فتنة القول بجواز الاختلاط (2/2)

منذ 2014-03-30

كشّر دعاة الليبرالية عن أنيابهم، وأماطوا اللثام عن وجوههم الحقيقية، وتبيّن إفلاس تلك المبادئ البرّاقة، وانكشف زيف الشعارات التي صمّوا بها آذاننا، ومجّوا بها أفئدتنا؛ فأين هم عن دعاوى الحرية، واحترام وجهات النّظر المخالفة، وتقبُّل الرأي الآخر؟! وغيرها من شعاراتهم الزائفة، لقد أثبتت هذه الأحداث بما لا يدعُ مجالاً للشكّ أن القوم مجرّد أدعياء.

كنتُ قد سطّرتُ في مقالةٍ سالفةٍ؛ بعنوان (فتنة القول بجواز الاختلاط (1/2) مواقف النّاس إبّان فتنة القول بجواز الاختلاط، وما انقسمت إليه النُّخَبُ العلميَّةُ والفكريَّة والثقافيَّة في البلاد، ومن المُناسب لتكتمل صورة هذا المشهد أن نُعْقِب هذه الصفحة بصفحةٍ أخرى، نُسوّد فيها الدروس والعبر التي اُستُفيدتْ من هذه الفتنة، لتكون موعظةً للعقلاء ودرساً للأجيال، وعبرةً للمعتبرين.. لن أُطيل في التّقْدُمة والتّوطئة لهذه الدروس، وأشرع في ذكرها على وجه الإجمال، وأعتذر مقدّماً عن سهو اليراع أو الإغفال، لكونها عفو الخاطر قريبة المأخذ، سريعة التسطير، وإن شئت فقل: "رأيٌ فطير"!

فمن هذه العبر:
أولاً: بُطْءُ المشاريع التغريبية التي يُراد تمريرها على أهل هذه البلاد؛ لا يعني عدم تنفيذها، وإنَّما القوم يمشون رويداً رويداً حتى يصلون، ومن عجيب ما يُذكر أنّني وقعتُ على تعقيبٍ نشره سماحة الشيخ الإمام ابن باز في (مجلّة البحوث الإسلامية، عدد:15، ص:6) على أحد دعاة الاختلاط، اقرأهُ -غيرَ مأمورٍ- لترى قِدم هذه الدعوات، فقد نُشر تعقيب سماحة الشيخ في ربيع الأول عام 1406هـ، أي قبل خمسةٍ وعشرين عاماً بالضبط! فتأمّل..

ولكأنّي بالقوم يسُوسُون مشاريعهم بقاعدة: (ليس المهم أن تكون الأسرع، بل المهمّ أن تصل!).
ثانياً: أعادت هذه الفتنة لعلماء الأمّة الصادقين الناصحين (ولا أعني بالضرورة الرسميين) مكانَتَهم اللائقة بهم، فلقد اصطفَّ الشَّبَبة المحتسبون خلف شيوخهم، منْضَوين تحت رايتهم، مدافعين عنهم صامدين معهم ضدّ هجمات الصحف (مبعثرة الولاء)، ولقد أذن فجرُ الفتنة بميلاد علماء وطلاب علمٍ وقفوا وقْفة صدقٍ مشكورةٍ ضِدَّ تمرير هذه الفتنة، أو حتّى إضفاء الشرعية عليها، ومحاولة التغاضي عنها، استجابةً للميثاق العظيم الغليظ: {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران:187].

ثالثاً: تبيّنت حقيقة المناصب في هذه الفتنة؛ حيث تابع الجميع مداخلاتٍ مدخولة من ثلّةٍ معيّنة؛ كان الدافع وراء استجلاب حديثهم هو تلك المناصب الرسمية، والتي يستوي فيها الذين يعلمون والذين لا يعلمون، وكان حديثهم حينها إنشائيّاً بارداً، اكتفى بتسويغ المنكر الحاصل، وتطعيمه بانتقاص العلماء المحتسبين، ومشايخنا الغيورين -وفقهم الله وسدّدهم-، ولقد نسيَ أولئك أو تناسَوا أن للحقِّ نوراً يُلبسه الله إيّاه، يراه أهل الإيمان ببصائرهم التي رزقهم الله تعالى إيّاها.

رابعاً: تجلّت في هذه الفتنة سنّة الله تعالى في أوليائه من علماء الصدق والنصيحة وحسن البيان، حيث جرت سنته واقتضت حكمته أن يبتلي عباده ويمحّص قلوبهم، فكان أنْ ضحّى بعضهم بمنصبه الذي أُبعِد عنه، أو عرضه الذين صار كلأً مباحاً لزوّار السفارات، ومراهقي الكتابات الورقية، وكان في هذا خير درسٍ وعبرةٍ للنّاس في سلوك سبيل أهل الإيمان: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2].

خامساً: ظهور حقيقة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فلقد استوعب النّاس بجلاء كُنْه هذه الشعيرة، وغايةُ مُراد الله تعالى منها، حيث المراد: (الإعذار إلى الله تعالى) بالدرجة الأولى، ثمّ بعد ذلك: تغيير الواقع المُخالف ما أمكن، وهو مصداق قول الحقّ تبارك وتعالى في محكم آي الكتاب: {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأعراف:164]، قال الشيخ السعدي رحمه الله في تفسير هذه الآية: "وهذا المقصود الأعظم من إنكار المنكر؛ ليكون معذرةً، وإقامة الحجة على المأمور والمنهي، ولعل اللّه أن يهديه، فيعمل بمقتضى ذلك الأمر والنهي".

سادساً: ظهور أَثَر المواقع الدعوية والإخبارية على الشبكة العنكبوتية، حيث وسّعت نطاق التأثير على الرأي العام وقادتْه خلال هذه الفتنة، حيث كان الرأي قبلها حبيساً لصحائف الجرائد الورقية، وكان كتّابها هم لسان المجتمع النّاطق -والخائن في أغْلبِه للأسف- ولكن بحمد الله سُحِب البساط من تحتها بفضل الله تعالى ثمّ بفضل هذه المواقع الإخباريّة والدّعوية، فقد كانت نِعْم المتنفّس للمشايخ المحتسبين، والدعاة الغيورين، ولا أدلّ على تأثيرها من الحجب الذي تكرّر عليها من قبل بعض الجهات، وينضاف لذلك تلك الهجمة الشرسة من بعض كتّاب الصحف، ومن ساندهم من إخوانهم ورفاق ملّتهم من العاملين في بعض القنوات الفضائية المشبوهة.

سابعاً: تمايُزْ الخندقين، وانجلاء الغطاء عن الوجه الحقيقي لأفراد الفريقين؛ وهما خندق أهل الإيمان والغيرة والاحتساب، وممانعة المنكرات، وصد الباطل المعاصر بكلّ وسيلةٍ مشروعة من أهل العلم والدعوة، وخندق دعاة الشهوات وأدعياء الإصلاح والتنوير -زعموا-، ومن وقف بصفّهم ممّن انتسب لأهل العلم، أو شَرُف بشمّ رائحته، فلقد كانت هذه الفتنة -بطبيعة الحال- لم تدَعْ مجالاً لأنصاف الحلول، أو لذوي الألوان الرمادية، فليس ثَمَّة إلا لونٌ أبيضٌ ناصع، وآخر أسودٌ قاتم.

ثامناً: اتّضاح الصورة الحقيقية التي صنعتْ من السّياسي (نبيّاً معصوماً) لا يُخطئ، ولا ينبغي له أن يفعل، فلا يُنال من قراره أو يُراجع فيه، ولا ينبغي أن يوجّه له النصح، أو يبيّن له الخطأ، والطريف في الأمر: أنّ هذا الأمر هو في حقيقته مخالفٌ لما أراده رأس الهرم السياسي (خادم الحرمين الشريفين) حيث لا زال يستنصح العلماء، ويستشير العقلاء، ويستنير بآراء ذوي الخبرة.. وهذا ما ينبغي أن يعيَه النّاس ويدركونه جيّداً.

تاسعاً: كشّر دعاة الليبرالية عن أنيابهم، وأماطوا اللثام عن وجوههم الحقيقية، وتبيّن إفلاس تلك المبادئ البرّاقة، وانكشف زيف الشعارات التي صمّوا بها آذاننا، ومجّوا بها أفئدتنا؛ فأين هم عن دعاوى الحرية، واحترام وجهات النّظر المخالفة، وتقبُّل الرأي الآخر؟! وغيرها من شعاراتهم الزائفة، لقد أثبتت هذه الأحداث بما لا يدعُ مجالاً للشكّ أن القوم مجرّد أدعياء، لا وجود على أرض الواقع لدعاويهم، والدعاوى إنْ لم يُقيموا عليها بيّناتٍ أصحابها أدعياء!

عاشراً: انكشاف حقيقة الرّموز المزيّفة التي صُنِعتْ تحت ضغط الإعلام والواقع، والاغترار بالمظاهر، وجمال المنطق وسبْك العبارة، والمراوغة في الجواب، أو سمّه إن شئتْ (الدبلوماسيّة الدعوية)، فهم مع الأسف الشديد لم يُرَ منهم وقفةٌ تسرّ الصديق، وتغيظ العدا، ويشكرها الربّ تعالى.

أضع اليراع عند هذا الحدّ، وأكتفي من القلادة بما أحاط بالعنق، والحرّ تكفيه الإشارة، وكم تغني الإشارة عن كثيرٍ من العبارة.. وأحسبُ أنّي كتبتُ على طاقتي وبذلتُ وُسْعي في تسطير هذه العبر، وقد جعلتها عشرة عبر {..تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ..} [البقرة:196]، فأسأل الله جلّت قدرته أن ينفع بها، ويجعلها خالصةً لوجهه الكريم.

 

الشيخ: محمد بن عبد الله البقمي

المصدر: الدرر السنية