سالم بن عبد الله بن عمر العالم العامل [2]

منذ 2007-10-25
كان لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب طائفة من الأبناء، لكن ابنه عبدالله كان أشدهم شبهاً به.
وكان لعبدالله بن عمر عدد من الأبناء أكثر مما كان لأبيه، لكن ابنه سالماً كان أشدهم شبهاً به.

فتعالَوْا نتابع قصة حياة سالم بن عبد الله، حفيد الفاروق، وأشبه الناس به خُلُقاً، وخِلقةً، وديناً وسمتاً.

عاش سالم بن عبد الله في رحاب طيبة المطيَّبة.
وكانت طيبة إذ ذاك ترفل في أثواب من الغنى والنعمة لم تشهد لها مثيلاً من قبل.
فقد كان رزقها يأتيها رغداً من كل مكان، وكان خلفاء بني أمية يتيحون لها من أسباب الثراء ما لم يخطر ببال.

لكن سالم بن عبد الله لم يُقبِل على الدنيا كما أقبل عليها غيره، ولم يَحفِلْ بعَرَضِهَا الفاني كما حَفِلَ به سواه؛ وإنما زهد بما في أيدي الناس رغبة بما عند الله، وأعرض عن العاجلة رجاء الفوز بالآجلة.

ولقد جرب خلفاء بني أمية أن يغدقوا عليه الخير كما أغدقوه على غيره؛ فوجدوه زاهداً بما في أيديهم، مستصغراً للدنيا وما فيها.

ففي ذات سنة قدم سليمان بن عبد الملك مكةَ حاجاً، فلما أخذ يطوف طواف القدوم؛ أبصر سالمَ بنَ عبد الله يجلس قُبالة الكعبة في خضوع ويحرك لسانه بالقرآن في تبتل وخشوع وعَبَرَاتُهُ تَسِحُّ على خديه سحّاً، حتى لكأن وراء عينيه بحراً من الدموع.
فلما فَرَغ الخليفةُ من طوافه، وصلى ركعتين سنة الطواف؛ توجه إلى حيث يجلس سالمُ بن عبد الله.
فأفسح الناس له الطريق حتى أخذ مكانه بجانبه، وكاد يمس بركبتِه ركبتَه.
فلم يتنبه له سالم ولم يلتفت إليه، لأنه كان مستغرقاً بما هو فيه، مشغولاً بذكر الله عن كل شيء.
وطفق الخليفة يرقب سالماً بطرْفٍ خفي.
ويلتمس فرصة يتوقف فيها عن التلاوة ويكف عن النحيب حتى يكلمه.
فلما واتته الفرصة مال عليه وقال: "السلام عليك يا أبا عمر ورحمة الله".
فقال : "وعليك السلام ورحمة الله تعالى وبركاته".
فقال الخليفة بصوت خفيض: "سَلْنِي حاجةً أقضِها لك يا أبا عمر".
فلم يجبه سالمٌ بشيء.
فظن الخليفة أنه لم يسمعه، فمال عليه أكثر من ذي قبل وقال: "رغبت بأن تسألني حاجة لأقضيها لك".
فقال سالم: "والله إني لأستحي أن أكون في بيت الله عز وجل؛ ثم أسألَ أحداً غيره".
فخجل الخليفة وسكت، لكنه ظل جالساً في مكانه.
فلما قضيت الصلاة، نهض سالم يريد المضي إلى رحله.
فلحقت به جموع الناس.
هذا يسأله عن حديث من أحاديث رسول الله صلوات الله وسلامه عليه.
وذاك يستفتيه في أمر من أمور الدين.
وثالث يستنصحه في شأن من شؤون الدنيا.
ورابع يطلب منه الدعاء.
وكان في جملة من لحق به خليفة المسلمين سليمان بن عبد الملك، فلما رآه الناس، وسعوا له حتى حاذى مَنكِبُه مَنكِبَ سالم بن عبد الله، فمال عليه وهمس في أذنه قائلاً: "ها نحن أولاء قد غدونا خارج المسجد، فسلني حاجة أقضها لك".
فقال سالم: "من حوائج الدنيا أم من حوائج الآخرة؟".
فارتبك الخليفة وقال: "بل من حوائج الدنيا".
فقال له سالم: "إنني لم أطلب حوائج الدنيا ممن يملكها؛ فكيف أطلبها ممن لا يملكها؟".
فخجل الخليفة منه وَحَـيَّاه، وانصرف عنه وهو يقول: "ما أعزكم آل الخطاب بالزهادة والتقى؟ وما أغناكم بالله جل وعز؟ بارك الله عليكم من آل بيتٍ".

وفي السنة التي قَبْـلَها حَجَّ الوليدُ بن عبد الملك.
فلما أفاض الناس من عرفات، لقي الخليفةُ سالمَ بنَ عبد الله في المزدلفة وهو مُحْرِمٌ؛ فحياه وبيَّاه، ثم نظر إلى جسده المكشوف فوجده تام البنية، بادي القوة، كأنه بناءٌ مبنيٌّ؛ فقال له: "إنك لحسن الجِسْم يا أبا عمر، فما أكثرُ طعامِك؟".
فقال: "الخبزُ والزيتُ، وإذا وجدتُ اللحمَ أحياناً أكلتُه".
فقال: "الخبزُ والزيتُ؟".
فقال: "نعم".
فقال: "أوَ تشتهيه؟".
فقال: "إذا لم أشتهِه أتركُه حتى أجوعَ فأشتهيه".


وكما أشبه سالمٌ جدَّه الفاروق في الإعراض عن الدنيا والزهادة بعَرَضِها الفاني، فقد أشبهه أيضاً في الجهر بكلمة الحق مهما كانت ثقيلة الوطأة شديدة التبعات.
من ذلك أنه دخل على الحجاج ذات مرة في حاجة من حوائج المسلمين.
فرحب به الحجاج وأدنى مجلسه وبالغ في إكرامه.
وفيما هما كذلك؛ إذ أُتي الحجاج بطائفة من الرجال؛ شُعثِ الشعور، غُبْرِ الأجسام، صفرِ الوجوه، مقرَّنِينَ في الأصفاد مقيدين في الحديد.
فالتفت الحجاجُ إلى سالمٍ وقال: "هؤلاء بغاةٌ مفسدون في الأرض؛ مستبيحون لما حرَّم الله من الدماء".
ثم أعطاه سيفه، وأشار إلى أولهم وقال: "عليك به فقم إليه واضرِبْ عنقه".
فأخذ سالم السيف من يد الحجاج، ومضى إلى الرجل.
وقد شخصت أبصار القوم نحوه تنظر ماذا يفعل؟.
فلما وقف على الرجل قال له: "أمسلم أنت؟".
فقال: "نعم، ولكن ما أنت وهذا السؤال؟ امض لإنفاذ ما أمرت به".
فقال له سالم: "وهل صليت الصبح؟".
فقال الرجل: "قلت لك إني مسلم، ثم تسألني إن كنت صليت الصبح؟ وهل تظن أن هناك مسلماً لا يصلي؟".
فقال سالم: "أسألك أصليت صبح هذا اليوم؟".
فقال الرجل: "هداك الله، قلت لك نعم، وسألتك أن تنفذ ما أمرك به هذا الظالم، وإلا عرضت نفسك لسخطه".

فرجع سالم إلى الحجاج ، ورمى السيف بين يديه وقال: "إن الرجل يقر بأنه مسلم، ويقول إنه صلى صبح هذا اليوم، وقد بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من صلى صلاة الصبح فهو في ذمة الله» وإني لا أقتل رجلاً دخل في ذمة الله عز وجل".
فقال له الحجاج مغضباً:‏ "إننا لا نقتله على ترك صلاة الصبح، وإنما نقتله لأنه ممن أعان على قتل الخليفة عثمان بن عفان".
فقال له سالم: "إن في الناس من هو أولى مني ومنك بدم عثمان".
فسكت الحجاج، ولم يحر جواباً.
ثم إن أحد شهود المجلس قدم على المدينة وأخبر عبدَ الله بن عمر بما طلبه الحجاج من ابنه سالمٍ.
فلم يتريث حتى يسمع بقية الخبر.
وإنما بادر محدثه قائلاً: "وما صنع سالم بأمر الحجاج؟".
فقال له: "صنع كذا وكذا".
فسُرِّي عنه، وقال: "كَـيِّـسٌ كَـيِّـسٌ، عاقِلٌ عاقِلٌ".


ولما آلت الخلافة إلى عمرَ بن عبد العزيز كتب إلى سالم بن عبد الله يقول: "أما بعد، فإن الله عز وجل ابتلاني بما ابتلاني به من ولاية أمر المسلمين عن غير مشورة مني ولا طلب. فأسأل الله الذي ابتلاني بهذا الأمر أن يعينني عليه. فإذا جاءك كتابي هذا؛ فابعث لي بكُتُبِ عمرَ بن الخطاب، وأقضِيَتِه، وسيرته؛ فإني عازمٌ على أن أتَّبِع سيرَتَه وأسير على نهجه إن أعانني الله على ذلك. والسلام".

فكتب إليه سالمٌ يقول: "أما بعد، فقد جاءني كتابُك الذي تذكر فيه أن الله عز وجل ابتلاك بإمرة المسلمين من غير طلب منك ولا مشورة. وأنك تريد أن تسير بسيرة عمر. فلا يَـفُـتْـكَ أنك في زمان غيرِ زمان عمر وأنه ليس في رجالك من يماثِل رجال عمر.
ولكن اعلم أنك إن نويتَ الحق وأردته؛ أعانك الله عليه، وأتاح لك عمالاً يقومون لك به.
وأتاك بهم من حيثُ لا تحتَسِبُ.
فإنَّ عون الله للعبد على قدر نيته.
فمن تَمَّت نيتُه في الخير تم عونُ الله له، ومن قصُرت نيتُه نقص من عون الله له بقدر نقص نيته.
وإذا نازعَتْكَ نفسُك إلى شيء مما لا يُرضِى الله عز وجل؛ فاذكر من كان قبلك من ذوي السلطان الذين سبقوك إلى الرحيل عن هذه الدنيا.
وسلْ نفسَك كيف تفَقَّأَت عيونُهم التي كانوا يشهدون بها اللذات، وكيف تمزقت بطونُهم التي كانوا لا يشبعون بها من الشهوات.
وكيف صارُوا جيَفاً لو تُركَت إلى جانب مساكننا ولم توارها آكامُ الأرض [مرتفعاتها]؛ لضجَجْنا من ريحِها.
ولمَسَّنا الضرُّ من نَـتْـنِـها.
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته".


وبعدُ، فقد عاش سالم بنُ عبدِ الله بن عمر بن الخطاب عُـمُراً مديداً حافلاً بالتقى، عامراً بالهدى، أعرض فيه عن زينة الدنيا وزخرفها، وأقبل خلالَه على ما يُرضي الله، فأكل من الطعام ما غلُظ، ولبس من الثياب ما خشُن، وغزا الرومَ مع جيوش المسلمين جُندياً، وقضى حوائجَ المسلمين، وحنا عليهم حُـنُـوَّ الأمهات، فلما أتاه اليقينُ سنة ستٍّ ومائة للهجرة؛ ارتجَّت المدينةُ حزناً عليه، وتَرَك نعيُه في كل قلبٍ لوعة، وعلى كل خد دمعة، وهَبَّ الناسُ، كلُّ الناس يشيعون جَنَازتَه، ويشهدون مدفنه، وكان هشامُ بنُ عبد الملك يومئذٍ موجوداً في المدينة؛ فخرج للصلاة عليه وتشييعه.
فلما رأى تزاحمَ الناس وتدفُّقَهم؛ هالَتْـه كثرتُهم، وأثارت في صدره شيئاً من الحسد، فساءَل نفسَه قائلاً: "تُرى كم يخرجُ من هؤلاء الناس لو أن الخليفة مات في بلدهم هذا؟". ثم قال لإبراهيم بنِ هشامٍ المخزومي واليه على المدينة: "افرض على أهل المدينة أن يبعثوا أربعة آلاف رجلٍ إلى الثغور".
فسُمِّي ذلك العامُ عامَ أربعة الآلاف ...


عبد الرحمن رأفت الباشا