، وتنزيلهم منازلهم التي أنزلهم الله ورسوله، وكذلك أهل الرأي المحدَث ينقمون على أهل الحديث وحزب الرسول أخذهم بحديثه وتركهم ما خالفه، وكل هؤلاء لهم نصيب، وفيهم شَبَه من أصحاب الأخدود وبينهم وبينهم نسب قريب أو بعيد" ا. هـ (بتصرُّف يسير من التفسير القيم).

وبسبب بشاعة هذا الجرم توعَّد الله الذين قاموا به بعذاب دائم في نار جهنم جزاء كفرهم، وبعذاب أشد جزاء تحريقهم للمؤمنين، ووعد المؤمنين بنعيم مقيم في جنات النعيم؛ فتحريقهم في الدنيا ساعة يؤدي بهم إلى جنات تجري من تحتها الأنهار، ذلك الفوز الكبير، أما المجرمون فعذابهم دائم في نار جهنم، ولهم فوقه عذاب الحريق.

مَن هم أصحاب الأخدود؟ وما زمان الحادثة؟

وأصحاب الأخدود هم الذين أمروا بإقامة الأخاديد، وإضرام النيران فيها، وقاموا على تعذيب المؤمنين، فهم الجناة خلافًا لمن رأى أنهم المجني عليهم، وهذا يؤكده سياق الآيات، وهذا الذي رآه جمهور المفسرين، واختلفوا في تعيينهم وتحديد هويتهم، ونقل ابن كثير رحمه الله في تفسيره أقوالاً كثيرة خلاصتها ما نقله عن أسباط عن السدي قال: "كانت الأخاديد ثلاثة خدُّ بالعراق، وخدُّ بالشام، وخدُّ باليمن"، ونقل عن مقاتل رحمه الله قال: "كانت الأخدود ثلاثة واحدة بنجران باليمن، والأخرى بالشام، والأخرى بفارس حرقوا بالنار، أما التي بالشام فهو انطانيوس الرومي، وأما التي بفارس فهو بختنصر، وأما التي بأرض العرب فهو يوسف ذو نواس، فأما التي بفارس والشام فلم ينزل الله تعالى فيهما قرآنًا وأنزل بالتي كانت بنجران".

ونقل ابن كثير أيضًا عن محمد بن إسحاق في السيرة أن الذي قتل أصحاب الأخدود هو ذو نواس، واسمه زرعة، ويُسمّى في زمان مملكته بيوسف، وكان قد تهوّد ونقل اليهودية إلى أهل نجران.

هذا بالنسبة للجناة الذين قاموا بتعذيب المؤمنين، أما الذين فُتنوا بالأخدود من المؤمنين فهم من النصارى الموحدين.

وقال صاحب التحرير والتنوير: "والروايات كلها تقتضي أن المفتونين بالأخدود قوم اتبعوا النصرانية في بلاد اليمن على أكثر الروايات، أو في بلاد الحبشة على بعض الروايات".

وذكر أيضًا رحمه الله: "أن القصة التي أشار إليها القرآن الكريم تؤخذ من سيرة ابن إسحاق على أنها جرت في نجران من بلاد اليمن، وأنه كان ملك وهو ذو نواس له كاهن أو ساحر، وكان للساحر تلميذ اسمه عبد الله بن الثامر، وكان يجد في طريقه إذا مشى إلى الساحر صومعةً فيها راهب كان يعبد الله على دين عيسى عليه السلام، ويقرأ الإنجيل اسمه قيميون" ا. هـ.

وهذا يتفق مع الحديث الذي رواه مسلم وغيره عن صهيب رضي الله عنه، وسنذكره قريبًا، إن شاء الله مطولاً، فالحديث الشريف يتناول بداية القصة، وسورة البروج تتناول ختامها، وقبل أن نعرض لتفاصيل ذلك أحب أن نستأنس ببعض البحوث العلمية التي أُعلنت حول هذا الموضوع حديثًا، ففي تصريحات منسوبة إلى مدير إدارة الآثار بمنطقة نجران بالمملكة العربية السعودية الأستاذ صالح آل مربح الذي أعرب عن دهشته من بقاء المدينة والمباني في منطقة الأخدود كما هي منذ حريقها في النصف الأول من الميلاد، ويقول لقد اكتشفت أغرب سِرٍّ خلال عملي والذي قارب عشرين عامًا، ويتمثل في بقاء منطقة الأخدود الأثرية كما هي، فعظام الكائنات التي أُحرقت من بشر وحيوانات لم نجدها في مدافن، وبقيت كما هي في الأخاديد، فراعينا ذلك ولم نضعها في مدافن بعدما أخذنا منها عينات لتحليلها لاكتشاف عمرها الزمني.

وعن جنس البشر الذين كانوا يعيشون هناك، قال هم من جنوب الجزيرة العربية، ولا تختلف ألوانهم وبشرتهم عن القبائل الموجودة حاليًا، وذلك عرفناه من خلال نقوش الأرجل والكفوف التي وجدناها.

وقال: سُمّيَت المنطقة بالأخدود نسبة للحفرة التي أمر الملك الحميري بحفرها وتجميع الحطب بها، وأحرق من اعتنق "المسيحية" التي كانت ديانة جديدة في ذلك الوقت.

وما زالت آثار الحريق بادية في أجزاء المدينة، وعلى جدران مبانيها، ونحاول الآن أن نكتشف الحفرة أو الأخدود الذي تم فيه الحرق عبر عمليات التنقيب، والثابت لدينا أن الحريق كان هائلاً وقويًّا جدًّا؛ حيث أشعل المدينة بكاملها، ومازال رماد الحريق موجودًا إلى الآن، بالإضافة إلى عظام البشر الذين أُحرقوا. ا. هـ.

سؤال وجواب

قد يتساءل البعض ما علاقة القرآن بالحديث عن النصارى؟

وسنُجيب عليه مع سذاجته، فلا يطرحه بهذه الصورة إلا مغرض أو ساذج.

القرآن الكريم كلام الله المنزَّل على رسوله الأمين والمحفوظ بحفظ الله له إلى يوم الدين، والله الذي أنزل القرآن هو ربّ العالمين الرحمن الرحيم، وهو سبحانه يدافع عن الذين آمنوا من لدن آدم إلى أن يقوم الناس لربّ العالمين، يدافع عن الذين آمنوا به وبرسله الكرام، ولم يُفرِّقوا بين أحدٍ من رسله، يدافع عنهم مهما كانت أجناسهم وألوانهم وأماكنهم وأزمانهم؛ فلا فرق عنده سبحانه بين عربي وعجمي إلا بالتقوى.

وهو سبحانه ربُّ الإنس والجن جميعًا، وربُّ الملائكة وربُّ جميع المخلوقات، وهو الله الواحد الأحد الصمد، {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ . وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:3-4]، ونقف عند هذا الحد، وإلى لقاء جديد نستكمل ما بدأناه، وبالله التوفيق، والحمد لله ربّ العالمين.
 

عبد الرازق السيد عيد