أنت لست صغيرًا
اعلم أن المرء بأصغريه، بقلبه ولسانه، فإذا رزق الله العبد لسانًا لافظًا وقلبًا حافظًا؛ فقد استحق الكلام، ووجود الأدب والحياء عندك لا يعني الضعف والخوف، بل إذا صاحب ذلك الشجاعة الأدبية وتعودت عليها كانت صفة فيك فتقوى شخصيتك، ويتفتق ذهنك، وينضج عقلك.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فيا فتى الإسلام، أعرف أنك تشتكي -دائمًا- من الأب والأم والمدرسين والمصلين في المسجد، تشتكي أنهم يعاملونك على أنك ما زلت صغيرًا لم تكبر بعد، وللأسف فإن الناس تنظر لمن كان في سن العاشرة من عمره أنه صغير، ويعامل معاملة الصغير، وكذلك من كان في الثانية عشر من عمره يُعامل على أنه صغير، حتى الفتى ابن الستة عشر عامًا يعامل على أنه صغير، وربما يعامل من هو أكبر من ذلك على أنه صغير، فمثلاً جدك يعامل والدك على أنه صغير، ولكني أقولها لك صريحة: "أنت لست صغيرًا".
وأظنك سوف تجري -الآن- لتنادي من حولك، الأب، الأم، الأقارب: اقرءوا معي: "أنت لست صغيرًا"، وأقول لك: "مهلاً يا أخي فأنت قد تكون صغير السن ولكنك كبير القدر، والذي أريد أن أتفق معك عليه، هو أنك مادمت تفهم ما يقال لك فلست صغيرًا مهما كانت سنك، وإذا فهمت واستطعت أن تتعرف على أوامر ربك؛ فقد شابهت الرجال في مبدأ الفهم وبقي أن تحاول أن تكون مثل الصالحين منهم في تطبيق كل ما تتعلمه وأن لا تقدم على فعل شيء تعرف أنه يغضب ربك".
أخي الفتى الحبيب:
إذا هممت بفعل شيء؛ فسل نفسك: "هل هذا يرضي الله أم لا؟" فإن كان يرضيه؛ فافعل، وإلا فاحذر وارجع، وإذا فعلت هذا أصبحت كبيرًا، بل تصبح أكبر من كثير من الكبار الذين يعصون الله تبارك وتعالى، وكان عتبة بن غزوان رضي الله عنه يقول: "فإني أعوذ بالله أن أكون في نفسي عظيمًا وعند الله صغيرًا" (رواه مسلم).
فليس الشأن أن تكون كبير السن صغيرًا عند ربك بمعصيتك إياه؛ ولكن الشأن أن تكون عظيمًا كبيرًا عند ربك بطاعته وتقواه، فكم من صغير السن عظيم القدر عالي الهمة {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13].
واعلم أن المرء بأصغريه، بقلبه ولسانه، فإذا رزق الله العبد لسانًا لافظًا وقلبًا حافظًا؛ فقد استحق الكلام، ووجود الأدب والحياء عندك لا يعني الضعف والخوف، بل إذا صاحب ذلك الشجاعة الأدبية وتعودت عليها كانت صفة فيك فتقوى شخصيتك، ويتفتق ذهنك، وينضج عقلك.
وهكذا كان أبناء السلف رضي الله عنهم؛ فعن سهل بن سعد قال: "أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَدَحٍ فَشَرِبَ مِنْهُ وَعَنْ يَمِينِهِ غُلاَمٌ أَصْغَرُ الْقَوْمِ وَالأَشْيَاخُ عَنْ يَسَارِهِ، فَقَالَ: «يَا غُلاَمُ أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُعْطِيَهُ الأَشْيَاخَ؟» قَالَ: "مَا كُنْتُ لأُوثِرَ بِفَضلي مِنْكَ أَحَدًا يَا رَسُولَ اللهِ"؛ فَأَعْطَاهُ إِيَّاه" (رواه البخاري).
فلم يعنفه النبي صلى الله عليه وسلم أو يزجره، ولا أحد من الحاضرين فعل شيئًا من ذلك، ولربما فعل بعضنا ذلك، فليفرق بين سوء الأدب والشجاعة الأدبية.
وكذلك الزبير بن العوام حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابن عمته صفية بنت عبد المطلب، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الستة أهل الشورى، وأول من سل سيفه في سبيل الله، أبو عبد الله رضي الله عنه أسلم وهو حدث له ست عشرة سنة، وقال عروة: "أَسْلَمَ الزُّبَيْرُ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِ سِنِينَ، وَنُفِحَتْ نَفْحَةٌ مِنَ الشَّيْطَانِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُخِذَ بِأَعْلَى مَكَّةَ فَخَرَجَ الزُّبَيْرُ وَهُوَ غُلاَمٌ ابْنُ اثْنَتَىْ عَشْرَةَ سَنَةً وَمَعَهُ السَّيْفُ، فَمَنْ رَآهُ مِمَّنْ لاَ يَعْرِفُهُ قَالَ: "الْغُلاَمُ مَعَهُ السَّيْفُ؟!" حَتَّى أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا لَكَ يَا زُبَيْرُ؟!» قَالَ: "أُخْبِرْتُ أَنَّكَ أُخِذْتَ"، قَالَ: «فَكُنْتَ صَانِعًا مَاذَا؟»، قَالَ: "كُنْتُ أَضْرِبُ بِهِ مَنْ أَخَذَكَ" (رواه البيهقي). إنه الفداء الحق، والولاء الحق للرسول الحق صلى الله عليه وسلم.
أخي الحبيب فتى الإسلام:
إنك حين تقلب صفحات التاريخ -تاريخ سلفك الصالح- سوف تدهشك النماذج الرائعة من فتيان هذه الأمة الخالدة، فهذا عمرو بن سلمة كان يؤم قومه وهو ابن سبع سنين أو ثمان، فانظر -رعاك الله- إلى هذا الطفل وهو يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عام "الفتح" ويتلقى القرآن والعلم ويحفظ ما تلقاه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يستقر في صدره إلى أن أسلم قومه فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي بهم أحفظهم، فكان الحافظ القارئ هو ذاك الطفل الصغير الذي صار إمامًا للناس بما جمع من القرآن، فالقرآن يرفع الله به أقوامًا ويضع به آخرين وكان عمرو ممن رفعه الله تعالى بالقرآن، الله أكبر.. ما هذه الأعمار المباركة في هذا الجيل المبارك؟!
وهذا بطل آخر -وإن شئت قلت: فتى آخر- هاجر مع أهل بيته وأقاربه وله عشر سنين وحفظ القرآن ولزم الاشتغال من صغره في طلب العلم حتى صار إمام الحنابلة بجامع دمشق، وكان عابدًا زاهدًا ورعًا ينتفع الرجل برؤيته قبل أن يسمع كلامه، إنه إمام الأئمة ومفتي الأمة -يومها- خصه الله بالعقل الوافر، فطنت بذكره الأمصار، وضنت بمثله الأعصار، وله مؤلفات غزيرة وقد صنف كتابه (المغني) في عشر مجلدات و(الكافي) في أربعة وغيرها من الكتب.
أظنك عرفت هذا العالم البحر الذي حفظ القرآن وعمره عشر سنين، ورحل وتحمل المشقة في طلب العلم فألبسه الله لباس النور والوقار، وصار من أذكياء العالم بما ناله من بركة القرآن والعلم، إنه العلامة "ابن قدامة المقدسي" رحمه الله.
أخي الفتى الحبيب:
إن صفحات تاريخنا السلفي لا تحمل في طياتها سيرة الرجال فحسب، بل وفضليات النساء كذلك، فهذه سلمى بنت محمد بن الجزري -أم الخير- شرعت في حفظ القرآن 813 هجريًّا وحفظت مقدمة (التجويد) ومقدمة (النحو) ثم حفظت (الألفية)، وعرضت القرآن على والدها حفظًا بالقراءات العشر، وأكملته قراءة صحيحة مجودة مشتملة على جميع وجوه القراءات.
فانظر إلى تلك الأعمار المبكرة المباركة، كيف صاروا علماء أعصارهم وفقهاء أمصارهم؟! وقد كانوا فيما يرى الناس صغارًا.
أخي الفتى الحبيب: لحظة من فضلك!
لعلك أدركت أن الكبير لا يكون كبيرًا إذا تلطخ بالمعاصي والآثام، ولذا؛ فإن التزامك لا يكمل حتى تتخلق بأخلاق الحبيب صلى الله عليه وسلم وتقتدي به وتجعله مثلك الأعلى وقدوتك وقائدك ودليلك إلى مرضاة الله والجنة، وتذكر أن التزامك بأخلاق الكبار لا يعني أنك لا تسمع ولا تطيع لأمر والديك أو ترفع عليهما صوتك، أو أنك حر لا تحترم الكبير ولا توقره وتذكر دومًا أمر ربك لك ببر الوالدين: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا} [الإسراء:23]، وتذكر دومًا أمر نبيك صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يُوَقِّرْ كَبِيرَنَا، وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَا» (رواه الترمذي، وصححه الألباني).
وإذا كان الشيطان قد صور لكثير من الفتيان أن إثبات رجولتهم يكون بتقليد الكبار في الأمور التي يعصون الله فيها كالتدخين والمخدرات والمسكرات، ومعاكسة الفتيات واقتناء الصور الساقطة وسماع الأغاني والموسيقى، فيظن الفتى أنه لا يكون رجلاً إلا إذا شرب السيجارة واصطحب البنات وهاتفهم وراسلهم وعاكسهم وفعل كذا.. وكذا..
ويظن أنه قد صار رجلاً -أو: قل: صار بطلاً- أوقع البنات في حبه، وهو -في الحقيقة- يفقد رجولته كلما خاض في هذه المعاصي ويبعد عن معنى الرجولة، بل ويصبح صغيرًا حقيرًا عند ربه وعند الناس، فالناس لا يحبون أخلاق من يشرب الدخان أو يصطحب البنات أو يفعل كذا.. وكذا..
أخي الحبيب.. فتى الإسلام:
كن ملتزمًا بإسلامك.. بإيمانك.. واعمل بالطاعة وأقبل على المطيعين لطاعتهم، واجتنب المعصية وابغض العصاة لمعصيتهم، واحذر رفقاء السوء فإنهم سبب كل ضياع، وكن واحدًا من هؤلاء: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب:23].
{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} [النور:36].
أخي الفتى الحبيب، من أنت؟ ما همك؟ ما هدفك؟ ما شعارك؟
ليكن همك أن تكون عند الله كبيرًا.
ليكن هدفك أن يرضى ربك عنك.
ليكن إيمانك {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّه} [النحل:53].
ليكن شعارك {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه:84].
أخي الحبيب، {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه:84].
وإلى لقاء جديد إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مصطفى دياب
شيخ من الإسكندرية متخصص في مجال تربية النشء ومخاطبة الشباب.
- التصنيف:
- المصدر: