داء الأمم السابقة
الحسد: هو البغض والكراهة لما يراه من حسن حال المحسود.
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإنّ من الأدواء الخبيثة، والأمراض المستعصية التي تصيب القلوب، وتبعد عن علام الغيوب، داء (الحسد)، قال ابن تيمية: "والكبر والحسد هما داءان أهلكا الأولين والآخرين، وهما أعظم الذنوب التي بها عصى الله أولًا، فإن إبليس استكبر وحسد آدم، وكذلك ابن آدم الذي قتل أخاه حسد أخاه"(1).
والحسد: هو البغض والكراهة لما يراه من حسن حال المحسود (2).
وداء الحسد أصل من أصول المعاصي التي عُصي الله بها، وهو من أوائلها، فأصول الخطايا كلها ثلاثة: الكبر وهو الذي أصار إبليس إلى ما أصاره، والحرص وهو الذي أخرج آدم من الجنة، والحسد وهو الذي جرأ أحد ابني آدم على أخيه، فمن وُقي شر هذه الثلاثة فقد وُقي الشرّ (3). وقال ابن تيمية: "قيل: أول ذنب عصي الله به ثلاثة: الحرص والكبر والحسد، فالحرص من آدم، والكبر من إبليس، والحسد من قابيل حيث قتل هابيل"(4).
وبهذا الداء العضال كان إلقاء نبي الله يوسف عليه السلام في غيابة الجُب: {إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [يوسف:8].
والحسد صفة من صفات الأمة الغضبية؛ أحفاد القردة والخنزير اليهود -عليهم لعائن الله المتتابعة-: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم...} [البقرة:109]. وعليه فلا يليق بالمسلم أن يتصف بهذه الصفة الذميمة.
والحسد يدل على خسة ودناءة صاحبه، قال ابن القيم: "والحسد خلق نفس ذميمة، وضيعة ساقطة ليس فيها حرص على الخير، فلعجزها ومهانتها تحسد من يكسب الخير والمحامد ويفوز بها دونها، وتتمنى أن لو فاته كسبها حتى يساويها في العدم؛ كما قال تعالى: {وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء} [النساء:89] (5).
والحسد داء غالب على النفوس لا يسلم منه إلا القليل، بل قد يحصل من الفضلاء، ولهذا قيل: "ما خلا جسد من حسد، لكن اللئيم يبديه والكريم يخفيه. وقد قيل للحسن البصري: أيحسد المؤمن؟ فقال: ما أنساك إخوة يوسف لا أبا لك، ولكن عمّه في صدرك فإنه لا يضرك ما لم تعذبه يدًا ولسانًا"(6).
وقد جاء في الحديث: « »(7).
وبما أنّ الحسد متأصل في النفوس وقليل من يسلم منه، فقد تظاهرت نصوص الشرع، وإجماع العلماء على تحريم الحسد؛ فمن ذلك أن الله أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يتعوذ من شر الحاسد كما أمر بالاستعاذة من شر الشيطان، فقال الله تعالى: {وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق:5] .
وكذلك أنّ النبي صلى الله عليه وسلم حذر أمته من الحسد، فقد أخرج الترمذي من حديث الزبير بن العوام رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: « »(8).
بل جاء النهي صراحة عن الحسد؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي قال: « »(9).
والحاسد إنما يسيء الأدب مع الله؛ لأنه بحسده كأنه يعترض على قدر الله، وعلى ما أسدى من النعم؛ كما قال الشاعر:
أبا حاسدا لـي علـى نعمتي *** أتدري على من أسأت الأدب
أسأت علـى الله في حكـمه *** لأنك لم ترض لـي ما وهب
فأخزاك ربـي بأن زادنــي *** وسدّ عليك وجوه الطلب(10)
والحسد لا ينفع الإنسان شيئًا بل يضره في بدنه ودينه وفي آخرته؛ فقد روي عن أبي هريرة رضي الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « »(11).
والحسد هو تمني زوال نعمة الغير، وهو من أخطر المعاصي التي عصي الله بها، ويقابل الحسد الغبطة وهي ممدوحة ومعناها: تمني مثل ما مع الغير بدون حب زواله، فإذا أحب الإنسان أن يكون له مثل علم فلان ليعمل به ويدعو إلى الله، أو تمنى أن يكون له مثل مال فلان ليقضي به شؤونه وينفق منه في وجوه الخير، من غير تمني زوال مال الغير أو علمه أو أي نعمة أخرى، فهي الغبطة ولا حرج فيها. وهذا هو معنى ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث عبد الله بن مسعود قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم: « »(12).
ومعنى الحسد هنا الغبطة ولا يحتمل غيرها، يقول النووي: "والمراد بالحديث: لا غبطة محبوبة إلا في هاتين الخصلتين وما في معناهما"(13).
إضافة إلى ذلك فإن الإنسان لا يغبط غيره، ولا ينافسه إلا في الخير، أو في نعمة دنيوية تحصّل عليها من دون تعب ولا مشقة؛ يقول شيخ الإسلام: فأمر المنافس أن ينافس في هذا النعيم لا ينافس في نعيم الدنيا الزائل، وهذا موافق لحديث النبي فإنه نهى عن الحسد إلا فيمن أوتي العلم فهو يعمل به ويعلمه ومن أوتي المال فهو ينفقه، فأما من أوتي علمًا ولم يعمل به ولم يعلمه أو أوتي مالًا ولم ينفقه في طاعة الله فهذا لا يحسد ولا يتمنى مثل حاله فإنه ليس في خير يرغب فيه، بل هو معرض للعذاب، ومن ولي ولاية فيأتيها بعلم وعدل أدى الأمانات إلى أهلها، وحكم بين الناس بالكتاب والسنة فهذا درجته عظيمة لكن هذا في جهاد عظيم كذلك المجاهد في سبيل الله.
والنفوس لا تحسد من هو في تعب عظيم فلهذا لم يذكره، وإن كان المجاهد في سبيل الله أفضل من الذي ينفق المال، بخلاف المنفق والمعلم فإن هذين ليس لهم في العادة عدو من خارج فإن قدر أنهما لهما عدو يجاهدانه فذلك أفضل لدرجتهما وكذلك لم يذكر النبي: المصلي والصائم والحاج؛ لأن هذه الأعمال لا يحصل منها في العادة من نفع الناس الذي يعظمون به الشخص ويسودونه ما يحصل بالتعليم والإنفاق.
والحسد في الأصل إنما يقع لما يحصل للغير من السؤدد والرياسة وإلا فالعامل لا يحسد في العادة ولو كان تنعمه بالأكل والشرب والنكاح أكثر من غيره بخلاف هذين النوعين فإنهما يحسدان كثيرا، ولهذا يوجد بين أهل العلم لهم أتباع من الحسد مالا يوجد فيمن ليس كذلك، وكذلك فيمن له أتباع بسبب إنفاق ماله فهذا ينفع الناس بقوت القلوب، وهذا ينفعهم بقوت الأبدان، والناس كلهم محتاجون إلى ما يصلحهم من هذا وهذا(14).
وهذا الداء الذي أهلك الأمم السابقة، وقد دب إلى هذه الأمة، قال الغزالي وهو يتحدث عن أسباب الحسد، وأن الحسد يكثر بين أصحاب الحرف والمهن المتماثلة، وأرباب المقاصد المشتركة: ولذلك ترى العالم يحسد العالم دون العابد، والعابد يحسد العابد دون العالم، والتاجر يحسد التاجر، بل الإسكاف يحسد الإسكاف ولا يحسد البزاز إلا بسبب آخر سوى الاجتماع في الحرفة، ويحسد الرجل أخاه وابن عمه أكثر مما يحسد الأجانب، والمرأة تحسد ضرتها وسرية زوجها أكثر مما تحسد أم الزوج وابنته؛ لأن مقصد البزاز غير مقصد الإسكاف فلا يتزاحمون على المقاصد، إذ مقصد البزاز الثروة ولا يحصلها إلا بكثرة الزبون، وإنما ينازعه فيه بزاز آخر… وكذلك الشجاع يحسد الشجاع ولا يحسد العالم؛ لأن مقصده أن يذكر بالشجاعة ويشتهر بها وينفرد بهذه الخصلة ولا يزاحمه العالم على هذا الغرض، وكذلك يحسد العالم العالم ولا يحسد الشجاع، ثم حسد الواعظ للواعظ أكثر من حسده للفقيه والطبيب؛ لأن التزاحم بينهما على مقصود واحد أخص(15).
وبما أنّ الحسد لا يخلو منه جسد فعلى الإنسان أن يجاهد نفسه في التخلص من ذلك، وذلك بتقوى الله، يقول ابن تيمية: فمن وجد في نفسه حسدًا لغيره فعليه أن يستعمل معه التقوى والصبر فيكره ذلك من نفسه، وكثير من الناس الذين عندهم دين لا يعتدون على المحسود فلا يعينون مَن ظلمه، ولكنهم أيضًا لا يقومون بما يجب من حقه، بل إذا ذمه أحد لم يوافقوه على ذمه ولا يذكرون محامده، وكذلك لو مدحه أحد لسكتوا، وهؤلاء مدينون في ترك المأمور في حقه مفرطون في ذلك لا معتدون عليه، وجزاؤهم أنهم يبخسون حقوقهم فلا ينصفون أيضًا في مواضع ولا ينصرون على من ظلمهم كما لم ينصروا هذا المحسود، وأما من اعتدى بقول أو فعل فذلك يعاقب.
ومن اتقى الله وصبر فلم يدخل في الظالمين نفعه الله بتقواه كما جرى لزينب بنت جحش رضي الله عنها فإنها كانت هي التي تسامي عائشة من أزواج النبي، وحسد النساء بعضهن لبعض كثير غالب لاسيما المتزوجات بزوج واحد، فإن المرأة تغار على زوجها لحظها منه فإنه بسبب المشاركة يفوت بعض حظها، وهكذا الحسد يقع كثيرًا بين المتشاركين في رئاسة أو مال إذا أخذ بعضهم قسطًا من ذلك وفات الآخر ويكون بين النظراء لكراهة أحدهما أن يفضل الآخر عليه كحسد إخوة يوسف، وكحسد ابني آدم أحدهما لأخيه فانه حسده لكون أن الله تقبل قربانه ولم يتقبل قربان هذا فحسده على ما فضله الله من الإيمان والتقوى -كحسد اليهود للمسلمين- وقتله على ذلك(16).
والله نسأل أن يصلح أعمالنا، وأن يطهر قلوبنا من الحسد، وألسنتنا من الكذب، وأعيننا من الخيانة، وأن يقينا شر الحاسدين. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
__________________
(1)- جامع الرسائل [233]. لابن تيمية الحراني. تحقيق: محمد رشاد رفيق سالم.
(2)- راجع: مجموع الفتاوى [10/111]. لابن تيمية.
(3)- الفوائد [58].
(4)- مجموع الفتاوى [10/126].
(5)- الروح [252] لابن القيم. الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت [1395–1975].
(6)- مجموع الفتاوى [10/125].
(7)- رواه ابن أبي الدنيا من حديث أبي هريرة. وضعفه الألباني في كتب عدة.
(8)- رواه الترمذي. قال الألباني: حسن لغيره. كما في صحيح الترغيب والترهيب [2888].
(9)- رواه البخاري ومسلم.
(10)- المستطرف في كل فن مستظرف [1/459]. للأبشيهي. الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت. الطبعة الثانية [1986]. تحقيق: د. مفيد محمد قميحة.
(11)- رواه أبو داود وغيره. وضعفه الألباني في مواضع عدة.
(12)- رواه البخاري ومسلم.
(13)- المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج [6/ 97]. الناشر: دار إحياء التراث العربي – بيروت. الطبعة الثانية [1392].
(14)- راجع مجموع الفتاوى [10/ 113- 115].
(15)- إحياء علوم الدين [3/195]. الناشر: دار المعرفة – بيروت.
(16)- المصدر السابق [10/ 125- 126].
- التصنيف: