{لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} (3) - (10) التوحيد واعتزال مواطن الفساد
أخذ العبرة من قصة أصحاب الكهف ومعرفة أسباب نجاتهم التي منها التوحيد والإيمان وحسن التربية، والاعتزال...
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته...
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين... أما بعد:
فنواصل مع هذه القصة العجيبة، مع قصة أصحاب الكهف، والعبرة ليست في أن نقف مع تفاصيل القصة، وإنما نأخذ منها العبر كما قال الله جل وعلا عن قصة يوسف عليه السلام مع أبيه وإخوانه {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ} [يوسف من الآية:111]، نريد أن نلتمس هذه العبرة من هؤلاء الفتية وكيف نجوا؟
فيها منهج للدعاة، فيها منهج للصالحين، فيها منهج للأخيار، أحاول في هذه الحلقة وما بعدها أن أقف مع أهم العبر والدروس، التي إذا سلكناها نجونا من أي فتنة بإذن الله لأن الله جل وعلا ذكر هذه السورة من أجل أن نستفيد منها فهي محكمة كما ذكر العلماء، أي يُعمل بها، وما قرئت يوم الجمعة إلا لحكمة عظيمة تضيء لنا نورًا، تعالوا نتلمس هذا النور، مع الأجر العظيم في قراءتها.
{فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ} [الكهف من الآية:16]، أعظم وسيلة كانت سببًا في نجاتهم هو التوحيد، فهم موحدون لله، وما من نبي إلا ودعا قومه إلى التوحيد {وَرَبَطْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَـٰهًا ۖ لَّقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} [الكهف:١٤] قمة التوحيد، قمة الإخلاص.
الدعوات تعم العالم الإسلامي وفيها خير كثير ولكن تتفاوت في قوة دعوتها إلى التوحيد، ولذلك تلاحظون أن آثار كثير من الدعوات والجماعات ضعيفة، بمقدار بعدها عن التوحيد، والبعض يتصور أنه إذا دعا الناس إلى التوحيد وجمعهم على التوحيد فرقهم! وهذا غير صحيح.
قرأت قصة جميلة وعجيبة لشيخنا العلامة الشيخ محمد بن إبراهيم مفتي الديار السعودية رحمه الله، أرسلت له جامعة الدول العربية قبل سنوات قديمة ملفًا، إن جامعة الدول العربية بحكم مسؤوليتها عن الدول العربية، تريد أن تعقد مؤتمرًا لنقاش توحيد الأهلة بين الدول العربية في رمضان، لأنكم تلاحظون أحد يصوم اليوم الفلاني والثاني يصوم الذي بعده أو قبله، نريد أن نوحدهم في يوم واحد، ونريد رأيك يا شيخ فيما كتب، وأن ترسل مندوبًا يشارك في هذا المؤتمر.
انظروا كيف ردّ عليهم هذا الإمام العلامة الفقيهة، ماذا قال؟
قال لهم: "اختلاف الرؤية قديم، من وقت الصحابة -اختلاف مطالع الأهلة- ليس مشكلة، لكن إن كنتم جادين في جمع الدول العربية فاجمعهم على لا إله إلا الله، أحوج ما تحتاج إليه الأمة العربية والإسلامية على أن تجمع على لا إله إلا الله، ومحمد رسول الله، لا أن تجمع على توحيد الأهلة، أو المواقف السياسية".
منذ كم أنشئت جامعة الدول العربية؟ الآن لها قرابة أكثر من 65 عامًا، هل رأيتم أو علمتم عن مؤتمر لجمع الناس على لا إله إلا الله في الدول العربية، وأن من يخالف ذلك سيعاقب بكذا وكذا؟!
نرى قرارات تصدر من الدول العربية، سياسية، اجتماعية، اقتصادية، وقد يرتب عقوبات على من يخالف هذه القرارات، من أي دولة من الدول، لكن رأيتم أنها عقدت مؤتمرات من أجل لا إله إلا الله، أتمنى أن يكون هذا حدث، كما طالب الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله.
الأنبياء جميعًا يدعون إلى لا إله إلا الله، فهؤلاء الفتية أعلنوا التوحيد وقالوا أي خروج عن التوحيد {لَّقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} [الكهف من الآية:١٤] أي لو قلنا مع الله غيره، فهذا شطط، ولا يجوز، فأنجاهم الله هذه من أسباب نجاتهم.
{وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّـهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ} [الكهف من الآية:١٦] فعبادتهم لله صادقة، خالصة.
ثانيًا من أسباب نجاتهم، قوة الإيمان {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف من الآية:13]، إيمان وهدى.
{وَمَن يُؤْمِن بِاللَّـهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن من الآية:11] الإيمان يأتي بالإيمان، فهؤلاء معهم الإيمان، معهم التوحيد يقول الله جل وعلا: {وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف من الآية:13] فبالإيمان نجو.
حسن التربية: تربيتهم حسنة جميلة، فكان اعتزالهم أولًا اعتزال معنوي، قب الاعتزال الحسيّ {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّـهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ} [الكهف من الآية:١٦] إذًا عندنا اعتزالان؛ الاعتزال السابق، والاعتزال اللاحق، الاعتزال اللاحق كان ثمرة للاعتزال السابق.
ما هو الاعتزال السابق واللاحق؟
كانوا مع قومهم، في مجتمعهم في مدينتهم، في قريتهم لكنهم معتزلون، لما عليه أهلهم من شرك، من كفر، من معاصي، هم معهم بأبدانهم مع أهلهم، مع والديهم، في بيوتهم، في مجتمعهم، لكن قد اعتزلوهم، {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّـهَ} [الكهف من الآية:١٦]، أي: إذ اعتزلتموهم وعبادتهم لغير الله، فكانوا في داخل المدينة قد اعتزلوا قومهم في أي شيء يغضب الله، من كفر، من معاصي، من غيرها، هذا موضوع مهم جدًا، أهم من الاعتزال -الثاني- الحسي، وهو الذي أووا إلى الكهف كيف؟ اليوم المجتمعات تعيش معاصي وآثام قد يصل في بعض المجتمعات المسلمة إلى الشرك! كما هو مشاهد وأشرت إلى بعضه في حلقات ماضية.
لا نقول لكل من كان صالحًا أو ملتزمًا، اخرج عن قومك! لا، نقول اعتزل ما هم عليه، كما فعل هؤلاء الفتية {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّـهَ} [الكهف من الآية:١٦] والذي يعبدونه من دون الله، فكل معصية فهو خروج عن أمر الله، اعتزل قومك، في أفراحهم، في أتراحهم، حتى الآن الوفيات مع كل أسف، فيها بدع، كما في كثير من بلاد المسلمين الزواجات الآن أصبح فيها معاصي ظاهرة.
هل معناه أن الإنسان لا يشارك إطلاقًا؟
لا، في توسط تختلف المعاصي، وتختلف المجتمعات، ويجب أن يتعامل بالحكمة وقول كلمة الحق، لكنه لا يشارك فيها، {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام من الآية:68].
لاحظوا الآن بعد الإفطار، في بعض بيوت المسلمين -هداهم الله- بعد أن صاموا يومهم، وأفطروا، وحمدوا الله على هذه النعمة، تبدأ بعض المسلسلات والآثام، إلى آخر الليل، تتفنن بعض القنوات الفضائية بما حرّم الله، (طاش ماطاش) وأمثال هؤلاء، وتمثيليات ماجنة، باطلة.
ماذا يفعل الشاب الصالح؟
قد لا يستطيع أن يغيّر واقع بيته، لكن عليه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحكمة مع والديه، مع إخوانه، مع زملائه.
ماذا تفعل الفتاة؟
نقول اعتزلهم، كيف تعتزلهم؟ يخرج من المدينة؟! يخرج من البيت؟! لا، لا، اذهب إلى غرفتك، لا تجلس معهم، ما دام هناك محرم، لا تجلس، {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} [الأنعام من الآية:68].، في بعض ما يحدث في بعض حلقات (طاش ما طاش)، والله إنه خوض في آيات الله، استهزاء بالصالحين والأخيار، لا يجوز الجلوس، مع كل أسف، حتى بعض الأخيار، يجلسون ويشاهدون، ولا ينكرون، ثم يقولون وهم يضحكون "شف" ماذا فعلوا؟.. لماذا تجلس؟!
إذا كان لما بعض المنافقين في تبوك، نالوا من الصحابة، واحد من الصحابة ليس معهم، (فقط) ضحك، ماذا قال الله جل وعلا؟، {لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ۚ إِن نَّعْفُ عَن طَائِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً} [التوبة من الآية 66] من اللذين عفا الله عنهم؟، هو واحد من الصحابة -ليس من المنافقين- "فقط" ابتسم، لما قالوا ما رأينا مثل قراءنا هؤلاء، ولمزوا الصحابة قال الله: {قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}، هذا الذي ابتسم وذهب يعتذر، قبل الله عذره، أما أولئك، فلا، إلا لو تابوا توبة نصوحًا.
إذًا الاعتزال يكون حسيًا ومعنويًا، لا يعني أن تخرج من البيت أو تخرج من المدينة.
أما الاعتزال النهائي، فهذا لم يأت وقته اليوم، أولئك كان عليهم ضغط {إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ} [الكهف من الآية:20] إذا وصلت الحال في بعض بلاد المسلمين إلى هذه الحالة، فيجوز الهجرة منها، نعم يوجد هذا في بعض بلاد المسلمين، فيبرر لهم الخروج من بلادهم.
لكن في كثير من بلاد المسلمين، لا، يقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحكمة وصبر، ويتحمل، وهو من الغرباء، له أجر خمسين أو سبعين من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، إذا هذا هو فقه الاعتزال كما فهمه هؤلاء الفتية.
هؤلاء الفتية يعلموننا وهم شباب (فتية) وذكر الله قصتهم لنعتبر ونتعلم، ولذلك نجو المرة الأولى، ونجو ثانية.
ومن ذلك هو ما يتعلق بالعبادة ومفهوم {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّـهَ} [الكهف من الآية:١٦] إذًا هم يعبدون الله وهذا شهر خير، شهر رمضان المبارك، علينا أن نتوجه إلى العبادة -أيها الإخوة- العبادة الحقيقية، لأنه قد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: « »، الهجر: القتل، انظروا اليوم الأخبار.
قتل هناك هكذا وهنا كذا .. فالعبادة كهجرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وفي السنن: «وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّـهَ} [الكهف من الآية:١٦] فهم يعبدون الله جل وعلا ويعلموننا العبادة، فنحن في هذا الشهر نتوجه إلى الله جل وعلا من أجل أن ينجينا الله من الفتن.
» اليوم فتن متلاطمة، ما الحل؟ من الحلول، العبادة {والعبادة عظيم أثرها في النجاة من الفتن الظاهرة والباطنة، فلنتوجه إلى الله جل وعلا وبخاصة في هذا الزمان المبارك، في شهر رمضان، فالعبادة تشرف بشرف الزمان والمكان والحال والمحل.
بهذا نوفق بإذن الله، وبهذا ننجو، الدروس كثيرة والعبر أكثر، مع الحلقة القادمة بإذن الله.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ناصر بن سليمان العمر
أستاذ التفسير بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض سابقا
- التصنيف:
- المصدر: