التعامل مع المبتدعة في مقام الدعوة - (4) تنبيهات عند دعوة المبتدع

منذ 2014-04-06

فينبغي على الداعية لأهل البدع أن يعرف متى يستخدم الشدة؟ ومتى يستخدم اللين؟ وما يحقق المصلحة الشرعية وما لا يحققها، فيضع الشدة في مكانها، واللين في مكانه، لأن إغفال هذا الأمر مضر.

تنبيهات عند دعوة المبتدع:

وهذه أمور ينبغي أن يُنتبه لها عند قصد دعوة أهل البدع:

1- ألا يحملنا كراهة البدعة وأهلها على الغلو مع المبتدعة، بل لا بد من العلم ومعرفة القواعد والمقاصد الشرعية التي تضبط تصرفات المكلفين وتقدير المصالح والمفاسد أثناء دعوتهم، فقد ظن أناس أن هجر المبتدع حكم شرعي لازم كملازمة المسببات لأسبابها، وهو بمنزلة الحد أو هو كالبراء، والواقع أن هجر المبتدع كغيره من عقوبات المبتدعة وأهل المنكرات من المصالح المرسَلة التي تقدر بقدرها، ويعمل بها حسب الحال.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- مبينًا اختلاف الناس في أخذهم بعقوبة هجر المبتدع: "إن أقواماً جعلوا ذلك عامًّا فاستعملوا من الهجر والإنكار ما لم يؤمروا به مما لا يجب ولا يستحب، وربما تركوا به واجبات أو مستحبات وفعلوا به محرمات، وآخرون أعرضوا عن ذلك بالكلية، فلم يهجروا ما أُمِروا بهجره من السيئات البدعية، بل تركوها ترك المعرض لا ترك المنتهي الكاره... ولا يعاقبون بالهجرة ونحوها من يستحق العقوبة عليها، فيكونون قد ضيعوا من النهي عن المنكر ما أمروا به إيجابًا أو استحبابًا.. ودين الله وسط بين الغالي فيه والجافي عنه" (مجموع الفتاوى:ج28/213).

2- كما أنه لا يجوز اتخاذ موقف سلبي من مسلم بسبب أمور وقع فيها إلا بعد أن يغلب على الظن أنها بدعة، أو معصية، من خلال معرفة كون ذلك العمل أو الأعمال بدعة فعلاً أو معصية، فإن جملة من الخلافات التي تقع بين الناس في المسائل الشرعية يكون سببها قصر النظر في فهم الخلاف المذهبي الفقهي، وفي الوقت ذاته توسيع دائرته ليصبح خلافًاً عقديًاً أو مخالفات شرعية، أو ربما كانت في أمور دنيوية ليست من الشرع أصلاً (قضايا دعوية.. كيف نتعامل مع المبتدعة ؟ لسليمان الخضير، بتصرف)، فينبغي للمسلم أن يعرف مفهوم البدعة وماذا يشمل؟ فإن الحكم على الشيء فرع عن تصوره.

3- كما أنه لا بد من العدل مع المبتدعة حتى يكون ذلك سببًا لاستجابتهم، فإن العدل فضيلة مطلقة، لا تقييد في فضله، فهو ممدوح في كل زمان، وكل مكان، وكل حال، ممدوح من كل أحد، مع كل أحد، بخلاف كثير من الأخلاق فإنه يلحقها الاستثناء والتقييد، ولهذا اتفقت على فضله الشرائع والفطر والعقول، وما من أمة أو أهل ملة إلا يرون للعدل مقامه.

 

وبالعدل تحصيل العبودية لله وحده، وبه تُعطى الحقوق، وتُرد المظالم، وبه تأتلف القلوب، لأن من أسباب الاختلاف الظلم والبغي والعدوان، وبه يُقبل القول، أو يعذر قائله، وبه تحصل الطمأنينة والاستقرار النفسي، فالخلاف مضيق لآراء الناس ومواقفهم، وعند المضايق يذهب اللب، وإذا ذهب اللب فلا تسأل عن ضياع حقوق المخالف، بل ضياع الحق نفسه في أحيان كثيرة، ففي الوقت الذي ندين لله تعالى ببغض المبتدع واستيقان استحقاقه للعقوبة نلزم أنفسنا بما ألزمنا الله به من العدل والإنصاف، فالعدل منهج شرعي في كل شيء..

على أن العدل المحض في كل شيء -كما يقول شيخ الإسلام- متعذر علمًا وعملاً، ولكن الأمثل فالأمثل (مجموع الفتاوى:ج10/99).

 

وأصل هذا قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8]، فمن العدل ذكر ما لهم من صواب، وذلك بحسب المقام والحال، واعتبار المصالح والمفاسد، والجمع بين ذكر محاسن المبتدع والتحذير منه غير سائغ في كل مقام، وإفراد المحاسن بالذكر مظنة الاغترار، والاقتصار في جميع الأحوال على التحذير وذكر المثالب بخس وإجحاف، ولكن حسب ما يقتضيه المقام.

 

ويتمثل هذا العدل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في حديثه عن الباقلاني الأشعري مثلاً حيث يقول: "مع ما كان فيه من الفضائل العظيمة، والمحاسن الكثيرة، والرد على الزنادقة والملحدين، وأهل البدع حتى إنه لم يكن من المنتسبين إلى ابن كُلاَّب والأشعري أجلَّ منه، ولا أحسن كتبًاً وتصنيفًا" (درء تعارض العقل والنقل:ج1/283).


وقد ألف شيخ الإسلام كتابه العظيم (درء تعارض العقل والنقل) وهو مخصص للرد على الأشاعرة، وعلى رأسهم أبو عبد الله فخر الدين الرزاي، وقد ذكره في (261) موضعًا لم يصفه فيها بلفظ شائن، ولا عبارة مقذعة، ولا سماه بالمبتدع.

 

4- من كان رادًا على المبتدعة فليتحلَّ بالصبر وإلا فلا يشق على نفسه وعلى المسلمين، وليكف عن الناس أذى لسانه وبنانه فهو صدقة منه على نفسه، وليس لأحد عذر في أن يرد على الباطل بالباطل، والبدعة بالبدعة أبداً.

5- لا بد من الحرص على دعوة المبتدعة والرغبة في إيصال الحق إليهم.

6- الرغبة في مزاحمة المبتدعة في الوصول إلى الناس، وإعطائهم الأمصال الواقية من تلك البدع وإظهار ضعف حجة المبتدع، والطمع في التأثير على أبناء ملته وأتباعه على بدعته إذ رجوعهم إلى الحق أيسر من رجوعه إليه.

7- الحرص على جمع الناس على كلمة سواء، وذلك أن المسلمين مأمورون بالاعتصام بحبل الله، ولا يمكن اجتماعهم على غيره أصلاً، ففي نفي زغل البدعة وأهلها تقدُّمٌ نحو تحقيق هذا المقصد الشرعي العظيم، وليكن ذلك بالحكمة والموعظة الحسنة.

 

8- اغتفار زلة العلماء والدعاة الذين ثبت أن منهجهم هو منهج أهل السنة، ثم وقع منهم هفوة أو زلة أو بدعة متأولة ينبغي نصحهم والتحذير من الخطأ الذي وقعوا فيه، لكن لا ينبغي إسقاطهم بالكلية، وإخراجهم من المنهج لزلة أو هفوة، فإن العصمة ليست لأحد سوى الأنبياء، كما قال ابن القيم: "وكيف يعصم من الخطأ من خلق ظلومًاً جهولاً؟! ولكن من عدت غلطاته أقرب إلى الصواب ممن عدت إصاباته" (مدارج السالكين:ج3/522)، فإذا كان واجبنا أن نلتمس العذر للمسلم بصفة عامة فينبغي أن يكون لدعاتنا وعلمائنا نصيب أكبر في العذر وإحسان الظن..

وقد أشار شيخ الإسلام رحمه الله إلى الأساس الذي يقوم عليه هذا المنهج وهو الموازنة بين حسنات الرجل وسيئاته، وما له وما عليه، يقول شيخ الإسلام: "إن ما ثبت قبحه من البدع وغير البدع من المنهي عنه في الكتاب والسنة أو المخالف للكتاب والسنة إذا صدر عن شخص من الأشخاص فقد يكون على وجه يعذر فيه، إما لاجتهاد أو تقليد يعذر فيه، وإما لعدم قدرته كما قررته في غير هذا الموضع" (الفتاوى الكبرى:ج6/92)، وقال أيضاً: "إن الرجل الجليل الذي له في الإسلام قدم صالح وآثار حسنة وهو من الإسلام وأهله بمكانة عليا قد تكون منه الهفوة والزلة هو فيها معذور بل مأجور لا يجوز أن يتبع فيها مع بقاء مكانته ومنزلته في قلوب المؤمنين" (مجموع الفتاوى:ج10/371)، وقال الشاطبي: "زلة العالم لا يصح اعتمادها من جهة ولا الأخذ بها تقليدًا له وذلك لأنها موضوعة على المخالفة للشرع ولذلك عدت زلة وإلا فلو كانت معتداً بها لم يُجعل لها هذه الرتبة ولا نسب إلى صاحبها الزلل فيها، كما أنه لا ينبغي أن ينسب صاحبها إلى التقصير، ولا أن يشنع عليه بها ولا ينتقص من أجلها أو يعتقد فيه الإقدام على المخالفة بحتاً فإن هذا كله خلاف ما تقتضي رتبته في الدين" (الموافقات: ج4/170).

وقال الذهبي: (ثم إن الكبير من أئمة العلم إذا كثر صوابه، وعلم تحريه للحق، واتسع علمه، وظهر ذكاؤه، وعرف صلاحه وورعه واتباعه، يغفر له زللـه، ولا نضلله ونطرحه، وننسى محاسنه، ولا نقتدي به في بدعته وخطئه، ونرجو له التوبة من ذلك" (سير أعلام النبلاء: ج5/271).

9- لا بد أن نعلم أن عبارات السلف الشديدة في حق المبتدعة خرجت في حق أهل العناد والداعين إلى البدع، ومن هذه العبارات ما خرج من أجل الزجر عن الوقوع في البدع والتساهل فيها، أو مع أهلها، قال ابن القيم رحمه الله: "كان ابن عباس رضي الله عنهما شديدًاً على القدرية، وكذلك الصحابة" (شفاء العليل:ج1/29). ومما يُظهِرُ شدة الصحابة على المبتدعة وتبرئهم منهم قول ابن عمر رضي الله عنهما حينما سئل عن القدرية فقال: "فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم برآء مني" (أخرجه مسلم في الإيمان:ج1/28-102).

فينبغي على الداعية لأهل البدع أن يعرف متى يستخدم الشدة؟ ومتى يستخدم اللين؟ وما يحقق المصلحة الشرعية وما لا يحققها، فيضع الشدة في مكانها، واللين في مكانه، لأن إغفال هذا الأمر مضر، وكما قال المتنبي:

 

ووَضعُ الندى في موضع السيف بالعلا *** مضرٌ كوضع السيف في موضع الندى

(البيت في شرح ديوان المتنبي: ج1/266، وفي الصبح المنبي عن حيثية المتنبي: ج1/42)

والله الموفق للصواب.

المقال السابق
(3) الأصل والضوابط في التعامل مع المبتدع