ضـوابط التكفـير 2
منذ 2007-11-01
بقلم: د . مصطفى كرامة مخدوم
1- الاعتماد على القرآن والسنة الصحيحة
يجب علينا في قضايا التكفير وبيان الأعمال التي يكفر بها الشخص أن نرجع إلى نصوص القرآن والسنة الصحيحة، فالتكفير لا يثبت بالعقل ولا بالذوق ولا العادة لأنه حكم شرعي، والحكم الشرعي لا بدّ له من دليل.
قال بعض العلماء: "التكفير حق لله تعالى فلا يكفر إلا من كفره الله ورسوله".
وبناء على ذلك لا يصح التكفير بدون حجة واضحة، ويطالب المكفر بالدليل كما فعل ابن أبي زيد القيرواني مع الشخص الذي رمى الأشعري بالكفر.
وكذلك لا يصح التكفير تقليدا للآخرين دون دليل كما ذكره الحافظ ابن عساكر في رده على الأهوازي الذي كفر الأشعري تقليدا للمعتزلة.
لقد حاول الخوارج أن يكفروا سيدنا عثمان رضي الله عنه بأشياء لا يكفر بها شرعا.
فالواجب على المسلم التأكد من كون الفعل المعين كفرا في الأدلة الشرعية، فكثير من العوام قد يكفرون بأشياء غير مكفرة كالقول بجواز الصغائر والخطأ الاجتهادي على الأنبياء.
قال ابن تيمية: "فمن كفر القائلين بتجويز الصغائر عليهم كان مضاهيا لهؤلاء الإسماعيلية والنصيرية والرافضة، فالمكفر بمثل ذلك يستتاب فإن تاب وإلا عوقب على ذلك عقوبة تردعه وأمثاله".
فلا يصح التكفير في المسائل الاجتهادية ولا المسائل المختلف فيها اختلافا معتبرا وإن خالف السنة.
قال ابن تيمية وأجمع الصحابة وسائر أئمة المسلمين على أنه: "ليس كل من قال قولا أخطأ فيه أنه يكفر بذلك وإن كان قوله مخالفا للسنة فتكفير كل مخطئ خلاف الإجماع".
واعتبر التكفير في مسائل الاجتهاد من الغلو المنهي عنه شرعا.
وكذلك لا يصح التكفير باللوازم فإن لازم المذهب ليس بمذهب لأن الإنسان قد يقول القول ويغفل عن لوازمه بسبب محدودية علمه وعقله، ولو عرف لوازم القول لرجع عنه.
قال ابن دقيق العيد: "وقد اختلف الناس في التكفير وسببه حتى صنف فيه مفردا، والذي يقع النظر في هذا أن مآل المذهب هل هو مذهب أو لا؟ والحق أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة إلا بإنكار متواتر من الشريعة عن صاحبها فإنه حينئذ يكون مكذبا للشرع، وليس مخالفة القواطع مأخذاً للتكفير وإنما مأخذه مخالفة السمعية القطعية طريقا ودلالة".
وأسباب التكفير نوعان:
الأول: أسباب مكفرة باتفاق العلماء كسب الله والرسول والاستهزاء بالدين.
الثاني: أسباب مختلف في التكفير بها كترك الصلاة تهاونا وكسلا مع التصديق بوجوبها.
فالأصل في المسلم عند الاختلاف في كفره بقاؤه على الإسلام حتى تقوم الحجة القاطعة على كفره.
يقول العلماء: "لابد للتكفير من موجب" وهذا الموجب لا يجوز أن يكون محتملا إذ لا تكفير بالظنون والمحتملات مع وجود الأصل المتيقن وهو إسلامه، ومن دخل في الإسلام بيقين فلا يخرج منه إلا بيقين، كما يؤكده قول الفقهاء: "لا يكفر جاحد الظني".
2- الاعتماد على الظاهر في الحكم على الناس:
إن الأحكام الدنيوية مبنية على ظواهر المقالات والسلوكيات، لأن البواطن لا يمكن الاطلاع عليها، فالحكم على الناس بالإسلام أو الكفر مبني على هذا الأصل، فإذا أظهر لنا الإسلام حكمنا بإسلامه وإن كان في باطنه كافراً، وإذا أظهر لنا الكفر حكمنا بكفره وإن كان باطنه مؤمناً.
ويدل على هذا الأصل قوله تعالى: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً} [النساء:94] فنهى الله تعالى عن وصف الشخص بعدم الإيمان مع إظهاره إياه بإلقاء السلام الذي هو من شعار المسلمين.
وقد أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على أسامة بن زيد قتله الرجل الذي قال: "لا إله إلا الله" وقال له: "أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله؟".
وكان صلى الله عليه وسلم يقبل من الناس إسلامهم بمجرد إظهاره بقول أو عمل حتى ولو كانوا في الباطن على خلاف ذلك، كما في تعامله مع المنافقين فإنه أجرى عليهم أحكام الإسلام وهو عالم بحقيقتهم وأعيانهم.
وكان يقول معبراً هذا المنهج : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله» متفق عليه.
فعلّق أحكام الإسلام على قول هذه الكلمة "لا إله إلا الله" وجاء في صحيح البخاري أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال للناس: " لقد كنتم تؤاخذون في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي، وإن الوحي قد انقطع، فمن أظهر لنا شيئاً أخذناه به".
بل إن العقوبات مرتبطة بالظهور أيضاً كما في الحديث "أنهلك وفينا الصالحون" قال: «نعم إذا ظهر الخبث» رواه الترمذي، وقال عبد الله بن مسعود : "إنا قد نهينا عن التجسس، ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به" [مقاييس اللغة 5/191].
3- المعاصي ما عدا الكفر تنقص الإيمان ولا تهدمه:
من قواعد أهل السنة والجماعة وأصولهم أن المعاصي والذنوب تنقص الإيمان لكنها لا تنقضه من أساسه، وقد شبه الإمام ابن تيمية ذلك بالشجرة حيث لا يلزم من زوال بعض فروعها زوال اسمها، وبالإنسان إذا قطعت بعض أطرافه لا يزول عنه اسم الإنسان.
والأدلة على هذا المعنى:
أ- قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:178]
وجه الدلالة: أن الله تعالى نصّ على أخوة القاتل لأولياء المقتول، ولو كان كافراً بمعصيته لم يكن أخاً لهم.
ب- قوله تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات:9] إلى قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات:10]
وجه الدلالة: أن الله تعالى أثبت لهم الإيمان والأخوة الدينية مع وجود القتال بينهم، قال الإمام البخاري مستدلاً بالآية: "فسماهم المؤمنين" [ تهذيب اللغة 4/3161- مقاييس اللغة 5/191].
ج- قوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} [النساء:48]
قال الإمام البخاري في صحيحه: "باب المعاصي من أمر الجاهلية ولا يكفرّ صاحبها بارتكابه إلا الشرك" [تهذيب اللغة 4/ 3163 - لسان العرب 5/146 ، 148 ، 180].
د- ما رواه البخاري من حديث أبي هريرة في قصة شارب الخمر الذي جلده الصحابة فلما انصرف قال بعضهم: "أخزاك الله"، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تقولوا هكذا، لا تعينوا عليه الشيطان» وفي رواية: «لا تكونوا عونا للشيطان على أخيكم» وفي رواية عند أبي داود: «ولكن قولوا: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه».
وفي قصة مشابهة لرجل كان يُضحك رسولَ صلى الله عليه وسلم وجُلد يوماً في شرب الخمر، فقال رجل: "اللهم العنه، ما أكثر ما يؤتى به"، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تلعنوه، فو الله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله».
هـ- ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار».
وجه الدلالة: أنه سماهما مسلمين مع التوعد بالنار [رواه البخاري: كتاب الأدب ، ومسلم: كتاب الإيمان].
4- انقسام الكفر الوارد في النصوص إلى أكبر وأصغر:
يرد لفظ الكفر كما يدل عليه الاستقراء في النصوص بمعنى الكفر الأكبر وهو الكفر الذي يخرج صاحبه من الملة، ويقابله الإيمان كما في قوله تعالى: {فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ} [البقرة:253] وقد يرد بمعنى الكفر الأصغر وهو الذي لا يخرج صاحبه من الملة ولكن يدمغه بالفسوق، ويقابله الشكر كما في قوله: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان:3].
ومن الأول قوله تعالى: {وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [المائدة:5]، وقوله تعالى: {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ} [المائدة:73] وهو الأكثر وروداً في القرآن والسنة.
ومن الثاني قوله صلى الله عليه وسلم: «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر» ، وقوله صلى الله عليه وسلم : «من حلف بغير الله فقد كفر»، وقوله صلى الله عليه وسلم عن النساء: «يكفرن العشير وتكفرن الإحسان». قال ابن القيم: "والقصد أن المعاصي كلها من نوع الكفر الأصغر فإنها ضد الشكر الذي هو العمل بالطاعة، فالسعي إما شكر وإما كفر، وإما ثالث لا من هذا ولا من هذا" [رواه البخاري: كتاب الأدب ، مسلم: كتاب الإيمان].
وقال ابن عباس في قوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] "كفر دون كفر".
وبوّب البخاري في الصحيح فقال: "باب ظلم دون ظلم" ثم روى قول عبدالله بن مسعود: لما نزلت {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ} [الأنعام:82]، قال أصحاب رسول الله عليه وسلم: أيّنا لم يظلم؟ فأنزل الله: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13] [ رواه البخاري: كتاب الأدب].
5- جواز اجتماع بعض شعب الإيمان وبعض شعب النفاق في الشخص الواحد:
من القواعد المقررة لدى أهل السنة والجماعة أن الشخص الواحد قد تجتمع فيه بعض شعب الإيمان وبعض شعب النفاق والكفر، فهو مؤمن بإيمانه وفاسق بمعصيته، فيه مظاهر الإيمان، وفيه مظاهر الكفر.
ومن ذلك صنيع حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه حيث اجتمع فيه الإيمان الذي جعله من أهل بدر، والنفاق العملي الذي جعله يوالي الكفار ظاهراً.
ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر: «إنك امرؤ فيك جاهلية» رواه البخاري، مع كونه معروفاً بصدقه في إيمانه وسلوكه [رواه البخاري: كتاب الحج، ومسلم: في كتاب الإيمان].
ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : «من مات ولم يغزو ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق» .
وقال عند حديثه عن شعب النفاق: «ومن كانت فيه شعبة منهن كانت فيه شعبة من النفاق حتى يدعها».
قال الإمام ابن تيمية: "وهذا كثير في كلام السلف، يبينون أن الشخص قد يكون فيه إيمان ونفاق".
وقال أيضاً: "وطوائف أهل الأهواء من الخوارج والمعتزلة والجهمية والمرجئة يقولون: "إنه لا يجتمع في العبد إيمان ونفاق، ومنهم من يدعي الإجماع على ذلك، ومن هنا غلطوا فيه، وخالفوا فيه الكتاب والسنة وآثار الصحابة والتابعين لهم بإحسان مع مخالفة صريح المعقول، بل الخوارج والمعتزلة طردوا هذا الأصل الفاسد"، وقالوا: "لا يجتمع في الشخص الواحد طاعة يستحق بها الثواب، ومعصية يستحق بها العقاب، ولا يكون الشخص الواحد محموداً من وجه، مذموماً من وجه". إن الشخص الواحد قد يعذبه الله بالنار ثم يدخله الجنة كما نطقت بذلك الأحاديث الصحيحة، وهذا الشخص له سيئات عذب بها، وله حسنات دخل بها الجنة، وله معصيته وطاعته باتفاق. وعلى هذا ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في تسمية كثير من الذنوب كفراً مع أن صاحبها قد يكون معه أكثر من مثقال ذرة من إيمان فلا يخلد في النار" [تهذيب اللغة 4/3162].
وكثير ممن وقع في الغلو ظنوا أن الشخص إما أن يكون مؤمناً خالصاً أو كافراً خالصاً ولا واسطة بينهما فحكموا بالكفر على بعض الأشخاص والمجتمعات التي سادت فيها خصال الجاهلية مع وجود الإسلام [ظاهرة الغلو في الت].
6- وجوب التفريق بين تكفير النوع وتكفير الشخص المعيّن:
من قواعد أهل السنة والجماعة ضرورة التفريق بين التكفير المطلق المعلّق بالأعمال، وبين تكفير الشخص أو الطائفة المعينة، فيقولون: العمل الفلاني كفر، ومن قال كذا فهو كافر، ولكن عندما يتعلق الحكم بشخص معيّن ينظرون إلى توفر الأسباب والشروط وانتفاء الموانع، وبالتالي فقد يكون عمله كفراً ولكن لا يحكم على الشخص بالكفر بناءً على عذر شرعي مثل كونه حديث عهد بإسلام أو نشأ بأرض بعيدة عن العلم وأهله أو عرضت له شبهة تأويل.
قال ابن تيمية: "إن القول قد يكون كفراً فيطلق القول بتكفير صاحبه، ويقال: من قال هذا فهو كافر، لكن الشخص المعيّن الذي قاله لا يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها، وهذا كما في نصوص الوعيد فإن الله يقول: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} [النساء:10] فهذا ونحوه من نصوص الوعيد حق لكن الشخص المعين لا يشهد عليه بالوعيد، فلا يشهد على معين من أهل القبلة بالنار لجواز أن لا يلحقه الوعيد لفوات شرط أو ثبوت مانع، فقد لا يكون التحريم بلغة، وقد يتوب من فعل المحرم، وقد تكون له حسنات عظيمة تمحو عقوبة المحرم، وقد يبتلى بمصائب تكفر عنه، وقد يشفع فيه شفيع مطاع، وهكذا الأقوال التي يكفر قائلها، قد يكون الرجل لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق. وقد تكون بلغته ولم تثبت عنده أو لم يتمكن من فهمها وقد تكون عرضت له شبهات يعذره الله بها. ومذاهب الأئمة مبنية على هذا التفصيل بين النوع والمعيّن".
ويشهد لما سبق قوله صلى الله عليه وسلم: «كان رجل ممن كان قبلكم يسيء الظن بعمله فقال لأهله: "إذا أنا مت فخذوني فذروني في البحر في يوم صائف" ففعلوا به فجمعه الله ثم قال: "ما حملك على الذي صنعت؟" قال: "ما حملني عليه إلا مخافتك فغفر له".
وفي رواية أنه قال: "لو قدر الله عليّ ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين".
قال ابن تيميه: "فهذا رجل شك في قدرة الله وفي إعادته إذا ذرّي بل اعتقد أنه لا يعاد، وهذا كفر باتفاق المسلمين لكنه كان جاهلاً لا يعلم ذلك، وكان مؤمناً يخاف الله أن يعاقبه فغفر له بذلك".
ويشهد لهذا الأصل أيضاً قصة قدامة بن مظعون وهو من أهل بدر الذي اجتهد واستحل شرب الخمر متأولاً قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَات} [المائدة:93].
فردّ عليه عمر وقال: "أخطأت التأويل فإنك إذا اتقيت اجتنبت ما حرم الله عليك" ثم أمر بإقامة الحد عليه.
فهذا الصحابي استحلّ محرماً بسبب الشبهة والتأويل ولم يكفره عمر والصحابة رضي الله عنهم لذلك.
وهكذا جرى عمل الإمام أحمد وغير من علماء الأمة حيث إنه كفر الجهمية، ولكنه لم يكفر أعيانهم ولا من وافقهم من الخلفاء وغيرهم، بل اعتقد إمامة الخليفة وصلى خلفه.
قال ابن قدامة: "وقد عرف من مذهب الخوارج تكفير كثير من الصحابة ومن بعدهم واستحلال دمائهم وأموالهم واعتقادهم التقرب بقتلهم إلى ربهم، ومع هذا لم يحكم الفقهاء بكفرهم لتأويلهم، وكذلك يخرج في كل محرم استحل بتأويل مثل هذا" ثم قال: "وكذلك كل جاهل بشيء يمكن أن يجهله لا يحكم بكفره حتى يعرف ذلك وتزول عنه الشبهة ويستحله بعد ذلك". والله أعلم.
1- الاعتماد على القرآن والسنة الصحيحة
يجب علينا في قضايا التكفير وبيان الأعمال التي يكفر بها الشخص أن نرجع إلى نصوص القرآن والسنة الصحيحة، فالتكفير لا يثبت بالعقل ولا بالذوق ولا العادة لأنه حكم شرعي، والحكم الشرعي لا بدّ له من دليل.
قال بعض العلماء: "التكفير حق لله تعالى فلا يكفر إلا من كفره الله ورسوله".
وبناء على ذلك لا يصح التكفير بدون حجة واضحة، ويطالب المكفر بالدليل كما فعل ابن أبي زيد القيرواني مع الشخص الذي رمى الأشعري بالكفر.
وكذلك لا يصح التكفير تقليدا للآخرين دون دليل كما ذكره الحافظ ابن عساكر في رده على الأهوازي الذي كفر الأشعري تقليدا للمعتزلة.
لقد حاول الخوارج أن يكفروا سيدنا عثمان رضي الله عنه بأشياء لا يكفر بها شرعا.
فالواجب على المسلم التأكد من كون الفعل المعين كفرا في الأدلة الشرعية، فكثير من العوام قد يكفرون بأشياء غير مكفرة كالقول بجواز الصغائر والخطأ الاجتهادي على الأنبياء.
قال ابن تيمية: "فمن كفر القائلين بتجويز الصغائر عليهم كان مضاهيا لهؤلاء الإسماعيلية والنصيرية والرافضة، فالمكفر بمثل ذلك يستتاب فإن تاب وإلا عوقب على ذلك عقوبة تردعه وأمثاله".
فلا يصح التكفير في المسائل الاجتهادية ولا المسائل المختلف فيها اختلافا معتبرا وإن خالف السنة.
قال ابن تيمية وأجمع الصحابة وسائر أئمة المسلمين على أنه: "ليس كل من قال قولا أخطأ فيه أنه يكفر بذلك وإن كان قوله مخالفا للسنة فتكفير كل مخطئ خلاف الإجماع".
واعتبر التكفير في مسائل الاجتهاد من الغلو المنهي عنه شرعا.
وكذلك لا يصح التكفير باللوازم فإن لازم المذهب ليس بمذهب لأن الإنسان قد يقول القول ويغفل عن لوازمه بسبب محدودية علمه وعقله، ولو عرف لوازم القول لرجع عنه.
قال ابن دقيق العيد: "وقد اختلف الناس في التكفير وسببه حتى صنف فيه مفردا، والذي يقع النظر في هذا أن مآل المذهب هل هو مذهب أو لا؟ والحق أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة إلا بإنكار متواتر من الشريعة عن صاحبها فإنه حينئذ يكون مكذبا للشرع، وليس مخالفة القواطع مأخذاً للتكفير وإنما مأخذه مخالفة السمعية القطعية طريقا ودلالة".
وأسباب التكفير نوعان:
الأول: أسباب مكفرة باتفاق العلماء كسب الله والرسول والاستهزاء بالدين.
الثاني: أسباب مختلف في التكفير بها كترك الصلاة تهاونا وكسلا مع التصديق بوجوبها.
فالأصل في المسلم عند الاختلاف في كفره بقاؤه على الإسلام حتى تقوم الحجة القاطعة على كفره.
يقول العلماء: "لابد للتكفير من موجب" وهذا الموجب لا يجوز أن يكون محتملا إذ لا تكفير بالظنون والمحتملات مع وجود الأصل المتيقن وهو إسلامه، ومن دخل في الإسلام بيقين فلا يخرج منه إلا بيقين، كما يؤكده قول الفقهاء: "لا يكفر جاحد الظني".
2- الاعتماد على الظاهر في الحكم على الناس:
إن الأحكام الدنيوية مبنية على ظواهر المقالات والسلوكيات، لأن البواطن لا يمكن الاطلاع عليها، فالحكم على الناس بالإسلام أو الكفر مبني على هذا الأصل، فإذا أظهر لنا الإسلام حكمنا بإسلامه وإن كان في باطنه كافراً، وإذا أظهر لنا الكفر حكمنا بكفره وإن كان باطنه مؤمناً.
ويدل على هذا الأصل قوله تعالى: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً} [النساء:94] فنهى الله تعالى عن وصف الشخص بعدم الإيمان مع إظهاره إياه بإلقاء السلام الذي هو من شعار المسلمين.
وقد أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على أسامة بن زيد قتله الرجل الذي قال: "لا إله إلا الله" وقال له: "أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله؟".
وكان صلى الله عليه وسلم يقبل من الناس إسلامهم بمجرد إظهاره بقول أو عمل حتى ولو كانوا في الباطن على خلاف ذلك، كما في تعامله مع المنافقين فإنه أجرى عليهم أحكام الإسلام وهو عالم بحقيقتهم وأعيانهم.
وكان يقول معبراً هذا المنهج : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله» متفق عليه.
فعلّق أحكام الإسلام على قول هذه الكلمة "لا إله إلا الله" وجاء في صحيح البخاري أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال للناس: " لقد كنتم تؤاخذون في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي، وإن الوحي قد انقطع، فمن أظهر لنا شيئاً أخذناه به".
بل إن العقوبات مرتبطة بالظهور أيضاً كما في الحديث "أنهلك وفينا الصالحون" قال: «نعم إذا ظهر الخبث» رواه الترمذي، وقال عبد الله بن مسعود : "إنا قد نهينا عن التجسس، ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به" [مقاييس اللغة 5/191].
3- المعاصي ما عدا الكفر تنقص الإيمان ولا تهدمه:
من قواعد أهل السنة والجماعة وأصولهم أن المعاصي والذنوب تنقص الإيمان لكنها لا تنقضه من أساسه، وقد شبه الإمام ابن تيمية ذلك بالشجرة حيث لا يلزم من زوال بعض فروعها زوال اسمها، وبالإنسان إذا قطعت بعض أطرافه لا يزول عنه اسم الإنسان.
والأدلة على هذا المعنى:
أ- قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:178]
وجه الدلالة: أن الله تعالى نصّ على أخوة القاتل لأولياء المقتول، ولو كان كافراً بمعصيته لم يكن أخاً لهم.
ب- قوله تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات:9] إلى قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات:10]
وجه الدلالة: أن الله تعالى أثبت لهم الإيمان والأخوة الدينية مع وجود القتال بينهم، قال الإمام البخاري مستدلاً بالآية: "فسماهم المؤمنين" [ تهذيب اللغة 4/3161- مقاييس اللغة 5/191].
ج- قوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} [النساء:48]
قال الإمام البخاري في صحيحه: "باب المعاصي من أمر الجاهلية ولا يكفرّ صاحبها بارتكابه إلا الشرك" [تهذيب اللغة 4/ 3163 - لسان العرب 5/146 ، 148 ، 180].
د- ما رواه البخاري من حديث أبي هريرة في قصة شارب الخمر الذي جلده الصحابة فلما انصرف قال بعضهم: "أخزاك الله"، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تقولوا هكذا، لا تعينوا عليه الشيطان» وفي رواية: «لا تكونوا عونا للشيطان على أخيكم» وفي رواية عند أبي داود: «ولكن قولوا: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه».
وفي قصة مشابهة لرجل كان يُضحك رسولَ صلى الله عليه وسلم وجُلد يوماً في شرب الخمر، فقال رجل: "اللهم العنه، ما أكثر ما يؤتى به"، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تلعنوه، فو الله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله».
هـ- ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار».
وجه الدلالة: أنه سماهما مسلمين مع التوعد بالنار [رواه البخاري: كتاب الأدب ، ومسلم: كتاب الإيمان].
4- انقسام الكفر الوارد في النصوص إلى أكبر وأصغر:
يرد لفظ الكفر كما يدل عليه الاستقراء في النصوص بمعنى الكفر الأكبر وهو الكفر الذي يخرج صاحبه من الملة، ويقابله الإيمان كما في قوله تعالى: {فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ} [البقرة:253] وقد يرد بمعنى الكفر الأصغر وهو الذي لا يخرج صاحبه من الملة ولكن يدمغه بالفسوق، ويقابله الشكر كما في قوله: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان:3].
ومن الأول قوله تعالى: {وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [المائدة:5]، وقوله تعالى: {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ} [المائدة:73] وهو الأكثر وروداً في القرآن والسنة.
ومن الثاني قوله صلى الله عليه وسلم: «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر» ، وقوله صلى الله عليه وسلم : «من حلف بغير الله فقد كفر»، وقوله صلى الله عليه وسلم عن النساء: «يكفرن العشير وتكفرن الإحسان». قال ابن القيم: "والقصد أن المعاصي كلها من نوع الكفر الأصغر فإنها ضد الشكر الذي هو العمل بالطاعة، فالسعي إما شكر وإما كفر، وإما ثالث لا من هذا ولا من هذا" [رواه البخاري: كتاب الأدب ، مسلم: كتاب الإيمان].
وقال ابن عباس في قوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] "كفر دون كفر".
وبوّب البخاري في الصحيح فقال: "باب ظلم دون ظلم" ثم روى قول عبدالله بن مسعود: لما نزلت {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ} [الأنعام:82]، قال أصحاب رسول الله عليه وسلم: أيّنا لم يظلم؟ فأنزل الله: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13] [ رواه البخاري: كتاب الأدب].
5- جواز اجتماع بعض شعب الإيمان وبعض شعب النفاق في الشخص الواحد:
من القواعد المقررة لدى أهل السنة والجماعة أن الشخص الواحد قد تجتمع فيه بعض شعب الإيمان وبعض شعب النفاق والكفر، فهو مؤمن بإيمانه وفاسق بمعصيته، فيه مظاهر الإيمان، وفيه مظاهر الكفر.
ومن ذلك صنيع حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه حيث اجتمع فيه الإيمان الذي جعله من أهل بدر، والنفاق العملي الذي جعله يوالي الكفار ظاهراً.
ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر: «إنك امرؤ فيك جاهلية» رواه البخاري، مع كونه معروفاً بصدقه في إيمانه وسلوكه [رواه البخاري: كتاب الحج، ومسلم: في كتاب الإيمان].
ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : «من مات ولم يغزو ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق» .
وقال عند حديثه عن شعب النفاق: «ومن كانت فيه شعبة منهن كانت فيه شعبة من النفاق حتى يدعها».
قال الإمام ابن تيمية: "وهذا كثير في كلام السلف، يبينون أن الشخص قد يكون فيه إيمان ونفاق".
وقال أيضاً: "وطوائف أهل الأهواء من الخوارج والمعتزلة والجهمية والمرجئة يقولون: "إنه لا يجتمع في العبد إيمان ونفاق، ومنهم من يدعي الإجماع على ذلك، ومن هنا غلطوا فيه، وخالفوا فيه الكتاب والسنة وآثار الصحابة والتابعين لهم بإحسان مع مخالفة صريح المعقول، بل الخوارج والمعتزلة طردوا هذا الأصل الفاسد"، وقالوا: "لا يجتمع في الشخص الواحد طاعة يستحق بها الثواب، ومعصية يستحق بها العقاب، ولا يكون الشخص الواحد محموداً من وجه، مذموماً من وجه". إن الشخص الواحد قد يعذبه الله بالنار ثم يدخله الجنة كما نطقت بذلك الأحاديث الصحيحة، وهذا الشخص له سيئات عذب بها، وله حسنات دخل بها الجنة، وله معصيته وطاعته باتفاق. وعلى هذا ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في تسمية كثير من الذنوب كفراً مع أن صاحبها قد يكون معه أكثر من مثقال ذرة من إيمان فلا يخلد في النار" [تهذيب اللغة 4/3162].
وكثير ممن وقع في الغلو ظنوا أن الشخص إما أن يكون مؤمناً خالصاً أو كافراً خالصاً ولا واسطة بينهما فحكموا بالكفر على بعض الأشخاص والمجتمعات التي سادت فيها خصال الجاهلية مع وجود الإسلام [ظاهرة الغلو في الت].
6- وجوب التفريق بين تكفير النوع وتكفير الشخص المعيّن:
من قواعد أهل السنة والجماعة ضرورة التفريق بين التكفير المطلق المعلّق بالأعمال، وبين تكفير الشخص أو الطائفة المعينة، فيقولون: العمل الفلاني كفر، ومن قال كذا فهو كافر، ولكن عندما يتعلق الحكم بشخص معيّن ينظرون إلى توفر الأسباب والشروط وانتفاء الموانع، وبالتالي فقد يكون عمله كفراً ولكن لا يحكم على الشخص بالكفر بناءً على عذر شرعي مثل كونه حديث عهد بإسلام أو نشأ بأرض بعيدة عن العلم وأهله أو عرضت له شبهة تأويل.
قال ابن تيمية: "إن القول قد يكون كفراً فيطلق القول بتكفير صاحبه، ويقال: من قال هذا فهو كافر، لكن الشخص المعيّن الذي قاله لا يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها، وهذا كما في نصوص الوعيد فإن الله يقول: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} [النساء:10] فهذا ونحوه من نصوص الوعيد حق لكن الشخص المعين لا يشهد عليه بالوعيد، فلا يشهد على معين من أهل القبلة بالنار لجواز أن لا يلحقه الوعيد لفوات شرط أو ثبوت مانع، فقد لا يكون التحريم بلغة، وقد يتوب من فعل المحرم، وقد تكون له حسنات عظيمة تمحو عقوبة المحرم، وقد يبتلى بمصائب تكفر عنه، وقد يشفع فيه شفيع مطاع، وهكذا الأقوال التي يكفر قائلها، قد يكون الرجل لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق. وقد تكون بلغته ولم تثبت عنده أو لم يتمكن من فهمها وقد تكون عرضت له شبهات يعذره الله بها. ومذاهب الأئمة مبنية على هذا التفصيل بين النوع والمعيّن".
ويشهد لما سبق قوله صلى الله عليه وسلم: «كان رجل ممن كان قبلكم يسيء الظن بعمله فقال لأهله: "إذا أنا مت فخذوني فذروني في البحر في يوم صائف" ففعلوا به فجمعه الله ثم قال: "ما حملك على الذي صنعت؟" قال: "ما حملني عليه إلا مخافتك فغفر له".
وفي رواية أنه قال: "لو قدر الله عليّ ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين".
قال ابن تيميه: "فهذا رجل شك في قدرة الله وفي إعادته إذا ذرّي بل اعتقد أنه لا يعاد، وهذا كفر باتفاق المسلمين لكنه كان جاهلاً لا يعلم ذلك، وكان مؤمناً يخاف الله أن يعاقبه فغفر له بذلك".
ويشهد لهذا الأصل أيضاً قصة قدامة بن مظعون وهو من أهل بدر الذي اجتهد واستحل شرب الخمر متأولاً قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَات} [المائدة:93].
فردّ عليه عمر وقال: "أخطأت التأويل فإنك إذا اتقيت اجتنبت ما حرم الله عليك" ثم أمر بإقامة الحد عليه.
فهذا الصحابي استحلّ محرماً بسبب الشبهة والتأويل ولم يكفره عمر والصحابة رضي الله عنهم لذلك.
وهكذا جرى عمل الإمام أحمد وغير من علماء الأمة حيث إنه كفر الجهمية، ولكنه لم يكفر أعيانهم ولا من وافقهم من الخلفاء وغيرهم، بل اعتقد إمامة الخليفة وصلى خلفه.
قال ابن قدامة: "وقد عرف من مذهب الخوارج تكفير كثير من الصحابة ومن بعدهم واستحلال دمائهم وأموالهم واعتقادهم التقرب بقتلهم إلى ربهم، ومع هذا لم يحكم الفقهاء بكفرهم لتأويلهم، وكذلك يخرج في كل محرم استحل بتأويل مثل هذا" ثم قال: "وكذلك كل جاهل بشيء يمكن أن يجهله لا يحكم بكفره حتى يعرف ذلك وتزول عنه الشبهة ويستحله بعد ذلك". والله أعلم.
- التصنيف: