عين جالوت والقضاء على القوى العظمى
نجاح الأمة الإسلامية في تخطِّي أزمة كبيرة كانت كفيلة بالقضاء عليها، والأسباب والوسائل التي أتاحت هذا النجاح.
عندما نتحدث عن عين جالوت التي سقط فيها جيش التتار، فإننا نتحدث عن موقعة غيرت خريطة العالم بالفعل، ورفعت عن كاهل الأمة الإسلامية وغير الإسلامية كابوسًا من أكبر الكوابيس التي مرَّت بها... فقد عانى العالم كله معاناةً شديدةً من كارثة كادت تقضي على كل صور ومظاهر الحاضرة في العالم لولا موقعة عين جالوت التي ردَّتْ للناس الأمن والأمان في العالم كله. إننا نتحدث -في الواقع- عن نجاح الأمة الإسلامية في تخطِّي أزمة كبيرةٍ كانت كفيلةً بالقضاء عليها، ونتحدث عن الأسباب والوسائل التي أتاحت هذا النجاح.
الاجتياح التتري للعالم الإسلامي:
التتار دولة ظهرت على حدود الصين في منغوليا سنة 603هـ/ 1206م، وقد أنشأ هذه الدولة أحد أكبر سفَّاحي ومجرمي العالم جنكيز خان، الذي كان شخصية دموية إلى أقصى درجات التخيل، كما كان ذا قدرة كبيرة على القيادة والتجميع؛ فجمع أعدادًا هائلة من التتار، وفي غضون عشر سنوات تقريبًا استطاع أن يضم كل منغوليا التي ظهر فيها، وكل الصين وكوريا وتايلاند وكمبوديا، كل ذلك دولة واحدة أصبح رئيسها جنكيز خان الذي بدأ بعد ذلك يتطلع إلى ما بعدها.
كانت المملكة الخوارزمية وهي جزء من الممالك الإسلامية (وهي الآن كازاخستان وأوزبكستان وباكستان وأفغانستان) ملاصقة لبلاد جنكيز خان، فبدأ يغزوها، واستطاع بالفعل أن يجتاح العالم الإسلامي اجتياحًا غير متخيَّل، لدرجة أنه في سنة 617هـ/ 1220م استطاعت جيوشه أن تحتل العالم الإسلامي من غرب الصين إلى شرق العراق، وتلك مساحة لا تُتَخيَّل من الأرض والكثافة السكانية العالية... وقد كانت جيوشه في منتهى القوة والعنف والإرهاب، وهذا يُظهِر الوضع الذي كان عليه المسلمون... ضعف شديد... فُرقة وبُعد المسئولين عن الدين... وتمسُّك المسلمين بالدنيا... وانفصال الحكام عن المحكومين... أمور وأمراض كثيرة أدَّت لهذا الهوان الذي وصلت إليه الأمة، وبالتالي اجتاحت جيوش التتار كل هذه المساحات.
استطاع التتار أن يُدخِلوا في حكمهم خلال هذه السنة (617هـ/ 1220م) كازاخستان وباكستان وأوزبكستان وأفغانستان وتركمانستان، وأجزاء ضخمة جدًا من إيران، وأذربيجان كلها، وأرمينيا (وكانت نصرانية)، والكرج (دولة جورجيا حاليًا)، والشيشان وداغستان وجنوب روسيا، كل هذا في عام واحد... اجتياح تام... دموية التتار الشديدة تجعل من السهل أن نذكر أن التتار ما دخلوا بلدًا إلا وقتلوا كل سكانها رجالًا ونساءً وأطفالًا، محاربين ومدنيين، كل شيء يُقتل، وتُؤخذ ثروات البلد.
دموية التتار وتدمير مرو وبغداد:
من أشهر الأمثلة غزو مدينة مرو الإسلامية، التي كانت من حواضر العلم والثقافة والاقتصاد، وهي تقع بين التركمانستان وإيران، وهذه المدينة كان سكانها تسعمائة ألف، خرج مائتا ألفٍ منهم لمحاربة التتار، وفنوا عن آخرهم، ودخل التتار وحاصروا المدينة، وأعطوا الأمان لأهلها، وخرج أهل المدينة بعهد الأمان، لكن التتار كالعادة خانوا العهد، وسفكوا دم سبعمائة ألف مسلم... قتلوا المدينة كلها ولم يبقَ بها حيٌّ واحد، وهكذا في أكثر من مدينة.
لم يكتفِ التتار بغزو العالم الإسلامي فقط، وإنما جاوزوه بعد ذلك إلى أوربا؛ لهذا أقول: إن المعاناة التي عانى منها الناس ليست معاناة إسلامية فقط لكنها معاناة إنسانية عالمية من جيوش التتار، حتى أصبحت دولة التتار سنة 639هـ/ 1241م تصل من كوريا شرقًا إلى بولندا غربًا... وبعد ذلك وفي سنة 656هـ/ 1258م استطاعوا إسقاط الخلافة العباسية وقتل الخليفة المستعصم بالله آخر الخلفاء العباسيين، وبذلك سقط الكيان الذي يجمع الأمة الإسلامية أكثر من 500 سنة وأكثر، وعندما دخلوا بغداد قتلوا مليون مسلم (وسكان بغداد في ذلك الوقت 3 مليون أي قتلوا ثلث السكان، وكانت أكبر مدينة في العالم) وبعد موقعة التتار اختفى ذكرها من الكتب ولم يعُدْ إلا في القرن العشرين؛ لأن معظم السكان ماتوا، بمن فيهم من العلماء والفقهاء والحكام والأمراء والوزراء والمفكرين، إضافةً إلى تدمير الثروات والقصور والديار، وأشهر ما دُمِّر في بغداد هي المكتبة عندما ألقوا بعصارة فكر الإنسانية كلها في نهر دجلة؛ ليختفي بذلك كمٌّ هائل من العلوم ليس في علوم الشريعة فقط، لكن في كل مجالات الحياة من طب وفلك وهندسة وكيمياء وفيزياء وجغرافيا وغيرها من العلوم.
قطز وبناء الأمة
لم يتخيل أحد أن مصر أو أية قوة في العالم الإسلامي يمكن أن تقف أمام هذا الكائن الضخم، لكن قطز رحمه الله بدأ بسياسة في منتهى الروعة في تأهيل الوزراء والأمراء والجيش والشعب لهذه الموقعة... واستغرقت فترة التأهيل عشرة أشهر، فيها وجَّه الشعبَ توجُّهًا إسلاميًّا واضحًا... جعل القضية قضية إسلامية في المقام الأول، يصرف فيها المسلم دمه وروحه وماله من أجل الله عز وجل، فقد كان القتالُ غير الذي سبق وسقط بسببه المسلمون؛ لأن المسلمين كانوا يدافعون عن دُنياهم ولا يدافعون عن دينهم، حتى الشعوب نفسها لم تكن في ذهنها قضية الدين.
بدأ قطز ينمِّي فيهم الروح والحميَّة، وحرَّك في الناس روح الإيمان، كما كان للعلماء دور مهم في مصر؛ فقد أعطى قطز للأزهر وعلمائه دورًا كبيرًا في توجيه الأمة، وإعادة بنائها روحيًّا، وكان على رأس هؤلاء العلماء العز بن عبد السلام سلطان العلماء، الذي كان يحب قطز حبًّا شديدًا، ويرى أنه أفضل المسلمين بعد عمر بن عبد العزيز... وبدأ العلماء يقومون بدورهم نحو الشعب، وبدأوا يرفعون من قيمة الجهاد في سبيل الله.
كان هناك عامل كبير في إيقاظ روح الجهاد في الأمة، وهو القدوة؛ فقطز لم يجلس في قصره الآمن يحرِّك الجيوش، وهو بمعزل عن الخطر، ولكنه فعل مثلما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ كان يفعل كل شيء بيده قبل يد الصحابة... هكذا فعل قطز، أول ما صعد لكرسيّ الحكم قال: "لم أصعد لهذا الكرسي إلا لقتال التتار بنفسي".
كما كان قطز رحمه الله يُنصِت لكلام العلماء وينفذه؛ لذا وافق العز بن عبد السلام عندما رفض فرض الضرائب على الشعب لتجهيز وإعداد الجيش إلا بعد أن ينتهي المال من بيت المال، ويردَّ الوزراء والأمراء الأموالَ التي أخذوها من بيت مال المسلمين... فعندما سمع قطز تلك الفتوى قال: "أنا أول من يفعل ذلك".
قطز وتوحيد المسلمين
بعد ذلك خطا قطز خطوة رائعة في تاريخ الإنسانية؛ لأنه بدأ يوحِّد صف المسلمين الذين كانوا على أيبك، وكان بينهم خلاف وصراع شديد... نسي كل الخلافات وأصدر عفوًا حقيقيًّا عمَّن كان على خلاف شديد معه قبل ذلك... المهم أن قطز في النهاية كوَّن جيشًا من المسلمين المصريين والشاميين.
بعد خروج الجيش لحرب التتار اختار قطز مكان الموقعة في فلسطين، مع أن كل الأمراء رفضوا أن تكون الحرب في فلسطين، لكن قطز رحمه الله حوَّل الأمر إلى قضية إسلامية، إضافةً إلى البُعد الأمني القومي لمصر التي لا تقبل بوجود عدو قوي يحتل فلسطين، وتبقى هي في أمان؛ فلا شك أن أمانها سيكون مهددًا... المهم وحَّد قطز الجيوش، وخرج بها، واختار مكان الموقعة في عين جالوت، ورتَّب جيوشه ترتيبًا محكمًا، وأعد العُدَّة بشكل في منتهى الروعة عسكريًا وتنسيقًا للجيش ومن ناحية الخطة، وسبق إلى مكان المعركة قبل جيش التتار؛ وذلك يوم 25 من رمضان سنة 658هـ/ 1260م في موقعة من أشرس المواقع في تاريخ البشرية، وشهد التتار أبشع كابوس في حياتهم عندما قيَّض الله عز وجل لعِباده النصر المؤزَّر في مثل هذه الأيام المباركات.
لقد كانت أحوال المسلمين في أيام غزو التتار غير مسبوقة ولا ملحوقة من حيث السوء والضعف، ولكنهم استعانوا بالله فنصرهم.
واليوم الأمة الإسلامية تواجه شدائد واختبارات ومحنًا عظيمة، ولكنها لا ترقى لما كانت عليه أيام التتار؛ لذا فهي تستطيع بإذن الله عز وجل أن تخرج منها لو أحسنت التوكُّل على الله، وأخذت بأسباب النصر؛ من الوحدة، والاستعداد الإيماني والعسكري.
نسأل الله عز وجل أن ينصر الإسلام والمسلمين.
- التصنيف:
- المصدر: