المكر

منذ 2014-03-14

لماذا يحتاج الكبير القوي ممن تولى أمر الناس ومكنه الله من أمرهم إلى المكر؟! لماذا يلجأ إلي الحيلة والتبييت في خفية حتى لا يكشف أمره؟! فهذا ينافي خلق الأكابر والأشراف، ومادام يفعل ذلك فاعلم من أول الأمر أنه ضعيف التكوين؛ لأنه لو لم يعلم ضعف تكوينه لما مكر لأن القوي لا يمكر أبداً، بل يواجه

قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [الأنعام:123].

لماذا يحتاج الكبير القوي ممن تولى أمر الناس ومكنه الله من أمرهم إلى المكر؟! لماذا يلجأ إلي الحيلة والتبييت في خفية حتى لا يكشف أمره؟! فهذا ينافي خلق الأكابر والأشراف، ومادام يفعل ذلك فاعلم من أول الأمر أنه ضعيف التكوين؛ لأنه لو لم يعلم ضعف تكوينه لما مكر لأن القوي لا يمكر أبداً، بل يواجه، ولذلك يقول الشاعر:

وضعيفة فإذا أصابت فرصة *** قتلت كذلك قدرة الضعفاء

فالمكر يدل على ضعف الماكر، والضعيف عندما يملك فهو يحدث لنفسه بأن هذه الفرصة لن تتكرر، فيجهز على خصمه خوفاً من ألا تأتي له فرصة أخرى، لكن القوي حين يأتي لخصمه فيمسكه ثم يحدث نفسه بأن يتركه، وعندما يرتكب هذا الخصم حماقة جديدة فيعاقبه.

إذن فلا يمكر إلا الضعيف. والحق سبحانه وتعالى في هذه المسألة يتكلم عن المجرمين من أكابر الناس، أي الذين يتحكمون في مصائر الناس، ويفسدون فيها ولا يقدر أحد أن يقف في مواجهتهم.

والمكر صفة زم لا تليق بمن آمن بالله ورسوله وتخلق بآداب القرآن وسنة حبيبة، فما معنى المكر؟

 

المكر لغة:

المكر مصدر قولهم مكر به يمكر، وهو مأخوذ من مادّة (م ك ر) الّتي تدلّ على الاحتيال والخداع (المقاييس [5/ 345]).

المكر: احتيال في خفية، قال الله تعالى: {وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [النمل:50].

يقول الماوردي: أصل المكر: الالتفاف، ولذلك سمي الشجر الملتف مكراً، والمكر هو الاحتيال على الإنسان لالتفاف المكروه به. والفرق بين المكر والحيلة أن الحيلة قد تكون لإظهار ما يعسر من غير قصد إلى الإضرار، والمكر: التوصل إلى إيقاع المكروه به (النكت والعيون [48] [1/396]).

المكر اصطلاحًا:

إيصال المكروه إلى الإنسان من حيث لا يشعر (التعريفات للجرجاني [245]).

قال السيوطي: المكْر: ما يَقْصد فَاعله في بَاطِنه خلاف ما يَقْتَضِيه ظَاهره (مقاليد العلوم في الحدود والرسوم [207]).

وقال الرَّاغب: المكْر: صرف الغير عمَّا يقصده بحيلة (المفردات في غريب القران [772]).

 

مكر الله عز وجل:

وأمّا المكر الّذي وصف به نفسه فهو صفة فعل حقيقيّة على ما يليق بجلاله {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى من الآية:11]، ومعناه مجازاته للماكرين بأوليائه ورسله، فيقابل مكرهم السّيّىء بمكره الحسن، فيكون المكر منهم أقبح شيء، ومنه أحسن شيء، لأنّه عدل ومجازاة، وكذلك المخادعة منه جزاء على مخادعة رسله وأوليائه، فلا أحسن من تلك المخادعة والمكر (الفوائد لابن القيم [213]).

وقال الجرجانيّ: المكر من جانب الحقّ تعالى هو إرداف النّعم مع المخالفة، وإبقاء الحال مع سوء الأدب وإظهار الكرامات من غير جهد.

وقال الكفويّ: مكر الله: إمهال العبد وتمكينه من أعراض الدّنيا (التعريفات [245]، والكليات [771]).

سئل بعض المحققين عن مكر الله فأنشد:

ويقبح من سواك الشيء عندي *** وتَفْعَلُه فيحسن منك ذاكا

فإذن مكر الله قد يكون تارة فعلًا يُقصد به مصلحة، ويكون تارة جزاء المكر، ويكون تارة بأن لا يقبِّح مكرهم في عينهم، وذاك بانقطاع التوفيق عنهم وتزيين ذلك في أعينهم، حتى كأنه زيَّنه في أعينهم ومكر بهم، ويكون تارة بإعطائهم ما يريدون من دنياهم. فإذا أعطاهم واستعملوه على غير ما يحب، فكأنه مكر بهم، واستدرجهم من حيث لا يعلمون، ولأجله قال: {وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} [الرعد:13].

فأمنته فأتاح لي من مأمني *** مكرا، كذا من يأمن الأحبابا

 

الأمن من مكر الله

قال تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99].

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: أفأمن، يا محمد هؤلاء الذين يكذّبون الله ورسوله، ويجحدون آياته، استدراجَ الله إيّاهم بما أنعم به عليهم في دنياهم من صحّة الأبدان ورخاء العيش، كما استدرج الذين قصَّ عليهم قصصهم من الأمم قبلهم، فإنّ مكر الله لا يأمنه، يقول: لا يأمن ذلك أن يكون استدراجًا، مع مقامهم على كفرهم، وإصرارهم على معصيتهم {إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} وهم الهالكون.

قال عبد الله بن مسعود: أكبر الكبائر: الإشراك بالله، والإياسُ من رَوْح الله، والقنوط من رحمة الله، والأمن من مكر الله.

فالخسران كل الخسران لمن ظلم فقتل وعذب وأكل أموال الناس بالباطل وخاض في الأعراض...وزين له شيطانه سوء عمله فرآه حسنا، فنبشر ذلك الماكر بأنه من الخاسرين {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر:43]، فلا يغرن الظالم حلم الله عليه ولا يحسب إقبال الدنيا علية وفلاحة في حيلته الماكرة بأنه أمن مكر الله إنما يستدرجهم من حيث لا يعلمون {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف:183].  

 

حكم المكر:

ذكر الذّهبيّ وابن حجر أنّ المكر السّيّىء من الكبائر، وقد احتجّ الذّهبيّ بقوله تعالى: {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر:43]، وبقوله صلّى الله عليه وسلّم «المكر والخديعة في النّار» (الألباني (السلسلة الصحيحة [1057])، أمّا ابن حجر فقد عدّه من كبائر الباطن، التي يذمّ العبد عليها أعظم ممّا يذمّ على السّرقة والزّنا ونحوهما من كبائر الظّاهر، وذلك لعظم مفسدتها وسوء أثرها ودوامه؛ لأنّ آثار هذه الكبائر الباطنة تدوم، بحيث تصير حالا وهيئة راسخة في القلب.

وروى عمرو بن دينار أنَّه قال: "قال قيس بن سعد: لولا الإسلام لمكرت مكرًا لا تطيقه العرب.

 

المكر بالأنبياء والمرسلين

-المكر بنبي الله صالح

قال تعالى: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ . فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ} [النَّمل:50-51].

دبَّروا أمرهم على قتل صالح وأهله على وجه الخُفْية حتى مِن قومهم خوفًا مِن أوليائه، {وَمَكَرْنَا مَكْرًا} بنصر نبيِّنا صالح عليه السَّلام وتيسير أمره، وإهلاك قومه المكذِّبين، {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}، {فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ}. هل حصل مقصودهم، وأدركوا بذلك المكْر مطلوبهم أم انتقض عليهم الأمر؟ ولهذا قال: {أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ} أهلكناهم واستأصلنا شأفتهم، فجاءتهم صيحة عذاب، فأهلكوا عن آخرهم (تيسير الكريم الرحمن[606]).

-المكر بنبي الله يوسف

مكر أخوة يوسف بأخيهم: قال سبحانه: {قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} [يوسف:5].

فوقع منهم المكر بأخيهم، فأظهره الله عليهم ومكن له في الأرض فما كان منه إلا أن قال: {قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:92].

مكر امرأة العزيز بيوسف عليه السلام قال تعالى حكايةً عن امرأة العزيز: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} [يوسف:52].

-المكر بعيسى عليه السلام

لما مكر اليهود بعيسى عليه السلام فأنجاه الله تعالى من مكرهم بإلقائه شبَه عيسى على بعض أتباعه حتى قتله الماكرون بعيسى، وهم يحسبونه عيسى، وقد رفع الله عز وجل عيسى قبل ذلك {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء:157].

المكر بالنبي صلى الله عليه وسلم

{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30].

فهاهم أولاء قد اتفقوا على قتلة قبل الهجرة، ويقفون على باب بيته، ويخرجه الحق من بينهم وهم لا يبصرون، ولا يفلحون في التآمر على رسول الله، ولا ينجح لهم تبييت ضد رسول الله، ويكون مكر الله فوق كل مكر يريد به أعداء الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إيذاءه به. وهم قد ذهبوا إلى الجن ليسحروا له، لكن لا هذا السحر قد نفع، ولا ذاك التبييت أتى بنتيجة، وكانت تكرمة الله لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فوق كل شيء.

 

المكر بعباد الله

قال عزَّ وجلَّ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ}[الأنعام: 123].

ففي كل عصر ومصر يمكر أهل الباطل بأهل الحق ويجندون لذالك كل ما أتوا من قوة مادية ومعنوية فينفقون الأموال فتكون عليهم حسرة بإذن الله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال من الآية :36]، ويسحرون الأعين والآذن فيهيأ الله داعي الخير في كل حين ليلَّقف ما صنعوا {إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طـه:69].

قال الشَّاعر:

لم يبقَ في النَّاسِ إلَّا المكرُ والملَقُ *** شوكٌ إذا اختبروا زهرٌ إذا رمقوا

فإن دعاك إلى ائتلافِهم قَدَرٌ *** فكن جحيمًا لعلَّ الشوكَ يحترقُ

المكر لا يفلح وإن علا وانتفش والحق ظاهر وإن دق وانكمش، فسبحانه القائل: {كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ ورسلي} [المجادلة من الآية:21]، وهو القائل: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون} [الصافات:171- 173].

{وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا} [فاطر:43] ،فالله تعالى منجي المؤمنين والصالحين من مكر الماكرين فالله يدافع عن عباده الصالحين.

قال ابن القيِّم: "إنَّ المؤمن المتوكِّل على الله إذا كاده الخَلْق، فإنَّ الله يكيد له وينتصر له بغير حول منه ولا قوَّة"، وقال: أنَّ مَن كاد غيره كيدًا محرَّمًا فإنَّ الله سبحانه وتعالى لا بدَّ أن يكيده، وأنَّه لا بدَّ أن يكيد للمظلوم إذا صبر على كيد كائده وتلطَّف به".

قال تقي الدِّين الهلالي:

وليس يحيقُ المكْرُ إلَّا بأهلِه *** وحافرُ بئرِ الغَدْرِ يسقطُ في البئرِ
وكم حافرٍ لحدًا ليدفنَ غيرَه *** على نفسِه قد جَرَّ في ذلك الحفرِ
وكم رائشٍ سهمًا ليصطادَ غيرَه *** أُصِيب بذاك السَّهمِ في ثغرة النَّحرِ

 

وسائل النَّجاة مِن مكر الماكرين وكيد الكائدين

1- الصَّبر والتَّقوى: 

{إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [آل عمران: 120].

2-إخفاء النِّعمة التي رزقك الله بها عن أعين الحاسدين:

كما قال يعقوب ليوسف عليهما السَّلام: {قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} [يوسف: 5].

3- دعاء الله عزَّ وجلَّ بصدق وإخلاص:

كما قال يوسف عليه السَّلام: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ . فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [يوسف:33-34].

4- التَّوكُّل على الله عزَّ وجلَّ:

قال تعالى عن نبيِّه هود عليه السَّلام وقومه: {إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللّهِ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ . مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ . إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [هود:54-56].

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام

محسن العزازي

كاتب إسلامي