سالم بن عبد الله بن عمر حفيد الفاروق [1]
منذ 2007-10-25
ها نحن أولاء في خلافة
الفاروق رضوان الله عليه.
وها هي مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم تَعِجُّ بغنائم الحرب التي أحرزها المسلمون من أسلاب يزدجرد آخر ملوك الفرس.
فلقد كان فيها من تيجان الأكاسرة المرصعة بالجوهر، ومناطقهم المرصوفة باللؤلؤ المحلاة بالياقوت والمرجان؛ ما لم تقع عليه عين من قبل.
وقد كان مع هذه الكنوز الطائلة الهائلة حشد كبير من سبايا الفرس.
وكان بينهن بنات يزدجرد الثلاث، فشراهن علي رضي الله عنه بثمن جَزْلٍ، وعرض عليهن طائفة من ألمع شباب المسلمين.
فاختارت إحداهن الحسين بن علي سِبْطِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنجبت له زين العابدين.
واختارت الثانية محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وأنجبت له القاسم أحد فقهاء المدينة السبعة.
واختارت الثالثة عبدَ الله بن عمر خليفة المسلمين، وأنجبت له سالماً حفيدَ الفاروق وأشبه الناس سمتاً به.
فتعَالَوْا نقف على صورة وضَّاءة من حياة سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعن أبيه وعن جده.
وُلِدَ سالمُ بن عبد الله في رحاب المدينة المنورة مثوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ودارِ هجرته.
وفي أجوائها العبقة بطيوب النبوة، المتألقة بسنا الوحي، درج وشب.
وفي كنف أبيه العَــبـَّاد الزَّهــَّـاد صوَّام الهواجر قوام الأسحار تربَّى.
وبأخلاقه العمرية تخَـلَّق.
ولقد رأى فيه أبوه من مخايل التقى، وعلائم الهدى، وأبصر في سلوكه من شمائل الإسلام، وأخلاق القرآن فوق ما كان يراه في إخوته.
فأحبه حباً ملك عليه شغاف قلبه، وخالط منه حباتِ فؤادِه، حتى لامه اللائمون في ذلك فقال:
يلومونني في سالم وألومهم *** وجِلْدَةُ بينَ العين والأنفِ سالمُ
وأقبل عليه يبثه ما وعاه صدره من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويفقهه في دين الله.
ويمليه من كتاب الله.
ثم دفع به إلى الحرم الشريف.
وكان مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما زال معموراً بطائفة كبيرة من جِلَّةِ الصحابة.
فحيثما أَلـَـمَّ الفتى بركن من أركانه؛ ألفى أمامه نجماً فيه ألَقٌ نور وضياء من سنا النبوة، وعبَق من طيوب الرسالة الغرَّاء.
وأينما رمى بطرفه أو ألقى بسمعه؛ أبصر خيرا وسمع برا.
وبذلك أتيح له أن يأخذ عن طائفة من جِلَّةِ الصحابة على رأسهم أبو أيوب الأنصاري، وأبو هريرة، وأبو رافع، وأبو لبابة، وزيدُ بن الخطاب، وذلك بالإضافة إلى والده عبد الله بن عمر.
فما لبث أن غدا علَماً من أعلام المسلمين، وسيداً جليلاً من سادة التابعين، وأحد فقهاء المدينة الذين يفزع إليهم المسلمون في دينهم، ويأخذون عنهم شريعة ربهم، ويرجعون إليهم في معضلات الدين والدنيا.
وكان الولاة يأمرون قضاتَهم إذا عُرضت عليهم القضايا أن يدفعوا بها إليهم، فإذا جاءتهم المسألة اجتمعوا جميعاً ونظروا فيها، ثم لا يقضي القضاة إلا برأيهم.
وكان أسعدَ الولاةِ حظًّا، وأطيبهم أحدوثة، وأقربهم إلى قلوب الناس، وأوثقهم عند الخلفاء؛ من يأخذ بمشورة سالم بن عبد الله ويلتزم بتوجيهه.
أما الذين يخالفون أمره، فقد كانت المدينة تنبو بهم تضيق بهم ولا يجدون بها قرارا، ولا تتحمل ولايتَهم.
من ذلك أن عبدَ الرحمن بن الضحاك ولِي المدينةَ في خلافةِ يزيدَ بن عبدِ الملك.
وكانت فاطمة بنتُ الحسين رضي الله عنه ونضَّر في الجنة روحَه؛ قد ترملت، وانقطعت إلى أولادها، فتقدم إليها ابن الضحاك وخطبها لنفسه.
فقالت: "والله ما أبغي الزواج، ولقد قعدت على بَنِيَّ، ووقفت نفسي عليهم".
فجعل يلح عليها وهي تحتال في الاعتذار إليه؛ من غير مخاشنةٍ خوفاً من شره.
فلما وجدها تأباه، قال لها: "والله لئن لم ترضَيْننِي لك زوجاً لآخذن أكبر بنيك، ولأجلدنه بتهمة شرب الخمر".
فاستشارت سالم بن عبد الله في أمرها؛ فأشار عليها بأن تكتب للخليفة كتاباً تشكو فيه الوالي، وتذكر قرابتها من رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، ورَحِمها في آل البيت.
فكتبت الكتاب، وأنفذته مع رسول لها إلى دمشق.
ما كاد الرسول يمضي بالكتاب حتى جاء أمر الخليفة إلى ابنِ هرمُز عامله على ديوان المال في المدينة بأن يقدم عليه ليرفع إليه حسابه.
فقام ابن هرمز يُوَدِّعُ أصحاب الحقوق عليه؛ فاستأذن على فاطمةَ بنتِ الحسين موَدِّعاً وقال: "إني ماض إلى دمَشق فهل لكِ من حاجةٍ؟".
فقالت: "نعم، تخبرُ أميرَ المؤمنين بما ألقى من ابن الضحاك وما يتعرض به إلىَّ، وأنه لا يرعى حرمة لعلماء المدينة، وخاصة سالمَ بن عبدالله".
فلام ابن هرمز نفسه على زيارتها؛ إذ ما كان يريد أن يحمل شكواها من ابن الضحاك إلى الخليفة.
وصل ابن هرمز إلى دمشق في نفس اليوم الذي وصل فيه الرسول الذي يحمل كتاب فاطمة بنت الحسين.
فلما دخل على الخليفة، استخبره عن أحوال المدينة، وسأله عن سالم ابن عبدالله وصحبه من الفقهاء، وقال له: "هل هناك أمر ذو شأن جدير بأن يعلم، أو خبر ذو خطر حريٌّ بأن يُذكر؟".
فلم يذكر له شيئاً من قصة فاطمة بنت الحسين.
وفيما هو جالس عنده يرفع له حسابه، إذ دخل الحاجب وقال: "أصلح الله الأمير، إن بالباب رسولَ فاطمةَ بنت الحسين".
فتغير وجه ابن هرمز وقال: "أطال الله بقاء الأمير إن فاطمة بنت الحسين حملتني رسالة إليك"، وأخبره الخبر.
فما أَن سمع الخليفةُ مقالته حتى نزل عن سريره وقال: "لا أُمََّ لك، ألم أسألك عن شئُون المدينة وأخبارها؟ أيكون لديك مثل هذا الخبر وتكتمه عني؟".
فاعتذر إليه بالنسيان.
ثم أذن للرسول فأُدخلَ عليه، فأخذ الكتابَ منه وفَضَّه، وجعل يقرؤه والشرر يتطاير من عينيه، وأخذ يضرب الأرض بخَيزُرَانٍ كان في يده وهو يقول: "لقد اجترأ ابنُ الضحاك على آل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يُصِخْ لنصحِ سالم بن عبد الله فيهم. هل من رجل يُسمعُني صوتَه وهو يُعذَّب في المدينة، وأنا على فراشي هنا في دمشق؟" يعني صوتَ ابنِ الضحاك.
فقيل له: "نعم يا أمير المؤمنين، ليس للمدينة إلا عبدُ الواحد بنُ بشرٍ النَّضْرِي، فوَلِّه إياها وهو مقيمٌ الآن في الطائف".
فقال: "نعم، والله نعم، إنَّه لها".
ثم دعا بقِرطَاس وكتب بيده: "من أميرِ المؤمنين يزيدَ بنِ عبد الملك إلى عبد الواحد بن بشر النضري.
السلام عليك.
أما بعد، فإني قد ولَّيتُك المدينة، فإذا جاءك كتابي هذا فتوجه إليها، واعزل عنها ابنَ الضحاك، وافرِض عليه غرامةً مقدارُها أربعون ألف دينار وعذِّبهُ حتى أسمعَ صوته من المدينة".
أخذ صاحبُ البريد الكتاب، ومضى يحثُّ الخُطا نحو الطائف عن طريق المدينة.
فلما بلغ المدينة لم يدخل على واليها ابنُ الضحاك ولم يسلم عليه؛ فأوجس الوالي خيفة في نفسه.
وأرسل إليه ودعاه إلى بيته، وسأله عن سبب قدومه فلم يَبُح له بشيء ؛ فرفع ابنُ الضحاك طرفَ فراشه وقال: "انظر" فنظر فإذا كيسٌ قد مليء دنانيرَ.
فقال: "هذه ألف دينار، ولك علي عهد الله وميثاقه إن أنت أخبرتني عن وجهتك وما في يدك لأدفعنها إليك، ولأكتُمنَّ ذلك.
فأخبره فدفع إليه المالَ، وقال له: "تريَّث هنا ثلاث ليال حتى أصل إلى دمَشق، ثم امضِ إلى ما أُمرت به".
زَمّ شَدَّ على راحلته ابنُ الضحاك ركائبَه، وغادر المدينة لتوِّه، ومضى يحثُّ المطايا نحو دمشق.
فلما بلغها دخل على أخي الخليفة مسلمةَ بنِ عبد الملك، وكان سيداً أرِيحيّاً سامي الخلق وافر المعروف صاحبَ نجدة.
فلما صار بين يديه قال له: "أنا في جوارك أيها الأمير".
فقال: "أبشر بخير، وما شأنُك؟".
فقال: "إن أمير المؤمنين ناقمٌ علي لهَنةٍ بدرت مني".
فغدا مسلمةُ على يزيدَ وقال: "إن لي لدى أمير المؤمنين حاجة".
فقال يزيد: "كلُّ حاجةٍ لك مقضية ما لم تكن في ابنِ الضحاك".
فقال: "والله ما جئتك إلا من أجله".
فقال: "والله لا أُعفِيه أبداً".
فقال: "وما ذنبُه؟".
فقال: "لقد تعرض لفاطمة بنت الحسين وهدَّدها وتوعَّدها وأرهقها، ولم يُصِخْ لنصح سالمِ بن عبد الله في أمرها؛ فهَبَّ شعراءُ المدينة جميعاً يهجونه، وطفق صلحاؤها وعلماؤها طُرّاً يعيبونه".
فقال مسلمة: "أنت وشأنك معه يا أمير المؤمنين".
فقال يزيد: "مُرْهُ أن يعود إلى المدينة لينفذ واليها الجديد أمري فيه، ويجعله عِبْرَةً لغيره من الولاة".
فرح أهل المدينة أعظم الفرح بواليهم الجديد.
وسرَّهم حزمُه في تنفيذ أمر الخليفة بابن الضحاك.
وازدادوا تعلقاً به حين وجدوه يذهب مذاهب الخير، ولا يقطع أمراً من أمورهم إلا إذا استشار فيه القاسمَ بنَ محمدِ بن أبي بكر، وسالمَ بن عبد الله بن عمر.
فمرحى لخليفة المسلمين يزيد بن عبد الملك.
وتجلة للإسلام العظيم الذي أبدع هذه المُثُل، وصنع أولئك الرجال.
عبد الرحمن رافت الباشا
وها هي مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم تَعِجُّ بغنائم الحرب التي أحرزها المسلمون من أسلاب يزدجرد آخر ملوك الفرس.
فلقد كان فيها من تيجان الأكاسرة المرصعة بالجوهر، ومناطقهم المرصوفة باللؤلؤ المحلاة بالياقوت والمرجان؛ ما لم تقع عليه عين من قبل.
وقد كان مع هذه الكنوز الطائلة الهائلة حشد كبير من سبايا الفرس.
وكان بينهن بنات يزدجرد الثلاث، فشراهن علي رضي الله عنه بثمن جَزْلٍ، وعرض عليهن طائفة من ألمع شباب المسلمين.
فاختارت إحداهن الحسين بن علي سِبْطِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنجبت له زين العابدين.
واختارت الثانية محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وأنجبت له القاسم أحد فقهاء المدينة السبعة.
واختارت الثالثة عبدَ الله بن عمر خليفة المسلمين، وأنجبت له سالماً حفيدَ الفاروق وأشبه الناس سمتاً به.
فتعَالَوْا نقف على صورة وضَّاءة من حياة سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعن أبيه وعن جده.
وُلِدَ سالمُ بن عبد الله في رحاب المدينة المنورة مثوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ودارِ هجرته.
وفي أجوائها العبقة بطيوب النبوة، المتألقة بسنا الوحي، درج وشب.
وفي كنف أبيه العَــبـَّاد الزَّهــَّـاد صوَّام الهواجر قوام الأسحار تربَّى.
وبأخلاقه العمرية تخَـلَّق.
ولقد رأى فيه أبوه من مخايل التقى، وعلائم الهدى، وأبصر في سلوكه من شمائل الإسلام، وأخلاق القرآن فوق ما كان يراه في إخوته.
فأحبه حباً ملك عليه شغاف قلبه، وخالط منه حباتِ فؤادِه، حتى لامه اللائمون في ذلك فقال:
يلومونني في سالم وألومهم *** وجِلْدَةُ بينَ العين والأنفِ سالمُ
وأقبل عليه يبثه ما وعاه صدره من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويفقهه في دين الله.
ويمليه من كتاب الله.
ثم دفع به إلى الحرم الشريف.
وكان مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما زال معموراً بطائفة كبيرة من جِلَّةِ الصحابة.
فحيثما أَلـَـمَّ الفتى بركن من أركانه؛ ألفى أمامه نجماً فيه ألَقٌ نور وضياء من سنا النبوة، وعبَق من طيوب الرسالة الغرَّاء.
وأينما رمى بطرفه أو ألقى بسمعه؛ أبصر خيرا وسمع برا.
وبذلك أتيح له أن يأخذ عن طائفة من جِلَّةِ الصحابة على رأسهم أبو أيوب الأنصاري، وأبو هريرة، وأبو رافع، وأبو لبابة، وزيدُ بن الخطاب، وذلك بالإضافة إلى والده عبد الله بن عمر.
فما لبث أن غدا علَماً من أعلام المسلمين، وسيداً جليلاً من سادة التابعين، وأحد فقهاء المدينة الذين يفزع إليهم المسلمون في دينهم، ويأخذون عنهم شريعة ربهم، ويرجعون إليهم في معضلات الدين والدنيا.
وكان الولاة يأمرون قضاتَهم إذا عُرضت عليهم القضايا أن يدفعوا بها إليهم، فإذا جاءتهم المسألة اجتمعوا جميعاً ونظروا فيها، ثم لا يقضي القضاة إلا برأيهم.
وكان أسعدَ الولاةِ حظًّا، وأطيبهم أحدوثة، وأقربهم إلى قلوب الناس، وأوثقهم عند الخلفاء؛ من يأخذ بمشورة سالم بن عبد الله ويلتزم بتوجيهه.
أما الذين يخالفون أمره، فقد كانت المدينة تنبو بهم تضيق بهم ولا يجدون بها قرارا، ولا تتحمل ولايتَهم.
من ذلك أن عبدَ الرحمن بن الضحاك ولِي المدينةَ في خلافةِ يزيدَ بن عبدِ الملك.
وكانت فاطمة بنتُ الحسين رضي الله عنه ونضَّر في الجنة روحَه؛ قد ترملت، وانقطعت إلى أولادها، فتقدم إليها ابن الضحاك وخطبها لنفسه.
فقالت: "والله ما أبغي الزواج، ولقد قعدت على بَنِيَّ، ووقفت نفسي عليهم".
فجعل يلح عليها وهي تحتال في الاعتذار إليه؛ من غير مخاشنةٍ خوفاً من شره.
فلما وجدها تأباه، قال لها: "والله لئن لم ترضَيْننِي لك زوجاً لآخذن أكبر بنيك، ولأجلدنه بتهمة شرب الخمر".
فاستشارت سالم بن عبد الله في أمرها؛ فأشار عليها بأن تكتب للخليفة كتاباً تشكو فيه الوالي، وتذكر قرابتها من رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، ورَحِمها في آل البيت.
فكتبت الكتاب، وأنفذته مع رسول لها إلى دمشق.
ما كاد الرسول يمضي بالكتاب حتى جاء أمر الخليفة إلى ابنِ هرمُز عامله على ديوان المال في المدينة بأن يقدم عليه ليرفع إليه حسابه.
فقام ابن هرمز يُوَدِّعُ أصحاب الحقوق عليه؛ فاستأذن على فاطمةَ بنتِ الحسين موَدِّعاً وقال: "إني ماض إلى دمَشق فهل لكِ من حاجةٍ؟".
فقالت: "نعم، تخبرُ أميرَ المؤمنين بما ألقى من ابن الضحاك وما يتعرض به إلىَّ، وأنه لا يرعى حرمة لعلماء المدينة، وخاصة سالمَ بن عبدالله".
فلام ابن هرمز نفسه على زيارتها؛ إذ ما كان يريد أن يحمل شكواها من ابن الضحاك إلى الخليفة.
وصل ابن هرمز إلى دمشق في نفس اليوم الذي وصل فيه الرسول الذي يحمل كتاب فاطمة بنت الحسين.
فلما دخل على الخليفة، استخبره عن أحوال المدينة، وسأله عن سالم ابن عبدالله وصحبه من الفقهاء، وقال له: "هل هناك أمر ذو شأن جدير بأن يعلم، أو خبر ذو خطر حريٌّ بأن يُذكر؟".
فلم يذكر له شيئاً من قصة فاطمة بنت الحسين.
وفيما هو جالس عنده يرفع له حسابه، إذ دخل الحاجب وقال: "أصلح الله الأمير، إن بالباب رسولَ فاطمةَ بنت الحسين".
فتغير وجه ابن هرمز وقال: "أطال الله بقاء الأمير إن فاطمة بنت الحسين حملتني رسالة إليك"، وأخبره الخبر.
فما أَن سمع الخليفةُ مقالته حتى نزل عن سريره وقال: "لا أُمََّ لك، ألم أسألك عن شئُون المدينة وأخبارها؟ أيكون لديك مثل هذا الخبر وتكتمه عني؟".
فاعتذر إليه بالنسيان.
ثم أذن للرسول فأُدخلَ عليه، فأخذ الكتابَ منه وفَضَّه، وجعل يقرؤه والشرر يتطاير من عينيه، وأخذ يضرب الأرض بخَيزُرَانٍ كان في يده وهو يقول: "لقد اجترأ ابنُ الضحاك على آل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يُصِخْ لنصحِ سالم بن عبد الله فيهم. هل من رجل يُسمعُني صوتَه وهو يُعذَّب في المدينة، وأنا على فراشي هنا في دمشق؟" يعني صوتَ ابنِ الضحاك.
فقيل له: "نعم يا أمير المؤمنين، ليس للمدينة إلا عبدُ الواحد بنُ بشرٍ النَّضْرِي، فوَلِّه إياها وهو مقيمٌ الآن في الطائف".
فقال: "نعم، والله نعم، إنَّه لها".
ثم دعا بقِرطَاس وكتب بيده: "من أميرِ المؤمنين يزيدَ بنِ عبد الملك إلى عبد الواحد بن بشر النضري.
السلام عليك.
أما بعد، فإني قد ولَّيتُك المدينة، فإذا جاءك كتابي هذا فتوجه إليها، واعزل عنها ابنَ الضحاك، وافرِض عليه غرامةً مقدارُها أربعون ألف دينار وعذِّبهُ حتى أسمعَ صوته من المدينة".
أخذ صاحبُ البريد الكتاب، ومضى يحثُّ الخُطا نحو الطائف عن طريق المدينة.
فلما بلغ المدينة لم يدخل على واليها ابنُ الضحاك ولم يسلم عليه؛ فأوجس الوالي خيفة في نفسه.
وأرسل إليه ودعاه إلى بيته، وسأله عن سبب قدومه فلم يَبُح له بشيء ؛ فرفع ابنُ الضحاك طرفَ فراشه وقال: "انظر" فنظر فإذا كيسٌ قد مليء دنانيرَ.
فقال: "هذه ألف دينار، ولك علي عهد الله وميثاقه إن أنت أخبرتني عن وجهتك وما في يدك لأدفعنها إليك، ولأكتُمنَّ ذلك.
فأخبره فدفع إليه المالَ، وقال له: "تريَّث هنا ثلاث ليال حتى أصل إلى دمَشق، ثم امضِ إلى ما أُمرت به".
زَمّ شَدَّ على راحلته ابنُ الضحاك ركائبَه، وغادر المدينة لتوِّه، ومضى يحثُّ المطايا نحو دمشق.
فلما بلغها دخل على أخي الخليفة مسلمةَ بنِ عبد الملك، وكان سيداً أرِيحيّاً سامي الخلق وافر المعروف صاحبَ نجدة.
فلما صار بين يديه قال له: "أنا في جوارك أيها الأمير".
فقال: "أبشر بخير، وما شأنُك؟".
فقال: "إن أمير المؤمنين ناقمٌ علي لهَنةٍ بدرت مني".
فغدا مسلمةُ على يزيدَ وقال: "إن لي لدى أمير المؤمنين حاجة".
فقال يزيد: "كلُّ حاجةٍ لك مقضية ما لم تكن في ابنِ الضحاك".
فقال: "والله ما جئتك إلا من أجله".
فقال: "والله لا أُعفِيه أبداً".
فقال: "وما ذنبُه؟".
فقال: "لقد تعرض لفاطمة بنت الحسين وهدَّدها وتوعَّدها وأرهقها، ولم يُصِخْ لنصح سالمِ بن عبد الله في أمرها؛ فهَبَّ شعراءُ المدينة جميعاً يهجونه، وطفق صلحاؤها وعلماؤها طُرّاً يعيبونه".
فقال مسلمة: "أنت وشأنك معه يا أمير المؤمنين".
فقال يزيد: "مُرْهُ أن يعود إلى المدينة لينفذ واليها الجديد أمري فيه، ويجعله عِبْرَةً لغيره من الولاة".
فرح أهل المدينة أعظم الفرح بواليهم الجديد.
وسرَّهم حزمُه في تنفيذ أمر الخليفة بابن الضحاك.
وازدادوا تعلقاً به حين وجدوه يذهب مذاهب الخير، ولا يقطع أمراً من أمورهم إلا إذا استشار فيه القاسمَ بنَ محمدِ بن أبي بكر، وسالمَ بن عبد الله بن عمر.
فمرحى لخليفة المسلمين يزيد بن عبد الملك.
وتجلة للإسلام العظيم الذي أبدع هذه المُثُل، وصنع أولئك الرجال.
عبد الرحمن رافت الباشا
المصدر: نقلا عن كتاب: صور من حياة التابعين
- التصنيف: