من وحي النظرة - (07) ذكريات
وبينما أُقلِّب بعض أوراقي القديمة يا ولدي! قفزت أمامي صورة هذا الرضيع مخترقة حاجز النسيان، مسافرة بروحي كآلة الزمن للوراء، فلا تعجب من وجومي؛ فأبوك يتلقى الآن وحيًا من نظرته ونظرتك!
يا للعجب.. هذا الطفل يُشبِهك إلى حدٍ كبير يا ولدي، نفس القوة الكامنة في تمام الضعف، ونفس النظرة النقية التي تحمل بقايا مشاهد من عالم الملائكة! جلست بينكما كطالب حريص في مجلس علم، أو كخاشع بلَّلت دموعه الأرض في مجلس وعظ..
متحرِّرًا من قوانين الدنيا، متجاوِزًا حدود الزمن، جلست بينكما يا ولدي متأمِّلًا أو إن شئت فقل: مستمِعًا لحديث غير منطوق! نظرته فيها حنين، ونظرتك هي الأمل.. نظرته تصرخ في أعماقي: انظر كيف كنت، فتواضع.. ونظرتك تهمس في كياني: تأمَّل كيف أصبحت، فاشكر..
وتسافر بي نظرته لتتركني أمامك جسدًا حلَّقت روحه في أثير الذكريات، فاستأذن أُمّك بالنيابة عني في هذه السفرة الطارئة، التي لن أحزِم فيها أمتعة، أو أقطع من أجلها تذكرة! سفرة استلال مشاهد، ودهشة تساؤل كيف فقدَ هذا الصغير نظرته البريئة في غياهب الدنيا؟!
ها هو مكب على مصحفه؛ فأبوه يعود من عمله ليسأله أول ما يسأل عن حفظ اللوح ومراجعة الجزء اليومي.. يا لروعة الفرحة في عينيه حين يكافئه أبوه مع استلامه الراتب بقرطاس "كيمو" اشتراه من المدينة وتركه في ثلاجة البقَّال المجاور ليأخذه بعد الغداء!
ويكبر الصغير قليلًا، وفي لحظة هي الفاصلة في حياته يجد هاتِفًا بداخله: "لن أترك من اليوم ركعة، وحين أكبر سألتزم السنة كما علَّمنا شيخي".. إنه يحيا حتى الآن بقوة هذه اللحظة، إنه لا يدري كنهها ولا يجد توصيفًا لهذا النداء العلوي الذي سرى صداه في كيانه حينها..
كلما ذكرها غض طرفه حياءً من ربه؛ لولا تلك اللحظة ما كان ليُجدِي معه نصح أبيه ولا تعليم شيخه، الذي لم يملّ من سؤاله عن صلاته يومًا..
كان الصغير ضعيفًا -ولم يزل- أمام عيني شيخه، فلا يسعه إلا الاعتراف وتحمل حفلة العقاب الجماعي للحُفّاظ الصغار المفرِّطين في الصلاة!
لا ينسى يوم سألته ابنة عمِّه ذات العشرة أعوام وبدون مقدِّمات: "صليت العصر؟" ويتلعثم مجيبًا: "آه طبعًا" "كدّااااااااااااب.. العصر لسه مأذنش أصلًا"! أطلقتها بثقة مع ذلك الوميض الساحر في عين الطفولة المرحة..
ويذهل الصغير عن الجواب، وتُحار عيناه ويُغادِر مجلس العائلة مُلمّلِمًا ما تبقى من نفسه..
ضحك الجميع ساعتها، لكن الصغير تفجَّرت في نفسه تساؤلات بريئة لم يخطر بباله أنها ستُغيِّر مجرى حياته..!
وتدور الأيام دورتها ويقف مع ابنة عمِّه تلك أمام بيت الله الحرام في لحظة تماهٍ في جلال القدسية، وتحليق في أجواء السكينة، وشعور بساعة استجابة: "اللهم ارزقنا ذرية صالحة"..
ولم يمرّ عام حتى وضعتك.. نوَّرت حياتنا يا "دعوة الكعبة".. كلهم انتظروك بشوق، وانتظرتك بشوق آخر.. شوق لفطرة ذاك الصغير النقية التي أحييتها فيِّ، بعد أن لوَّثتها آفات الدنيا.. شوقٌ لأن أرى نور الحقيقة في عينك البريئة..
لقد تغيَّر الصغير كثيرًا يا ولدي! ضاعت منه -ويا للأسف- تلك النظرة، وها هو جالس أمامك يبحث عنها في وحي نظرتك!
محمد عطية
كاتب مصري
- التصنيف: