{لَمَّا ظَلَمُوا} (1-2)

منذ 2014-04-03

قال الله تعالى: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا} [الكهف:59]، وذلك بعد أن ذكر عزَّ شأنه أنه لا أظلم ممن ذكر بآيات ربه الذي امتن عليه بأنواع النعم، ثم أعرض عنها وبيَّن أنهم بذلك قد استحقوا العذاب العاجل، لكنّ ربك الغفور ذو الرحمة جعل لهم موعدًا، وأمهلهم وأملي لهم، بيد أن موعدهم لا بد آت، كما أتى الموعد على كثير من القرى التي لم ترعوِ فكان هلاكها بظلم أهلها...

الحمد لله ربّ العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد عليه وعلى آله أزكى صلاة وأتم تسليم. أما بعد؛

فقد قال الله تعالى: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا} [الكهف:59]، وذلك بعد أن ذكر عزَّ شأنه أنه لا أظلم ممن ذكر بآيات ربه الذي امتن عليه بأنواع النعم، ثم أعرض عنها وبيَّن أنهم بذلك قد استحقوا العذاب العاجل، لكنّ ربك الغفور ذو الرحمة جعل لهم موعدًا، وأمهلهم وأملي لهم، بيد أن موعدهم لا بد آت، كما أتى الموعد على كثير من القرى التي لم ترعوِ فكان هلاكها بظلم أهلها.

"فقال تَعَالَى ذِكْرُهُ: {وَتِلْكَ الْقُرَى} مِنْ عَادٍ وَثَمُودَ وَأَصْحَابِ الأَيْكَةِ أَهْلَكْنَا أَهْلَهَا لَمَّا ظَلَمُوا، فَكَفَرُوا بِاللَّهِ وَآيَاتِهِ، {وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا}، يَعْنِي مِيقَاتًا وَأَجَلًا، حِينَ بَلَغُوهُ جَاءَهُمْ عَذَابُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِهِ، يَقُولُ: فَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِهَؤُلاَءِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ قَوْمِكَ يَا مُحَمَّدُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِكَ أَبَدًا مَوْعِدًا، إِذَا جَاءَهُمْ ذَلِكَ الْمَوْعِدُ أَهْلَكْنَاهُمْ سُنَّتَنَا فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ ضُرَبَائِهِمْ" (قاله ابن جرير).

وقال صاحب التحرير: "الإشارة بـ{تِلْكَ} إلى مقدر في الذهن... والعرب يعرفون ديار عاد وثمود ومدين ويسمعون بقوم لوط وقوم فرعون فكانت كالحاضرة حين الإشارة..." و"إِنَّمَا أُشِيرُ بِهِ لَهُمْ لِأَنَّهُمْ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا فِي أَسْفَارِهِمْ، كَقَوْلِهِ: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ . وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الصافات:137-138]، وَقَوْلِهِ: {وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ} [الحجر من الآية:76]، وَقَوْلِهِ: {وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ} [الحجر من الآية:79]، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ".

وقوله تعالى: {لَمَّا ظَلَمُوا} إجمال لسبب هلاكهم، فسبب الهلاك على سبيل الإجمال هو الظلم، ومن أولاه بالدخول في دلالة هذه الآية بعض من أجناسه المبينة في سياق الآيات قبلها: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} [الكهف من الآية:57]، فمِن أعظم الظلم الإعراض عن شرع الله والتنكّر له والتخلِّي عنه، ومنه كذلك اجتراح المنهيات والتغافل عنها، فهذا النوع من الظلم داخل في مدلول الآية كما أن ثمة أنواع أخرى فصلت في القرآن الكريم.

وقد ذكر بعض المفسرين أن الظلم هنا هو الشرك، وذكر آخرون أنه الكفر، وهذا كذلك تفسير مجمل، فإن الظلم أنواع والكفر كذلك أنواع، وإنما أجمل لأن الأنواع مختلفة ومتباينة فشرك المشركين أنواع وكفرهم كذلك، لأن من أولاه بالدخول هنا كما سبق ما نشأ عن الإعراض عن الذكرى بآيات الله، والتهاون في مخالفة شرع الله.

والحاصل أن في قوله: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا} "بَيَانٌ لِأَصْحَابِ الرِّئَاسَةِ وَرِجَالِ السِّيَاسَةِ أَنَّ هَلَاكَ الدُّنْيَا بِفَسَادِ الدِّينِ، وَأَنَّ أَمْنَ الْقُرَى وَطُمَأْنِينَةَ الْعَالَمِ بِالْحِفَاظِ عَلَى الدِّينِ.

وَمِنْ هُنَا كَانَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ فِي عَامَّةِ النَّاسِ لِلْحِفَاظِ عَلَى دِينِهِمْ وَسَلَامَةِ دُنْيَاهُمْ، فَحَمَّلَ الشَّارِعُ مُهِمَّتَهُ لِلْأُمَّةِ كُلِّهَا كُلٌّ بِحَسَبِهِ بِالْيَدِ أَوْ بِاللِّسَانِ أَوِ الْقَلْبِ، وَهَذَا الْأَخِيرُ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ، وَمَعَ ضَعْفِهِ فَفِيهِ الْإِبْقَاءُ عَلَى دَوَامِ الْإِحْسَاسِ بِوُجُودِ الْمُنْكَرِ إِلَى أَنْ يَقْدِرَ هُوَ أَوْ غَيْرُهُ عَلَى تَغْيِيرِهِ.

قَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الْمَفْهُومَ بِبَيَانِ حَالِ الَّذِينَ مَكَّنَهُمْ فِي الْأَرْضِ بِنَصْرِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:41]"[1].

وقوله في الآية: {الْقُرَى}، المراد به أهل تلك القرى، والقرى تطلق في لغة العرب ويراد بها البناء المجتمع، وتطلق ويراد بها الأهل والأمم، وهذا هو المراد هنا ولهذا قال: {أَهْلَكْنَاهُمْ} ولم يقل: أهلكناها، وذلك أن البناء جماد فإذا كان هو المراد فلا يعود عليه الضمير بصيغة الجمع، يعني أنك لا تقول مثلًا: "هذه البيوت عمرناهم" ولكن تقول: "هذه البيوت عمرناها"...

بل دلت الآيات أن البناء الذي سكنه بعض أولئك المهلكين لم يزل باقيًا كقوله تعالى في قوم صالح: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ . قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ . وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ . فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ . فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [النمل:48-52].

وقال الله تعالى على سبيل الإجمال: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} [القصص:58].

قال صاحب الأضواء في آية سورة الكهف: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا}؛ "وَهَذَا الْإِجْمَالُ فِي تَعْيِينِ هَذِهِ الْقُرَى وَأَسْبَابِ هَلَاكِهَا، وَأَنْوَاعِ الْهَلَاكِ الَّتِي وَقَعَتْ بِهَا جَاءَ مُفَصَّلًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ كَثِيرَةٍ، كَمَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ قِصَّةِ قَوْمِ نُوحٍ، وَقَوْمِ هُودٍ، وَقَوْمِ صَالِحٍ، وَقَوْمِ شُعَيْبٍ، وَقَوْمِ مُوسَى".

فظهر من هذا أن القرآن فصل لنا ما أجمل في هذا الموضوع وهو ثلاثة أشياء:

الأول: تفصيل تلك القرى.

الثاني: أنواع الهلاك الذي أخذت به.

الثالث: أسباب هلاكها وأنواع ظلمها.

بل جاء تفصيل لما يربو على ذلك فقد فصَّل لنا القرآن أحوالهم من القوة والضعف، وأوقات هلاكهم، وغير ذلك. أما تلك القرى المذكورة في القرآن كثيرة معلومة أشير إليها فيما سبق، كقوم نوح، وهود، وصالح، ولوط، وشعيب.

وكذلك أنواع هلاكهم معروفة، فقوم نوح أهلكوا بالطوفان، وفرعون وملؤه أهلكوا في اليم، وقوم هود وهم عاد، أهلكوا بريح صرصر عاتية، سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسومًا فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية، وقوم صالح وهم ثمود أهلكوا بالطاغية، وهلاكهم كان بالصيحة {وَأَخَذَتْ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [هود من الآية:67].

وأما قوم لوط فجعل الله قراهم عاليها سافلها، وأمطرهم بحجارة من سجيل منضود، وقوم شعيب أخذتهم الرجفة لما أرجفوا بنبيهم ومن معه {لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [الأعراف من الآية:88]، فأخذتهم الرجفة وهي الصيحة أو الصعقة فأصبحوا في ديارهم جاثمين.

وقد جاءت الأخبار بتفاصيل بعض هذا الهلاك، واستقصاء ذلك يطول، وقد قال الله سبحانه وتعالى مبينًا أنواع العذاب الذي أرسل على القرى: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت:40].

______________

[1]- (عن تتمة الأضواء؛ من تفسير سورة الطلاق للشيخ عطية محمد سالم، وهو ينقل عن شيخه الشنقيطي هذا المعنى).


 

 

ناصر بن سليمان العمر

أستاذ التفسير بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض سابقا