حرب الكاسيت .. ومداح الرسول
تصور صراعًا بين "الله والشيطان"، ويأخذ هذا الصراع النّاس وانتزاعها، وينزل الطرفان ميدان "المقامرة" بلعبة "البوكر"، ويتم سحب الورق وتمضي اللّعبة، ويصف المغني كل مراحلها.. إلى أن ينتصر الشيطان ... إلخ.
جاءني مفزوعًا وفي يده شريط الكاسيت لأحد المغنيين الأجانب الذين
يوصفون دائمًا بأنهم "عالميون" وأخبرني الطالب الطيب أنّ هذا الشريط
انتشر بين آلاف من الشبان، والطلاب هواة "الديسكو والأغاني الأجنبية"
هؤلاء الذين يعدون تجسيدًا مؤسفًا للتضليل والتمزق، والتقليد
الأعمى.
استمعت للشريط الذي حمله إلي الطالب.. استمتعت لأغنيتين منه: الأولى
عنوانها: "القطار الأسباني Spaniah Train" والثانية عن "أورشليم وصلاح
الدين الأيوبي" ويعف قلمي عن نقل ما تقوله الأغنيتان، ولكن الواجب
الديني والغيرة القومية تحتمان عليى الإلماح إلى مضمون كل
منهما:
الأغنية الأولى تصور
صراعًا بين "الله والشيطان"، ويأخذ هذا الصراع النّاس وانتزاعها،
وينزل الطرفان ميدان "المقامرة" بلعبة "البوكر"، ويتم سحب الورق وتمضي
اللّعبة، ويصف المغني كل مراحلها.. إلى أن ينتصر الشيطان ...
إلخ.
أما
الأغنية الثانية فتصور صلاح الدين
الأيوبي بصورة "وحش بشري" تستهلكه الخمر، والنساء، بعد انتصاره في
أورشليم.
ومداح الرسول..!!
ولا يستطيع أحد أن ينكر أن هناك "موجة" من هذه الأشرطة التي تسيء إلى
الأديان وتعمل على إهدار القيم الأخلاقية، ومثلها موجة أخرى من أشرطة
الفيديو الساقطة، التي تهرب من الخارج، والتي أصبحت تمثل مصدر ربح
فاحش لتجار الحرام، لا في المدن فحسب، ولكن في الريف أيضًا.
ومن سنوات ظهرت طبقة جديدة من "الفنانين الريفيين" لابسي اللبدة
واللاسة الحرير والجلباب البلدي، وأطلق كل منهم على نفسه ـ دون أن
يستشير أحدًا ـ لقب "مداح الرسول" حتى أصبح هؤلاء المداحون يعدون
بالعشرات، مع أنّه في عصر النبوة والقرآن والطهر والنقاء، والتدين
العميق الصافي لم يكن للرسول من الشعراء إلّا أربعة، أو خمسة أشهرهم:
حسان بن ثابت، وعبد الله بن رواحة، وكعب بن زهير، ولم يكونوا يمدحون
النبي ـ عليه الصلاة السلام ـ إلّا بما فيه دون غلو أو إسراف، كما أنّ
أغلب شعرهم كان منصرفًا إلى الدعوة للعقيدة، والدفاع عنها، والإشادة
بالقيم الإسلامية، كالجهاد والصبر والتقوى، وتعميق هذه القيم في نفوس
النّاس في الحرب والسلام.
فأدب هؤلاء الشعراء إذن كان منصرفًا إلى "الدعوة" أكثر من انصرافه إلى
"شخصية الداعية".
وما قاله حسان بن ثابت ـ وهو أشهر هؤلاء جميعًا ـ في مدح الرسول صلى
الله عليه وسلم ـ لو قسناه بمعيار الكم ـ ما وجدناه إلّا قطرة من محيط
مما قاله المتنبي مثلاً في سيف الدولة الحمداني.
على أنّ شعراء الرعيل الأول ما كانوا يمدحون الرسول إلّا بدافع
الإيمان، والتقوى، والإعجاب بالأسوة الحسنة، والمثل الأعلى، لا بدافع
الحرص على التكسب، وتحصيل المال.
فماذا عن مداح اليوم؟؟ إن أحدًا لا يستطيع أن يزعم أن هؤلاء المداحين
ينشدون ما ينشدونه بدافع من التقوى، والإيمان والتجرد. فالهدف المادي
هو الحافز الأول والاخيرة لكل هؤلاء، أو أغلبهم على الأقل، ومن الأدلة
على صحة هذا الحكم:
1ـ أنّ لهؤلاء أشرطة في مدح الرسول، كما أنّ لهم أشرطة أخرى فيها من
ألفاظ الغزل الفاحش، والجنس الرخيص ما يعد لطمة للخلق والدين. أي
أنّهم جمعوا بين "المدائح" و "الفضائح" وقد نشرت إحدى الصحف الصباحية
صورة أحد هؤلاء على شريط من أشرطة المدح وهو وخلفه صورة الكعبة، ومسجد
الرسول صلى الله عليه وسلم، وتظهر صورة "المداح" نفسه في شريط آخر له،
وبجانبه إحدى الراقصات الكاسيات العاريات وهو يغني لها.
2ـ وأغلب هذه الأشرطة تصدم المسلم فيما عرفه من أمور دينه، وشخصية
نبيه.. إنّها تحاول أن تطمس المعالم الحية في الدين، والملامح
الحقيقية لصورة محمد النبي البشر الذي عانى ما عانى في سبيل نشر
دعوته، وكابد، وحارب، وصابر، وأرشد وعلم، حتى
قال
عنه العباس بن عبد المطلب : "إنّه
ما مات حتى ترك السبيل نهجًا واضحًا: أحل الحلال، وحرم الحرام، ونكح
وطلق، وحارب وسالم. وما كان راعي غنم يتبع بها رؤوس الجبال بأنصب ولا
آداب من رسول الله فيكم".
إسراف وخرافات وأباطيل!!
هذه الصورة الواقعية "لمحمد البشر" مفقودة في أشرطة المداحين ـ سامحهم
الله وخفف عنهم عذاب النّار ـ فلا يسمع في أشرطتهم إلّا عن محمد "كحيل
العين.. أحمر الخدين.. وأنّ جملاً من الجمال أتاه ذات يوم يشكو إليه
صاحبه؛ لأنّه يحمله فوق طاقته، فأحضر النبي صاحبه وأخذ منه عهدًا
وميثاقًا ألّا يعود إلى إيذاء جمله أو تحميله فوق طاقته مرة أخرى، ومن
هذا القبيل أنّه كلم "الحية" وأنّ "الغزال" ناداه وهو في الأسر
ليخلصه، وأنّه قبل الهجرة من مكة أراد أن يختبئ من الكفار وراء "خروف
فتهرب منه وتخلى عنه، فدعا عليه النبي بأن يفضحه الله" فاستجاب له
ربّه، وجاء نسل الخروف كلّه من "المعيز".
والمعروف أنّ "لية" الخروف تستر مؤخرته، أمّا العنز فمكشوف السوأة لقد
أبى الرسول أن يستنزل غضب الله على كفار مكة بل دعا لهم بالهداية "
اللّهم اهد قومي فإنّهم لا يعلمون " فكيف يدعو على خروف لا يعقل؟ وما
ذنب أنثاه ونسله، وهم لم يرتكبوا إثمًا. والقاعدة في الإسلام
{لا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}
.
ولم تتوقف المسألة عند تشويه صورة الرسول بل تجرأ هؤلاء على السنة
النبوية بالتحريف والتشويه، فضمنوا "مدائحهم" أحاديث نبوية بعد أن
حذفوا منها أو أضافوا إليها، أو غيروا وحرفوا من كلماتها الكثير
والكثير.
وعلى سبيل التمثيل:
هناك حديث نبوي شريف خلاصته أنّ أحد المسلمين سأل النبي صلى الله عليه
وسلم عن أحق النّاس بحسن صحبته، ورعايته، فأجابه "أمّك" وكررها
ثلاثًا. فلما سأله في الرابعة ثم من؟ قال "أبوك". ولكن "المداح" حرصًا
منه على أن يكون رجلاً "مودرن" يستبدل بكلمتي الأم، والأب كلمتي
"ماما" و "بابا" فهل أصبح في "ساحة الفن" ما يمكن أن نسميه "فرانكو
حديث" بعد "الفرانكو آراب" و "الفرانكو صعيدي"؟ حقًّا "إذا لم تستح
فاصنع ما شئت".
عود
على بدء..
في المدارس والجامعات والشوارع والبيوت.. في المدن، والقرى هذان
النوعان من الأشرطة الأجنبي المصري، والنوعان ـ للأسف على اختلاف
اللغة، والجنسية، والدين ـ يلتقيان في الأسلوب والأداء الهابط، كما
يلتقيان في التأثير وتحقيق النتيجة السيئة التي تتلخص في تشويه الحق،
والحقيقة، والإساءة إلى الدين، والخلق، والتاريخ العربي
والإسلامي.
فبماذا نفسر هذا الانتشار المذهل لهاتين الموجتين في السنوات
الأخيرة؟
أعتقد أنّ الموجة الأولى تمثيل بارع متقن لوجه جديد من وجوه الغزو
الفكري، أعتمد هذه المرة على الفن بعد أن كان هذا الغزو من قبل على
الكتاب والصحيفة وغيرهما.
والفن هنا يجد وسيلته المثلى في "الشريط المسموع" و "الشريط المرئي"،
وهي وسيلة ميسرة لا يجد إنسان العصر صعوبة في الحصول عليها، وأذكر
القارئ بأنّ المخطط السري الشامل للصهيونية العالمية يتمثل في
"برتوكولات شيوخ صهيون" التي انكشف سترها في مطلع القرن العشرين من
العبارات اللافتة لشيوخ الصهيونية ما جاء في آخر "البروتوكول الرابع
عشر ونصه:
"... وقد نشرنا في كل الدول الكبرى ذوات الزعامة أدبًا مريضًا قذرًا
يغثى النفوس، وسنستمر ـ بعد الاعتراف بحكمنا ـ على تشجيع سيطرة مثل
هذا الأدب".
فهدم القيم والأديان كان وما زال "الرسالة المقدسة" للصهيونية حتى قبل
أن تعرف بهذا الاسم، وقبل أن يتجسد "المبدأ" في "دولة هي إسرائيل"
والمعروف أنّ الأسلوب الصهيوني في مواجهة الأعداء يأخذ "اللون
الاستراتيجي" الذي يراه مناسبًا لتحقيق أهدافه، فمن المعروف تاريخيًا
أنّ اليهود حينما أخفقوا إخفاقًا ذريعًا في مواجهة الإسلام والمسلمين
بالسيف اتبعوا أسلوبًا آخر يعتمد على ركيزتين:
الركيزة الأولى:
التآمر السري ضد الخلفاء والمجتمع الإسلامي، وأصابع
الاتهام تشير إلى مسئولية عبد الله بن سبأ اليهودي وجماعته عن دم
عثمان وعلي ـ رضي الله عنهما ـ.
الركيزة الثانية:
التسميم الفكري: بدرس الإسرائيليات، والخرافات، والأساطير، في كتب
التفسير، والعقائد، والتاريخ الإسلامي.
ما
أشبه الليلة بالبارحة...
وما يحدث الآن لا يختلف كثيرًا عما كان يحدث من قرونً إلّا في استغلال
الفن والتقنية العلمية على أوسع مدى: ومن الشواهد على ذلك:
1ـ في سنة 1975 قامت إسرائيل بطبع أكثر من مليوني مصحف باللغة
بالعربية طباعة فاخرة، ووزعتها على المسلمين في دول العالم الثالث،
وخاصة غرب أفريقيا بعد أن حرفت في كثير من الآيات، وحذفت عشرات من
الآيات التي تفضح بني إسرائيل وتكشف عن عصيانهم وإجرامهم في قتل
الأنبياء، وتحريف كلمات الله.
2ـ وفي لندن وكثير من المدن الأوروبية والأمريكية محلات كبرى تبيع
"الميوهات" الحريمي والرجالي، وقد كتب عليها بالعربية لفظ الجلالة أو
"محمد" أو عبارة "لا إله" دون تكملة.
3ـ ثم كان هذه الموجة من الأشرطة التي تسربت إلى أيدي الشباب المصري
والعربي لضرب الأديان والخلق والقيم.
والموجة الثانية؟؟
ولا أجد تعليلاً لانتشار موجة أشرطة المدائح إلّا في "غيبة الوعي
الديني" من ناحية، وشعور النّاس في المدن والريف ـ وخصوصًا الشباب -
بفراغ ديني هائل من ناحية أخرى: قائمة المساجد "العلماء" قل بل ندر
وجودهم. وإمامة المسجد أصبحت وظيفة رسمية تخضع خضوعًا كاملاً للروتين،
والأوامر الإدارية. وخطب الجمع على مستوى الدولة تخضع للمركزية .
وبقيت أزمة "الإمامة" مظهرًا من مظاهر أزمة الثقافة التي نعيشها في كل
الميادين. ومع غيبة الوعي الديني.. ومع الشعور الحاد بالفراغ الديني
يبقى لشعبنا الطيب "عاطفة دينية قوية" تحكمها الحماسة، والتوقد حتى لو
فقدت الرشد، والتبصر في بعض الأحيان .. هذه العاطفة هي التي دفعت
النّاس وخصوصًا الريفيين إلى الجري وراء كل ما يحمل ذكر الله أو ذكر
الرسول، وهذا هو من رواج هذه الأشرطة على ما فيها من تشويه للدين
والسيرة؛ لأنّ اكتشاف ذلك لا يتحقق إلّا "بالوعي الديني".
وأقول لهؤلاء المداحين أنّكم بالسذاجة أو بحسن النية أو بالحرص على
الكسب الفاحش السريع ـ قد جندتم أنفسكم ـ من حيث لا تشعرون ـ لخدمة
أهداف الصهيونية العالمية، وبروتوكولات شيوخ صهيون، بتشويهكم سيرة
الرسول صلى الله عليه وسلم وعدوانكم بالتحريف على سننه.
وأخيرًا: أين الرقابة؟!
نعم: أسائل المسئولين: ألا يدخل ذلك في نطاق "العيب" أم أنذ الإساءة
إلى الرسل، والأديان، والأخلاق لا يعد "عيبًا" وخدشًا "للقيم"؟ أليس
هناك "رقابة" على هذه الأشرطة؟ أم أنذها مرت بالرقابة فرأت أنذها "لون
رفيع من الأدب والفن"؟!. وفي حالتي الغفلة والإجازة أردد مع الشاعر
قوله:
إن
كنت لا تدري فتلك مصيبة أو كنت تدري فالمصيبة أعظم
.
لقد خرج أحد الممثلين على "النص" في عبارة أو عبارتين، فقامت الدنيا
ولم تقعد، وانشغلت به الصحافة القومية وغير القومية. وإنّي أتساءل:
وهذا الفيض الزاخر من السقوط المتمثل في الأشرطة التي فصلت القول فيها
ألا يعد "خروجًا" يوجب الزجر، والمنع، والمساءلة، والمحاكمة
والعقاب؟
Komeha@Menanet.net
د. جابر قميحة
- التصنيف: