فك الشفرة الجزائرية وفتح الأيقونة الباريسية

منذ 2008-01-21


بسم الله الرحمن الرحيم


لا أعلم ما هو سر هذا الاهتمام المفاجئ بسيرة الأمير عبدالقادر الجزائري، فقناة العربية تقوم ببث فلم وثائقي عنه، بيما تنتج سوريا فلماً خاصاً عن الرجل من المقرر أن يكون معروضاً في مهرجانات قريبة، في الوقت الذي تعرض فيه الأمم المتحدة جناحاً خاصاً عنه عن طريق الممثلية الدبلوماسية الجزائرية في الهيئة، وكأن الرجل إنما توفي عن وقتٍ قريب جداَّ.
لكن حين نطَّلع على سيرة الأمير عبدالقادر الجزائري ومراحل تكوُّنِه الفكري فقد يخفِّف ذلك من حِدَّة ما تملَّكنا من التعجب.

الأمير عبدالقادر الجزائري:
نسبه ومولده:
هو الشيخ عبد القادر ابن الأمير محيي الدين الحسني، حيث يصلُ نسبه بالإمام الحسين بن علي، يقول الأمير عبدالقادر عن سلسلة نسبه: "إنني عبد القادر ابن محي الدين ابن مصطفى ابن محمد ابن المختار ابن عبد القادر ابن أحمد ابن محمد ابن عبد القوي ابن يوسف ابن أحمد ابن شعبان ابن محمد ابن أدريس ابن أدريس ابن عبدالله "المحض" ابن الحسن "المثنى" ابن الحسن "السبط" ابن فاطمة بنت محمد رسول الله وزوجة علي ابن أبي طالب عم الرسول".

كان أجدادنا يقطنون المدينة المنورة وأول من هاجر إليها هو أدريس الأكبر الذي أصبح فيما بعد سلطانا على المغرب وهو الذي بنى "فاس" وبعد أن كثر نسله توزعت ذريته ومنذ عهد جدي فقط قدمت عائلتنا لتستقر في "أغريس" قريبا من "معسكر".
(انظر: "الأمير عبد القادر" - سلسلة الفن والثقافة - وزارة الإعلام والثقافة الجزائرية - الجزائر / ص 1974).

إلاَّ أن قريبه الأمير محمد أورد سلسلة أخرى تختلف كلياً في كتابه: "تحفة الزائر في مآثر الأمير عبدالقادر وأخبار الجزائر"، ممَّا يُضعف الثقة في هذه النسبة الشريفة، لا سيما إذا عرفنا أن النسبة الشريفة من شروط الوصول الى مرتبة القطبية عند المتصوفة، كما أننا إذا علمنا أيضاً أن الصوفية يجوِّزون الاكتساب الروحاني للنسبة الشريفة تقلُّ الثقة عندنا بتلك السلاسل النسبية المسبوكة.

ولد الأمير عبدالقادر في 23 من رجب عام 1222هـ - مايو 1807م، وذلك بقرية "القيطنة" بوادي الحمام من منطقة معسكر "المغرب الأوسط" أو الجزائر.
ثم انتقل والده الذي كان شيخ الطريقة القادرية في وقته إلى لمدينة "وهران"، و اثر اصطدام مع الوالي العثماني أمر الوالي بتحديد إقامة محيي الدين في بيته، فاختار أن يخرج من الجزائر كلها في رحلة طويلة.

رحلة محيي الدين الجزائري وابنه عبدالقادر:
كان الإذن للشيخ محيي الدين بالخروج لفريضة الحج عام 1241هـ - 1825م، فخرج الوالد واصطحب ابنه عبد القادر معه، فكانت رحلة عبد القادر إلى تونس ثم مصر ثم الحجاز ثم البلاد الشامية ثم بغداد ثم العودة إلى الحجاز ثم العودة إلى الجزائر مارًا بمصر وبرقة وطرابلس ثم تونس، وأخيرًا إلى الجزائر من جديد عام 1828 م، على طريقة رحلات الصوفية وما فيها من الوقوف على الآثار والأولياء، وما لبث الوالد وابنه أن استقرا في قريتهم "قيطنة".

الاحتلال الفرنسي:
ولم يمض وقت طويل حتى تعرضت الجزائر لحملة عسكرية فرنسية شرسة، وتمكنت فرنسا من احتلال العاصمة فعلاً في 5 يوليو 1830م، واستسلم الحاكم العثماني سريعًا، ولكن الشعب الجزائري كان له رأي آخر.

المبايعة:
فرّق الشقاق بين الزعماء كلمة الشعب، وبحث أهالي وعلماء "وهران" عن زعيم يأخذ اللواء ويبايعون على الجهاد تحت قيادته، واستقر الرأي على "محيي الدين الحسني" شيخ الطريقة القادرية في وقته، ووالد الأمير عبدالقادر، وعرضوا عليه الأمر، ولكن الرجل اعتذر عن الإمارة إلاَّ أنَّه قبل قيادة الجهاد، فأرسلوا إلى صاحب المغرب الأقصى ليكونوا تحت إمارته، فقبل السلطان "عبد الرحمن بن هشام" سلطان المغرب، وأرسل ابن عمه "علي بن سليمان" ليكون أميرًا على وهران، وقبل أن تستقر الأمور تدخلت فرنسا مهددة السلطان بالحرب، فانسحب السلطان واستدعى ابن عمه ليعود الوضع إلى نقطة الصفر من جديد.
ولما كان محيي الدين قد رضي بمسئولية القيادة العسكرية، فقد التفت حوله الجموع من جديد، وخاصة أنه حقق عدة انتصارات على العدو، وقد كان عبد القادر على رأس الجيش في كثير من هذه الانتصارات، فاقترح الوالد أن يتقدم "عبد القادر" لهذا المنصب، فقبل الحاضرون، وقبل الشاب تحمل هذه المسؤولية، وتمت البيعة، ولقبه والده بـ "ناصر الدين" واقترحوا عليه أن يكون "سلطان" ولكنه اختار لقب "الأمير"، وبذلك خرج إلى الوجود "الأمير عبد القادر ناصر الدين بن محيي الدين الحسني"، وكان ذلك في 13 رجب 1248هـ - نوفمبر 1832م، وقد وجه خطابه الأول إلى كافة العروش قائلاً: "وقد قبلت بيعتهم (أي أهالي وهران وما حولها) وطاعتهم، كما أني قبلت هذا المنصب مع عدم ميلي إليه، مؤملاً أن يكون واسطة لجمع كلمة المسلمين، ورفع النزاع والخصام بينهم، وتأمين السبل، ومنع الأعمال المنافية للشريعة المطهرة، وحماية البلاد من العدو، وإجراء الحق والعدل نحو القوى والضعيف، واعلموا أن غايتي القصوى اتحاد الملة المحمدية، والقيام بالشعائر الأحمدية، وعلى الله الاتكال في ذلك كله".

ثقافته العالية:
لقد كان الأمير عبدالقادر ذا ثقافة علمية واسعة، فقد كان أبوه الشيخ محيي الدين يُعِدُّه لمشيخة الطريقة القادرية من بعده، وحتى تكتمل صورة الأمير عبد القادر فقد تلقى الشاب مجموعة من العلوم فقد درس الفلسفة (رسائل إخوان الصفا - أرسطوطاليس - فيثاغورس) ودرس الفقه والحديث فدرس صحيح البخاري ومسلم، وقام بتدريسهما، كما تلقى الألفية في النحو، والسنوسية، والعقائد النسفية في التوحيد، وايساغوجي في المنطق، والإتقان في علوم القرآن.

صفاته الشخصية:
كان الأمير بتمتع بمؤهلات نادرة من حدة الذكاء وسرعة التعلم وبهما مع الرحلة ودقة المشاهدة اكتسب الأمير كثيرا من الصفات كالخبرة العسكرية في ميدان القتال، وحسن التصرف، والإفادة من الظروف المواتية، مع ما استفاده من العلوم والثقافة الشرعية التي شابتها شائبة التصوف، وكان قوي الجسم صلب العود، ذا هيئة حسنة، وممَّا يُؤخذ على الأمير حبه للمال والسلطة الذين يخلطهما بحب العفو والمسامحة في أحيان كثيرة.

دولة الأمير عبد القادر وعاصمته المتنقلة:
وقد بادر الأمير عبد القادر بإعداد جيشه، ونزول الميدان ليحقق انتصارات متلاحقة على الفرنسيين، وسعى في ذات الوقت إلى التأليف بين القبائل وفض النزاعات بينها، وقد كانت بطولته في المعارك مثار الإعجاب من العدو والصديق فقد رآه الجميع في موقعة "خنق النطاح" التي أصيبت ملابسه كلها بالرصاص وقُتِل فرسه ومع ذلك استمر في القتال حتى حاز النصر على عدوه.
وأمام هذه البطولة اضطرت فرنسا إلى عقد اتفاقية هدنة معه وهي اتفاقية "دي ميشيل" في عام 1834، وبهذه الاتفاقية اعترفت فرنسا بدولة الأمير عبد القادر، وبذلك بدأ الأمير يتجه إلى أحوال البلاد ينظم شؤونها ويعمرها ويطورها، وقد نجح الأمير في تأمين بلاده إلى الدرجة التي عبر عنها مؤرخ فرنسي بقوله: "يستطيع الطفل أن يطوف ملكه منفردًا، على رأسه تاج من ذهب، دون أن يصيبه أذى!". و كان الامير قد أنشأ عاصمة متنقلة كأي عاصمة أوربية متطورة آنذاك سميت الزمالة، كما قام بضرب عملته الخاصة.

تنظيم الدولة:
وقبل أن يمر عام على الاتفاقية نقض القائد الفرنسي الهدنة، وناصره في هذه المرة بعض القبائل في مواجهة الأمير عبد القادر، ونادى الأمير قي قومه بالجهاد ونظم الجميع صفوف القتال، وكانت المعارك الأولى رسالة قوية لفرنسا وخاصة موقعة "المقطع" حيث نزلت بالقوات الفرنسية هزائم قضت على قوتها الضاربة تحت قيادة "تريزيل" الحاكم الفرنسي، ولكن فرنسا أرادت الانتقام فأرسلت قوات جديدة وقيادة جديدة، واستطاعت القوات الفرنسية دخول عاصمة الأمير وهي مدينة "معسكر" وأحرقتها، ولولا مطر غزير أرسله الله في هذا اليوم ما بقى فيها حجر على حجر، ولكن الأمير استطاع تحقيق مجموعة من الانتصارات دفعت فرنسا لتغيير القيادة من جديد ليأتي القائد الفرنسي الماكر الجنرال "بيجو"، ولكن الأمير نجح في إحراز نصر على القائد الجديد في منطقة "وادي تافنة" أجبرت القائد الفرنسي على عقد معاهدة هدنة جديدة عُرفت باسم "معاهدة تافنة" في عام 1837م.

وعاد الأمير لإصلاح حال بلاده وترميم ما أحدثته المعارك بالحصون والقلاع وتنظيم شؤون البلاد، وفي نفس الوقت كان القائد الفرنسي "بيجو" يستعد بجيوش جديدة، ويكرر الفرنسيون نقض المعاهدة في عام 1839م، وبدأ القائد الفرنسي يلجأ إلى الوحشية في هجومه على المدنيين العزل فقتل النساء والأطفال والشيوخ، وحرق القرى والمدن التي تساند الأمير، واستطاع القائد الفرنسي أن يحقق عدة انتصارات على الأمير عبد القادر، ويضطر الأمير إلى اللجوء إلى بلاد المغرب الأقصى، ويهدد الفرنسيون السلطان المغربي، ولم يستجب السلطان لتهديدهم في أول الأمر، وساند الأمير في حركته من أجل استرداد وطنه، ولكن الفرنسيين كانوا يضربون طنجة وموغادور بالقنابل من البحر، وتحت وطأة الهجوم الفرنسي اضطر السلطان إلى توقيع معاهدة الحماية، التي سبقت إحتلال المغرب الأقصى.

نهاية الحركة القادرية:
بدأ الأمير سياسة جديد في حركته، إذ سارع لتجميع مؤيديه من القبائل، وكان ديدنه الحركة السريعة بين القبائل فقد يصبح في مكان ويمسي في مكان آخر حتى لقب باسم "أبا ليلة وأبا نهار".
واستطاع أن يحقق بعض الانتصارات، ولكن فرنسا دعمت قواتها بسرعة، فلجأ مرة ثانية إلى بلاد المغرب، ومن ناحية أخرى ورد في بعض الكتابات أن بعض القبائل المغربية راودت الأمير عبد القادر أن تسانده لإزالة السلطان القائم ومبايعته سلطانًا بالمغرب، وعلى الرغم من انتصار الأمير عبد القادر على جيش الإستطلاع الفرنسي، إلا أن المشكلة الرئيسية أمام الأمير هي الحصول على سلاح لجيشه، ومن ثم أرسل لكل من بريطانيا وأمريكا يطلب المساندة والمدد بالسلاح في مقابل إعطائهم مساحة من سواحل الجزائر: كقواعد عسكرية أو لاستثمارها، وبمثل ذلك تقدم للعرش الإسباني ولكنه لم يتلقَ أي إجابة، وأمام هذا الوضع اضطر في النهاية إلى التفاوض مع القائد الفرنسي "الجنرال لامور يسيار" على الاستسلام على أن يسمح له بالهجرة إلى الإسكندرية أو عكا ومن أراد من اتباعه، وتلقى وعدًا زائفًا بذلك فاستسلم في 23 ديسمبر 1847م، ورحل على ظهر إحدى البوارج الفرنسية، وإذا بالأمير يجد نفسه بعد ثلاثة أيام في ميناء طولون ثم إلى إحدى السجون الحربية الفرنسية، وهكذا انتهت دولة الأمير عبد القادر، وقد خاض الأمير خلال هذه الفترة من حياته حوالي 40 معركة مع الفرنسيين والقبائل المتمردة .

الأمير في الأسر:
ظل الأمير عبد القادر في سجون فرنسا يعاني من الإهانة والتضييق خمس سنوات، متنقلاً بين سجون مختلفة بما فيها قصر أمبواز، وقد توفي خمسة وعشرين من أقاربه الذين كانوا معه خلال ذلك الوقت جراء البرد والجوع. وبعد أسابيع من تولي نابليون الثالث بعث إليه الأمير برسالة في 23 ديسمبر 1848 مذكرا له بوعد فرنسا، وسجن الإنجليز لنابليون الأول، وسجنه هو نفسه (نابليون الثالث) بأمر لوي فيليب، وطالبا الاستجابة لرغبته في الذهاب إلى مصر أو سورية.
وفي عام 1852م استدعاه نابليون الثالث بعد توليه الحكم، وأكرم نزله، وأقام له المآدب الفاخرة ليقابل وزراء ووجهاء فرنسا، ويتناول الأمير كافة الشؤون السياسية والعسكرية والعلمية، مما أثار إعجاب الجميع بذكائه وخبرته، ودُعي الأمير لكي يتخذ من فرنسا وطنًا ثانيًا له، ولكنه رفض، ثم اقترح نابليون الثالث على الأمير أن يترأس الإمبراطورية العربية في الشرق بعد أن يتم تحريرها من الاحتلال العثماني.
ورحل الأمير عبدالقادر إلى الشرق براتب من الحكومة الفرنسية، وبوعدٍ غير واضحٍ من الامبراطور الفرنسي بتنصيبه امبراطورا على البلاد العربية.
وتوقف في استانبول حيث السلطان عبد المجيد، والتقى فيها بسفراء الدول الأجنبية، ثم استقر به المقام في دمشق منذ عام 1856 م وفيها أخذ مكانة بين الوجهاء والعلماء، وقام بالتدريس في المدرسة الأشرفية، ثم في المدرسة الحقيقية، وأخيراً في المسجد الأموي.

التحول الكبير في حياة الأمير:
لم تُحيِّرني شخصية مثل شخصية الأمير عبدالقادر الجزائري، فهذا الأسد الهزبر والفارس الضرغام نجده يتحول بعد مجيئه من فرنسا إلى خادم مطيع ومريد متحمس للدولة الفرنسية وإلى كل ما يمت إلى الفرنسين بِصِلة، فما الذي حصل للأمير فأدَّى به إلى كل ذلك التغيير.
في اعتقادي أن الأمير عبدالقادر قد تعرض خلال نشأته ومراحل حياته لعدَّة تأثيرات متغايرة بعضها استصحبها من ذاكرته خلال مراحل نشأته المبكرة، وبعضها خلال وجوده في فرنسا، وأثناء سلسلة النقاشات التي كانت تدور بينه وبين وجهاء فرنسا، والشبهات التي كان يوردها عليه كبار المستشرقين، لا سيما أن الفرنسيين كانوا قد حضَّروا لذلك الدرس بكل عناية، إذ كانوا قد تعرفوا على الشخصية الشرقية جيداًُ من خلال الحملة الفرنسية على مصر، لا سيما طريقة التخاطب والتعامل مع مشائخ الطرق الصوفية، مِمَّا قلب كيان الرجل، و غيَّره كل ذلك التغيير وأثر به أيَّ تأثير.

الأمر الأول: أن الأمير كان ذا ثقافة واطلاع واسعين:
ولديه قابلية عجيبة لقبول الآخر مهما بلغ ذلك الآخر من عدائه له بشرط أن يتحد معه في حوار يتخذ الطابع العلمي، ولا يخفى مقدرة الغربيين على قلب الأمور، وادعاء النزاهة ممَّا قد يؤثر حتى على ذوي العقول الراجحة، ومما حفِظ عن الأمير خلال تلك الحوارات قوله: "لو كان العالم يسمعني لجعلت من المسلمين والمسيحيين إخوةً ولعملنا معاً من أجل إرساء السلام في العالم"، ولعلَّ هذه الجملة كانت هي البروتوكول الذي انتهجه فيما بعد الأمير والتزم به كل الالتزام.

الأمر الثاني: ذلكم البغض الكبير للدولة العثمانية:
الذي اكتنفه خلال نشأته، وبعد اخراج الوالي العثماني لأبيه من قريته الى الحجاز، وما صاحب ذلك من التغرُّب.
وكذلك كون الدولة العثمانية قد تخَّلت عن الجزائر أثناء الحملة الاستعمارية الفرنسية الجائرة عليه، ولم تحرك ساكناً، بل سرعان ما فرَّ الوالي العثماني تاركاً البلاد ومن عليها في حيص بيص، ولا ريب أن العثمانيين كانوا خلال ذلك يتلقون الضربات الخارجية والداخلية الضربة تلو الأخرى، مما شغلهم عن الدفاع عن بلدان الثغور والأطراف الإسلامية.
ولذلك فقد كان موقف الأمير عبد القادر من الخلافة العثمانية حين كان في بلده الجزائر موقفاً انفصالياً، فمن الملفت للنظر أن الأمير عبد القادر الذي تولى زعامة المقاومة الشعبية المسلحة في غرب ووسط الجزائر قد تبنى ومنذ توليه الإمارة سنة 1832م عَلَما مغايرا للعَلَم الجزائري التابع للدولة العثمانية قبل دخول الفرنسيين الجزائر، إذ اختفى اللون الأحمر كلية وعُوض بالأخضر ورُسمت على رايته يدٌ مبسوطة أحيطت في شكل نصف دائري بالعبارات التالية: "نصر من الله وفتح قريب" ناصر الدين عبد القادر بن محي الدين، أما توزيع الألوان على هذا العلم فقد كان على النحو التالي: أعلاه وأسفله كانا أخضرين، وأما وسطه فكان أبيضا.
ولم يكن ظهور هذا العلم بمحض الصدفة في هذه الفترة بل كان يرمز إلى استقلال سياسي عن الدولة العثمانية، فكانت بذلك من أوائل الحركات الانفصالية التجزيئية التي أعلنت الخروج على الخلافة الإسلامية العثمانية.
وقد عاد الأمير ليكمل ذلك الدور في بلاد الشام، فقد كانت الجمعية الماسونية قد أخذت على عاتقها محاربة الخلافة العثمانية لكونها كانت تقف سدا منيعا أمام الأطماع العالمية في العالم العربي والإسلامي، ولذلك فقد حاولت الجمعية آنذاك بتدبيرٍ من الأمير عبد القادر الجزائري رئيس المحفل السوري الماسوني آنذاك اغتيال متصرف جبل لبنان العثماني للإستقلال عن الدولة العثمانية.

الأمر الثالث: نشأته الصوفية:
لإذ أن الأمير تربَّى في بيئة صوفية، بل قد نشأ على تقديس يصل إلى حد الجنون لشخصية ابن عربي الحلولي الاتحادي، وأمثاله من الاتحادية الحلولية كالحلاج والتلمساني وابن الفارض وغيرهم.
بل قد أتمَّ الأمير تدريس كناب الفتوحات لابن عربي على طلبته مرارا، و ألف كتابه "المواقف" على مذهب ابن عربي، بل وقد اختار السكنى في دمشق لكونها بلد ابن عربي الذي أقام فيه، ويقال أنه سكن في نفس البيت الذي عاش فيه ابن عربي بعد أن قام بإصلاحه، و دُفِن أيضاً بجوار ابن عربي.
وقد تواتر عنه أنه كان يشتري كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه الإمام ابن قيم الجوزية بأغلى الأثمان ليحرقها، وذلك أنهم كانوا يفتون بكفر ابن عربي، كما يؤججون روح الجهاد في الشارع المسلم.
بل كان يشتري جميع ما صُنِّف في الرد على ابن عربي ثم يتلفه، قال الشيخ الجليل محمد نصيف: "أقول أنا محمد نصيف بن حسين بن عمر نصيف: سألت السائح التركي ولي هاشم عند عودته من الحج في محرم سنة 1355 عن سبب عدم وجود ما صنفه العلماء في الرد على ابن عربي، وأهل نحلته الحلولية والاتحادية من المتصوفة؟ فقال: قد سعى الأمير السيد عبدالقادر الجزائري بجمعها كلها بالشراء والهبة، وطالعها كلها، ثم أحرقها بالنار، وقد ألف الأمير عبدالقادر كتابا في التصوف على طريقة ابن عربي صرّح فيه بما كان يلوح به ابن عربي، خوفا من سيف الشرع الذي صرع قبله: "أبو الحسين الحلاج"، وقد طبع كتابه بمصر في ثلاث مجلدات، وسماه المواقف في الوعظ والإرشاد، وطبع وقفا، ولا حول ولاقوة الا بالله" ا.هـ.

فمن هوابن عربي هذا؟
هو محي الدين محمد بن علي بن محمد بن عربي الحاتمي الطائي الأندلسي الصوفي، الملقب بالشيخ الأكبر، وهو أول من صرَّح بنظرية وحدة الوجود، بينما كان من قبله من ملاحدة الصوفية يحومون حول الحلول والاتحاد.
ونظرية وحدة الوجود تقول: بأن الله عز وجل موجود والعياذ بالله في كل كان، وبذلك تصحِّح نظرية وحدة الأديان الذي أسماه ابن عربي "دين الحب" أيما تصحيح، بحيث تنضوي تحته كل عقيدة، فإذا جاز التعميم أمكن التخصيص من باب أولى،
يقول ابن عربي في بيان هذه العقيدة الحلولية:
لقد صار قلبي قابلا كل صورة *** فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائـف *** وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنى توجهت *** ركائبه فالحب ديني وإيماني

ويقول أيضاً:
الرب حق والعبد حـق *** ياليت شعري من المكلف
إن قلت عبد فذاك ميت *** أو قلت رب أنى يكلف

ولذلك صرَّح ابن عربي بإيمان فرعون، وصحَّح عبادة بني اسرائيل للعجل، وزالت كل الفروق لدى بعضهم؛ حتى صار لإبليس حظوة لديهم، وانتفى عن النظر ما لابسه من كفر وعصيان. من ثم لا نستعجب حين نقرأ قول الحلاج: "ما كان في السماء موحِّد مثل إبليس".
وأدبيات الصوفية الحلولية مليئة بهذا الشرك المتلاطم، بل لهم دواوين خاصة في هذا الكفر الصراح والشرك الوقاح، مثل ابن الفارض، وجلال الدين الرومي، ومثل حكم ابن عطاء الاسكندري وغيرهم.
وهذا المنهج الديني اللاديني الذي تختطه العقيدة الوحدوية تفتح باب الولاء على مصراعيه، وحين ذاك لا فرق بين مسلم أو نصراني، أو ما بين مؤمن أومشرك، في حين تلقي بباب البراء خارج القائمة.

وفي هذا المعنى يقول ابن عربي أيضاً قبحه الله:
وما الكلب والخنزير إلا إلهنا *** وما الله إلا راهب في كنيسة
وبالتالي فإن الوجودية والماسونية يدوران في فلكٍ واحد، ولذلك لم يكُن بِدعاً من الرأي أن ينتهج الأمير الخط الماسوني بعد المذهب الوحدوي لكونه بذلك لم يخرج عن نفس المسار، وإنَّما انتقل من مدار إلى مدار.
وقد يقال أن ناحية التصوف كانت ناحية فلسفية بحتة عتد الأمير ولكن ذلك ليس بصحيح، فنجد أن الجزائري يعتقد بمخاريق وكرامات الصوفية، واستمع لما يسوقه النبهاني الصوفي ضمن كرامات الامير عبدالقادر الجزائري أنه قال: "لما بلغت المدينة طيبة، وقفت تجاه الوجه الشريف بعد السلام عليه صلى الله عليه وسلم وعلى صاحبيه الذين شرفهم الله تعالى بمصاحبته حياة وبرزخا وقلت: "يارسول الله عبدك ببابك، يارسول الله كلبك بأعتابك، يارسول الله نظرة منك تغنيني، يارسول الله عطفة منك تكفيني، فسمعته صلى الله عليه وسلم يقول لي: "أنت ولدي، ومقبول عندي بهذه السجعة المباركة" وما عرفت هل المراد ولادة الصلب أو ولادة القلب، والأمل من فضل الله أنهما مرادان معا، فحمدت الله تعالى!" انتهى.

الأمر الرابع: حب الأمير للسلطة وبالتالي احتياجه الشديد للمال:
يقول التميمي: "إن المتتبع لحياة الأمير عبد القادر بدمشق، سوف يثير انتباهه تكالب الأمير على اقتناء الدور والأراضي الفلاحية، والحصول على المال مهما كانت الوسائل المتبعة في ذلك. ففي البداية أقرت الحكومة الفرنسية منح الأمير راتباً سنوياً بما قدره 15000 فرنك فرنسي، تقول حفيدته الأميرة بديعة الحسني الجزائري: "ظل الأمير سجينا مدة خمس سنوات إلى أن وصل نابليون الثالث إلى سدة الحكم في فرنسا فزار الأمير في سجنه متأسفاً معتذراً عن نقض الاتفاقية من قبل الحكومة السابقة وسلمه صك الإفراج وعرض عليه مبلغا كبيرا يدفع له سنوياً كتعويض على حجز حريته والغدر به, فقبل الأمير التعويض كمنحة من الله وعد بها الله تعالى المجاهدين والمهاجرين في سبيله".
وقد بلغ مع السنين ماقدره 300000 فرنك فرنسي وهو في ذلك الوقت مبلغ خيالي للغاية، بل يفوق ميزانيات كثير من المصالح الحكومية العثمانية، ولسنا من السذاجة بحيث نعتقد أن ذلك الكرم الفرنسي إنما كان حُباًّ من الامبراطورية الفرنسية لشخص الأمير عبدالقادر، وتقديراً منها لجهاده ضد الفرنسييين، دون أجندة عمل فرنسية كان الأمير في المقابل مطالبٌ بتنفيذها بكلِّ دقَّة، ولعلَّ تلك الأجندة قد أسفرت عنها المواقف الأميرية المتضامنة مع المصلحة الفرنسية "العليا" خلال ما سيمر بنا من الأحداث المتتالية.

ـ وعندما قرر الأمير أن يقوم ببعض الإصلاحات على الدارين اللتين سلمتهما له الإدارة العثمانية في الشام بعد أن قامت بتأثيثهما ألحَّ الأمير لدى وزير خارجية فرنسا والسفير الفرنسي باستانبول للقيام بتدخلات لدى الحكومة العثمانية في تمليكه للدارين؛ لأنهما محتاجان إلى الإصلاح والزيادة ولايمكن اصلاحهما قبل استملاكهما.
ـ كما ألح على السفير نفسه للتوسط لدى الدولة العثمانية للحصول على مبلغ مالي من الحكومة العثمانية لذلك، وقد قدمت له الدولة العثمانية مبلغاً قدره ألف بورسه أي 100000 فرنك. وكان ذلك المبلغ يساوي ثلاثة أضعاف المبلغ الذي قرر أن يشتري به مسكنا (المرجع السابق ص425).
ـ وقد كان الأمير خلال إقامته في الشام يعيش عيشة الملوك، فقد كان محاطاً بنحو 180 شخصاً من عائلته، وكان يعمل لديه ألفا شخص كحراس شخصيين أو مزارعين أو موظفين، وشيئاً فشيئاً وصل إلى دمشق زهاء 15 ألف مغربي وجزائري وتونسي التحقوا بخدمته، وكان يتولى الاشراف على أحوالهم.
ـ ثم لا ننسى ذلك الوعد الذي بذله نابليون الثالث للأمير عبدالقادر بتنصيبه إمبراطوراً للبلدان العربية في الشرق بعد أن يتم تحريرها من الاحتلال العثماني، وبالمقابل أخذ وعداً من الأمير عبدالقادر ألاَّ يقاتل مجدَّداً ضد فرنسا.
لقد كان المخطط الفرنسي لوراثة التركة العثمانية يقضي بالسعي للقضاء على الخلافة العثمانية من خلال تأجيج ثورة عربية يترأسها بعض المنتسبين للبيت النبوي، ويقوم بجر جميع تلك البلدان إلى حظيرة الهيمنة الفرنسية.
ـ ولكن خطة فرنسا فشلت في الحقيقة لكون المنطقة بكاملها سرِقت منها فيما بعد، نظرا لاكتساح السياسة البريطانية للمنطقة وتفوق اللاعب البريطاني، فقد كان السقوط الفرنسي قد ابتدأ مسبقاً مع الفشل "العسكري" للحملة الفرنسية على مصر؛ لتتتابع بعد ذلك سلسلة الإخفاقات الفرنسية، ومن ثمَّ تَمَّت سرقة المخطط برًمَّته ـ انجليزيا ـ من الحقيبة الفرنسية.
ليتم بعد ذلك تطبيقه بحذافيره على يد الجنرال البريطاني الشهير "اللنبي" لتنصيب دمية أخرى هي "الشريف فيصل بن الحسين".
وليحتل الجيشان البريطاني والعربي الأراضي السورية، بتاريخ11 تشرين الأول 1918 تنفيذاً لاتفاق غير معلن، وفي نهاية الشهر ذاته يدخل الأمير فيصل دمشق تلبية لأمر والده الشريف حسين.
ومن الغرابة بمكان أن يقوم الطابور الخامس الماسوني السوري وقبل يومين من وصول الأمير فيصل بإعلان استقلال البلاد باسم الشريف حسين، ورفع العلم العربي على سارية دار الحكومة، ومن ثمَّ تبدأ عملية تنظيم وإكمال تشكيلات الدولة العربية والجيش العربي، وإزالة كل ما يمت للعهد العثماني واللغة التركية بِصلة، كل ذلك بسرعة غريبة وسطوة عجيبة، بينما لم يكن من أعلن استقلال البلاد، وحَكَم البلاد خلال ذَين اليومين الطويلين في تاريخ الأمة الاسلامية إلا الأمير محمد سعيد الجزائري القطب لأعظم للمحفل الأكبر السوري العربي الماسوني وحفيد الأمير عبدالقادر الجزائري.

الأمر الخامس: افتتانه بالحضارة الغربية:
فقد عرف عن الامير عبدالقادر افتتانه بالحضارة الفرنسية، وعلاقته الوطيدة بالفرنسيين.
ومما يحتفظ به التاريخ عن الأمير عبد القادر الجزائري أنه قد عمل أثناء معاركه ضد الغزو الاستعماري الفرنسي للجزائر، على سن وتطبيق مجموعة قوانين حول كيفية معاملة الأسرى الفرنسيين المعتقلين من جيش العدو، ومن ذلك: "اعتبار أن أي فرنسي يتم أسره في المعارك يجب أن يعتبر أسير حرب، وأن يعامل كذلك إلى أن تتاح فرصة تبادله مقابل أسير جزائري"، مع أن الفرنسيين كانوا حينذاك يستخدمون سياستَي الأرض المحروقة والإبادة الجماعية.
ـ كما حدد الأمير عبد القادر بأن: "على أي عربي في حوزته أسير فرنسي، أن يعامل هذا الأخير معاملة حسنة. وفي حال شكوى الأسير من سوء المعاملة، فلن تكون العقوبة مجرد اسقاط المكافأة، بل قد يرافق ذلك عقوبات أخرى".
ـ ولضمان عدم قتل الأسير الفرنسي فإن: "أي عربي يقدم أسيرا فرنسيا يحصل على مكافأة قدرها 8 دورو (وهي العملة الجزائرية التي تساوي 5 سنتيم).

وذكر صاحب كتاب "نابليون الثالث والأمير عبد القادر" كيف أن "أعدادا من الأسرى الفرنسيين القدامى الذين تلقوا علاجا من قبل الأمير كانوا يأتون من مناطق نائية في اتجاه قصر "بو" وقصر "أمبواز" حيث كان الأمير معتقلا، لتحية من كان المنتصر بالأمس".

الأمير عبدالقادر في بلاد الشام:
أولاً: في عهد داود باشا:
ـ قبل عام 1860 كان المتصرف العثماني يقيم في جبل لبنان بينما يشرف على جميع لبنان وسورية، وإثر ما عرف في التاريخ اللبناني بفتنة الجبل تدخل الأمير عبدالقادر للتوسط لدى الدولة العثمانية لصالح ثورة يوسف بك كرم الماروني في (1859 ـ 1860 م) التي ثارت على داود باشا أول متصرف عثماني على الجبل اللبناني، وطالبت بالحكم المحلي لموارنة الجبل، ثم دعت إلى التدخل الفرنسي بصوت مطرانها "طوبيا عون" (لعلَّه جد العماد ميشيل عون الذي يسير الآن على خُطى جدِّه في العمالة لصالح فرنسا.
ـ وحين أفرزت تلك الفتنة غضباً عارماً في دمشق والشام على المسيحيين الذين راسلوا وجلبوا المستعمر الأجنبي الفرنسي إلى ديار المسلمين، قام الأمير عبد القادر باعتراف العديد من قادة تلك الفترة بحماية وإنقاذ حوالي 12000 مسيحي ويهودي احتموا بالأمير من غضب جماعات ثائرة، وقد حمل مع أتباعه السلاح من أجل ذلك.
وهو ما دفع العديد من ملوك وقادة تلك الفترة ورجالات الدين إلى منح الأمير أوسمة شرف عرفانا لإنقاذ أرواح عدد من رعاياهم بمن فيهم قناصلة روسيا وفرنسا واليونان وأمريكا وقد انتهت تلك الفتنة بالتدخل الاجنبي الفرنسي، وبعد تلك الخدمة الجليلة للتاج الفرنسي تهاطلت على الأمير الأوسمة والنياشين من عدد كبير من رؤساء الدول الأوربية، وعلى الخصوص من نابليون الثالث الذي وشحه وسام الشرف الفرنسي الأول، ونتيجة لذلك أخذت تنتشر في أوربا التآليف التي مجدت الجانب الإنساني للأمير وتسامحه.

وهناك نص ماسوني موثق كتبه الدكتور انطوان عاصي رئيس معهد الطقوس في المحفل الاكبر اللبناني الموحد راداًّ فيه على بديعة الحسني حفيدة الأمير الجزائري والتي أنكرت ماسونية الأمير لإثبات ماسونية الجزائري ناقلاً فيه عن مصادر معروفة وموجودة.
يقول الدكتور عاصي: "في الأحداث الدامية التي وقعت في دمشق في تموز من العام 1860م بين المحمديين والمسيحيين, كلف عبد القادر بمهمات إنقاذية، ووضع تحت حمايته آلاف المسيحيين الذين لقوا الحماية تحت لوائه.
هذه البادرة قدرها نابليون الثالث وقلد الامير وسام الشرف الفرنسي وارسلت من بعدها المحافل الماسونية كتابات شكر وتقدير له أهمها محفل هنري الرابع الذي أخذ المبادرة.

وفي 16 تشرين الأول 1860م اعترفت الماسونية في عدة رسائل له بناحيته الانسانية والأخلاقية واقترحت عليه في هذه الرسائل أن يكون عضوا في الماسونية دون أن يكون عضوا مكرسا بعد, إذ أن النظام الماسوني يسمح بتكريس هكذا رجال عظماء دون أن يكونوا مكرسين، وأرسلت له ما يسمى بالجوهرة أو الرمز المعدني عرفانا منها إليه ولم يكن وقتها في الجزائر الدولة المسلمة أكثر من ثلاثين مكرسا ماسونيا.

وفي العام 1861م رد الأمير عبد القادر الحسني الجزائري على محفل هنري الرابع الباريسي بقوله: "لم ألمس في المبادئ الماسونية ما يتعارض وشريعة القرآن الكريم والسنة والفقه الإسلامي" عندها طلب منه محفل هنري الرابع الإجابة على ثلاث أسئلة وهي أسئلة تقليدية للانتساب إلى الماسونية:
- ماهي واجبات الإنسان تجاه الله؟
- ماهي واجباته تجاه الإنسانية؟
- كيف ينظر إلى خلود النفس والمساواة والإخاء والحرية؟

كان جواب الأمير بمثابة أطروحة فلسفية تفوق هذه الأسئلة بتعاليم صوفية وفلسفة إسلامية أدهشت السائلين، كان وصول المارشال الفرنسي كأستاذ أعظم لهذا المحفل وخلافاته مع الأمير قد أخرت تكريسه هنا كان لابد من حضوره شخصيا ففي 18 حزيران 1864م وباسم محفل الأهرام في الاسكندرية والذي كان عاملا تحت لواء الشرق الأكبر الفرنسي والممثل في محفل هنري الرابع تكرس الأمير عبد القادر الجزائري وأعطي امتيازا قل نظيره في ذلك الوقت أنه منحت له في جلسة واحدة الدرجات الأولى الثلاث.
وصدر عن محفل هنري الرابع في باريس جلسة عمومية أعطي بموحبها إذنا للأمير أن ينشئ محافل ماسونية ذات الطابع العربي في جميع الأقطار العربية.

عام 1865م وخلال وجوده في فرنسا عقد الأمير اجتماعات مع الماسونية الفرنسية في مدينة Amboise واعترف أمام أساتذة الماسونية في هذا المذهب أنه: "هناك بعض المصاعب التي ستواجهها الحركية في الشرق العربي نظرا للانتماءات الذهبية رغم أن مبادئها هي من أجل المبادئ السامية والأخلاقية".

وبعد عودته إلى سوريا أصبح عضوا فخريا في محفل سوريا الذي كان ينتمى إلى الشرق الدمشقي ونظرا للمفهوم العلمني الماسوني المؤمن ولمفهوم الماسونية كحركة رمزية ولدت في الغرب المسيحي وتواجدها في الشرق الإسلامي.

حجب الأمير عبد القادر بعضا من نشاطاته الماسونيه وبقي في الظل. بهذا المفهوم تصرف الأمير بمعنى أن الماسونية ليست نسخة عن هذا العالم. لقد فهم الأمير أنه لا يجوز كشف أسرار النظام الكوني أمام أهل العماء.

رئيس معهد الطقوس في المحفل الاكبر اللبناني الموحد الدكتور أنطوان عاصي
هذا النص التفصيلي الاستثنائي يفسر لنا كثيرا من الأسرار التي أحاطت بشخصية الأمير عبدالقادر في تلك المرحلة.


ثانياً: في عهد مخلص باشا:
بعد أحداث سنة 1860م في جبل لبنان صارت دمشق عاصمة ولاية سورية في الدولة العثمانية، وخلال حقبة تسلط جمعية الاتحاد والترقي على الدولة العثمانية كانت الجمعية تعين الولاة والمتصرفين من الماسونيين أنفسهم، فعُين مخلص باشا الماسوني والياً على دمشق، والذي بدأ بنشر الماسونية بسرعة وجرأة عاليتين.
وكان الأمير عبدالقادر قد انتقل الى الشام قبل ذلك بأربع سنين، فقرَّبه مخلص باشا من أجل علاقته بالقنصلية الفرنسية، واطلاعه على المحافل الماسونية الفرنسية.
ومع أن الأمير لم يكن في ذلك الوقت عضوا في المحافل الماسونية، إلاَّ أن مخلص باشا ألقى إليه مقاليد نشر المبادئ الماسونية في الشام، وقد أشار إلى ذلك مؤرخ الماسونية شاهين مكاريوس في كتابه المقتطف.
ـ ورأى الأمير عبدالقادر عند ذلك وجوب التنسيق مع محفل الأهرام الأكبر المصري، مما جعله يشد الرحال للاجتماع بالماسونيين هنالك.

يقول شاهين مكاريوس الماسوني في كتابه فضائل الماسونية: "إن الأمير عبد القادر الجزائري سمع كثيراً عن الجمعية الماسونية ومالها من صحيح المبادئ، فتاقت نفسه إلى الإنضمام إليها واغتنم فرصة مروره بالإسكندرية أثناء عودته من الحجاز سنة 1864م فانتظم في سلكها في 18 حزيران بمحفل الأهرام التابع للشرق السامي الفرنساوي، ووافت مشاربه من كل الوجوه، فأحبها وأحب أهلها، ومال إليها وإليهم كثيراً، وكان لا يخفي نفسه، وطالماً جاهر بأنه من أعضائها".

ثالثاً: في عهد راشد باشا:
وفي عهد راشد باشا الماسوني أيضا الذي عُيِّن والياً سنة 1865م دخلت الأفكار الماسونية حيز التنفيذ، فتعاون مع الأمير عبدالقادر بعد رجوعه من مصر بهذا الخصوص فأسَّسا محفل سوريا أو الجمعية الماسونية، وكانت هذه الجمعية تتستر تحت اسم "لجنة الإصلاح".
يقول جرجي زيدان الماسوني في كتابه "تاريخ الماسونية العام" ص 200: "إن االماسونية دخلت دمشق بمساعي الأمير عبد القادر الجزائري، وإن أول محفل تأسس فيها هو محفل "سوريا" بشرق دمشق، فثبت بمساعي الأخوة وتنشيطهم" وكان الإعلام قد صنع هالةً على اسم الأمير عبدالقادر فانخدع أكثر الناس بالماسونية، بل وأقبلت الطبقة الراقية في سوريا للا نخراط في "السلك" الماسوني.
يقول شاهين مكاريوس في المقتطف -الجزء الثامن- ص469 عن نفسه أنه: "زار في دمشق جمعية ماسونية باسم محفل سورية، فدخل فرأى فيها أكثر وجوه دمشق ومعتبريها من كل الطوائف تقريباً، وعند زيارته لدمشق في شهر أيلول عام 1881م قيل له أن الجمعية الماسونية أعظمها نجاحا وأوفرها أعضاءاً وأكثرها اجتماعاً وأن أعضاؤها موصوفون بنبذ التعصب وأن جماعة من أهل دمشق وأكابر قومها منظمون فيها".
وممن ذكرهم مكاريوس من فضلاء دمشق ومن مشائخ الصوفية آنذاك أصحاب الفضيلة والسيادة محمود أفندي الحمزاوي مفتي المدينة والشيخ سليم أفندي العطار ومحمد أفندي المنيني والشيخ مسلم أفندي الكزبري ومحمد أفندي الطنطاوي ومحمد أندي الخاني وغيرهم من السادات والأعلام الأشراف، كما ذكر مكاريوس أنه تشرف بمقابلة الأمير عبد القادر الجزائري هنالك.

ـ وقد كان الأمير عبد القادر خلال وجوده في الشام دائما ما يفزع إلى القنصلية الفرنسية عند تعذُّر بعض مهامه، بل وكذلك في شئونه الخاصة كما مرَّ بنا، فقد كانت هناك علاقة وطيدة بينه وبين الدولة الفرنسية الاستعمارية.
ـ فقد تمت وساطة فرنسية لدى الباب العالي للسماح للأمير عبدالقادر بالإقامة في الشام.
ـ فأثناء إقامته في منفاه في سوريا كان الأمير عبد القادر كثيراً ما يتدخل لانقاذ المسيحيين "العملاء لفرنسا والجواسيس لها ضد المسلمين".

مرحلة العمالة السافرة:
لقد تدرج التحول بالأمير حتى وصل إلى مرحلة العمالة السافرة، فكان عاملا من عوامل تمزيق الدولة الإسلامية، وأدى به طمعه بالحكم إلى أمور لم تكن تليق بتاريخه النضالي السابق، فمن ذلك أنه بعد إجبار الدولة العثمانية على توقيع معاهدة مع روسيا بسبب هزيمتها كانت المعاهدة تتضمن إنشاء كيانات قومية في كل الولايات العثمانية، ونتيجة لذلك سافر أحمد الصلح من بيروت عام 1877م إلى صيدا والجبل ودمشق وحلب وحمص وحماة واللاذقية وحوران وجبل الدروز يرافقه محمد الأمين وأحمد عباس الأزهري، ومن خلال هذه الجولة عقدت عدة اجتماعات سرية بعضها في مصيف الأمير عبد القادر في دمر قرب دمشق، وبعضها في دار مفتي مدينة دمشق ونقيب أشرافها حسن تقي الدين الحصيني، ويذكر المؤرخ محمد جابر آل صفا أسماء ممثلي الجبل في الإجتماعات السرية وهم: محمد الأمين (شيعي) وعلي عسيران والشيخ علي الحر الجبعي (شيعي) وشبيب باشا الأسعد الوائلي (شيعي) تاريخ جبل عامل ص 208.

ويقول: "وكان هذا المؤتمر أول مؤتمر يشترك فيه الشيعيون للنظر في استقلال البلاد الشامية وفصلها عن جسم الدولة العثمانية، وقرر المؤتمرون اختيار عبد القادر الجزائري أميراً على سوريا" عن عادل الصلح ـ المرجع السابق ص96.
وفي هذه المرحلة من حياته يتحول الامير عبدالقادر المجاهد الضرغام إلى مخذِّلٍ عن الجهاد وموالٍ للاستعمار، يقول الأستاذ التميمي عن هذه الفترة: "إننا لانعرف ولا وثيقة واحدة صادرة عن الأمير تشجع الحركات الانتفاضية في بلاده الجزائر، أو على الأقل مساندته المعنوية لعدد من الزعماء الجزائريين الذين أبلو البلاء الحسن حتى آخر رمق من حياتهم. بل إن الأمير ذهب لاحترام وعده إلى حد التنكر لابنه محي الدين الذي تحول سراً إلى الجزائر لانقاذ البلاد من فرنسا سنة 1870م".
كما لجأ إليه فردينان ديليسبس للتوسط من أجل إقناع العثمانيين بمشروع قناة السويس والذي جلب الاستعمار الانجليزي فيما بعد، ولذلك فقد كان الأمير عبدالقادر في طليعة المدعوين في الحفل الاسطوري الذي صنعه الخديوي اسماعيل في عام 1869م احتفالا بافتتاح القناة.
ـ كما قام بإنشاء مصرف دولي كان يموّل الطريق التي تربط ما بين دمشق وبيروت، ومن خلاله قام باستقبال أسرة آل روتشيلد اليهودية العالمية المُريبة "صانعة الملوك" وكذلك أسرة آل ديلي شيبس لذلك الغرض.
ـ وحين قامت الدولة العثمانية بإلغاء نظام أهل الذمة 1857م، بحيث يتساوى المسلم بغيره، ممَّا ولَّد غضباً عارماً لدى المسلمين الذين رأوا أن في ذلك انتهاكاً صارخاً لقوانين الشريعة الاسلامية مع ما فيه من تحويل كثيرٍ من المسلمين إلى عاطلين عن العمل في مقابل توظيف غير المسلمين، وقامت عناصر منها بالشغب بسبب تلك التحولات، تدخّل الأمير عبدالقادر لصالح ذلك النظام الجديد.

مجاهرته بالماسونية:
بدأ الأمير بعد ذلك بالمجاهرة الفجة بالماسونية، بل بالفرنسماسونية بشكل خاص، يقول الأمير: "إنني أعتبر منظمة البنائيين الأحرار كأول مؤسسة في العالم. وفي رأيي أن كل رجل لا يجاهر بالعقيدة البنائية الماسونية يعد رجلاً ناقصاً وأؤمل يوماً أن أرى فيه انتشار مبادئ الفرنسماسونية في العالم، ويومئذ فإن كل شعوب العالم ستعيش في سلام وأخوة".
والنصوص في ذلك عنه كثيرة، إذ تحتفظ الدوائر العلمية الشرقية والغربية بكثير من رسائل الأمير إلى كثير من المتنفذين والمسئولين المتعلقة بتكريس الماسونيين الجدد، وافتتاح محافل ماسونية جديدة، وما إلى ذلك من المهام الماسونية المناطة به.

وفاته:
وافاه الأجل بدمشق في منتصف ليلة 19 رجب 1300هـ - 24 مايو 1883م عن عمر يناهز 76 عامًا، وقد دفن بجوار الشيخ ابن عربي بالصالحية بدمشق، وبعد استقلال الجزائر طلبت الحكومة الجزائرية من الحكومة السورية نقل جثمانه إلى الجزائر، فتمَّ ذلك في عام 1965م.

ذرية الأمير عبدالقادر الجزائري:
اجتهد الأمير عبدالقادر في تأسيس "محفل سوريا المستقل"، وكما أسس عدة محافل فرعية تابعة له، وقد ترقى إلى أعلى الدرجات حتى لقب بأستاذ أعظم للشرق.
وقامت ذرية الأمير عبدالقادر برعاية المحفل الأكبر، وسلسلة المحافل التابعة له، واتهمت ذرية الأمير عبدالقادر الجزائري برعاية الماسونية في سوريا إلى منتصف القرن الماضي، وكان الشيخ عبده وهو ماسوني شهير أثناء منفاه البيروتي في ضيافة وموضع حفاوة أحفاد الأمير عبد القادر الجزائري.
وقد بقي حفيده الأمير محمد سعيد حتى الستينات قطبا أعظم لمحفل جدِّه "محفل سوريا المستقل" بدمشق، والذي دعِي حينذاك باسم "المحفل الأكبر السوري"، وذلك عام 1939م.
كما لعب الأمير محمد سعيد دورا كبيراً في تاريخ سوريا الجديد، وكان يُعامل خلال الحكومات المتعاقبة معاملة الرؤساء.
وكان الأمير محمد سعيد قد خصص جناحاً في قصره الدمشقي لاجتماع المحافل الماسونية المشرقية وهي عديدة منها محفل ميسلون، ومحفل أمية ومحفل أبي العلاء ومحفل العدل الشقيق، ومحفل يحمل اسم الأمير عبد القادر الجزائري نفسه.



محمد المبارك
الرياض - السعودية
حفيد الشيخ فيصل المبارك


المصدر: طريق الإسلام