المنطق التبريري

منذ 2008-01-27

حين نعاني مرضاً فكريّاً فرديّاً، قد يــرى بـعـضـهـم الصمت حياله هو الواجب.. أمّا حين يكون المرض الفكري وباءً يشل فعالياتنا ويضيّع جـهــودنـــا، فــلا تعطي ثماراً بقدر الثمن المدفوع، فإنّ الكلام هنا يكون هو الواجب..


حين نعاني مرضاً فكريّاً فرديّاً، قد يــرى بـعـضـهـم الصمت حياله هو الواجب.. أمّا حين يكون المرض الفكري وباءً يشل فعالياتنا ويضيّع جـهــودنـــا، فــلا تعطي ثماراً بقدر الثمن المدفوع، فإنّ الكلام هنا يكون هو الواجب..

وهـذا المقال محاولة للتوفيق بين واجب الصمت وواجب الكلام في عــلاج وبــاء الـمـنـطـق التبريـري في عملنا الإسلامي، ليحل محله المنطق العملي الذي يدفعنا إلى إتقان العمل بدلاً من تبرير الفشل.. ويعلّمنا ممارسة عبودية الأخذ بالأسباب التي هي أحد مفردات عبودية التوكل.

لقد شــاءت إرادة الله أن تحكم الكون سنن في غاية الدقة والعدل والثبات، لا يجدي معها تعجل الأذكـيـــاء ولا أوهام الأصفياء، فهي لا تحابي أحداً من الخلق مهما زعم لنفسه من مسوغات المحاباة..

ومن سنن الله الثابتة أنّ لكل حادث سبباً، ومن وراء الأسباب تدبير اللطيف الخبير..

فالنجاح في الوصـــول إلـى الأهــداف يرتبط بالوسائل الموصلة إليها، وليس بأمور سحرية غامضة الأسباب، والمنتصر في أمور الدنيا هو من يأخذ بأسباب النجاح سواء أكانت أهدافه سليمه أم لا {كُلاً نُّمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً} [سورة الإسراء: 20].

وقد كانت انتصارات المسلمين فـي "اليرموك" و"القادسية" و"عين جالوت" وفق تلك السنن الثابتة.. وحين طرأ الخلل على سنن النصر الثابتة، كانت هزائم المسلمين في "أحد" و"حُنين" و"الجسر".

بل إنّ ذاكرة تاريخ المسلمين تحفـــظ أنّ هزيمتي "أحد" و"حنين" كانتا والنبي صلى الله عليه وسلم بين صفوف المسلمين يقودهـم، ليعلم من سيرث الأرض من المؤمنين أنّ الخلل حين يقع في صفوف المسلمين تنطبق عليهم سنن الله.

ونحن نجزم أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لم ينهزم قط.

في "أحد": رتّب رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمور، ورسم الخطة العسكرية التي حقق الله بها النصر، ولكن الرماة ـ الذين اجتهدوا فأخطؤوا ـ هم الذين أضاعوا النصر.. فكانت الهزيمة التي تعلمنا منها أنّ صــلاح العقـيــدة أهـم أسباب النصر، وأنّ من صلاح العقيدة الأخذ بالأسباب وطاعة القائد.

وفـي "حُـنـيـن": لم ينهزم النبي صلى الله عليه وسلم، وإنّما الذين انهزموا هم حديثو العهد بالإسلام الـذيــن أُعـجـبــوا بكثرة العدد ورأوا فيه سبب النصر، وغفلوا عن مُسبب النصر.. ومع ذلك نصر الله نبيه ببقية من أصحابه المخلصين، لتعلم هذه الأمة أنّ النصر لا يكون إلاّ بالصفوة المختارة التي بلغت قمة التجرد لله وغاية الإخلاص لدينه.

وأمّا موقعة "الجسر": فهي درس عظيم جدير بالتأمل والتدبر..
لقد خرج أبو عبيد بن مسعود الـثـقـفــي رضي الله عنه على رأس جـيش لقتال الفرس، فأرسل رستم إليه بهمن بن جازويه برسالة يقول فيها: "إمّا أن تعبر الـنـهــر نهر الفرات إلينا وندعكم والعبور، وإمّا أن تَدَعُونا نعبر إليكم"،.. فنهى النّاسُ أبا عـبـيد عن العبور.. فلجّ وترك الرأي والمشورة، وقال: "لا يكونون أجرأ منّا على الموت".. فعبر إلـيـهـــم فضاقت الأرض بأهلها.. واشتد الأمر على المسلمين.. حتى إن أحد فيلة الفرس وطئ أبا عبيد فقُتل شهيداً.. وتتابع على أخذ اللواء سبعة أنفس من ثقيف فقاتلوا حتى الشهادة، وذهبت ريح المسلمين وانكشف أمرهم، وخسروا في هذه المعركة أربعة آلاف مقاتل.. وكانت خـســـــارة كبيرة للمسلمين كلهم، أحس بعظمها خليفة المسلمين عمر بن الخطاب فقال: "اللّهم إنّ كل مسلم في حل مني، أنا فئة كل مسلم، يرحم الله أبا عبيد لو كان عبر فاعتصم بالخيف، أو تحيز إلينا، ولم يستقل (يعني برأيه) لكنّا له فئة".

.. نـعـم لقد عبر أبو عبيد الجسر بشجاعة وإقدام وإيمان وحب للشهادة، لكنه لم يحسب للمعركة حسابها، ولم يدرس أرض المعركة بشكل كاف، وزاد على ذلك بمخالفته لمن معه من أركــان الجيش الذين نهوه عن العبور، فلم ينته واستقل برأيه، فكانت هزيمة الجسر التي علـمـتـنا أن النصر مع الإقدام يرافقه، ولكن مع التبصر والأناة، وبعيداً عن الاندفاع الذي يهلك الجـنــــد ويأتي بالهزيمة، ذلك أنّ الحماس لشيء ما لن يخدمه، ما لم يكن مشفوعاً بأسلوبه الفني الذي يحققه.

تلك بعض هزائم الـمـسـلـمين، وهذه بعض أسبابها.. ونحن لا نريد هنا أن نعرض لهزائم المسلمين بكلياتها وجزئياتها، فذلك موجود في مظانه من كتب السير والمغازي، وإنّما هي مواقف مختارة أردنا منها التأكيد على أنّ سنن الله التي تحكم الحياة جارية لا تتخلف، وأنّ الأمور لا تمضي جزافاً، وإنّما تخضع لعلاقة تلازم بين الأسباب والنتائج، ولذلك فإنّ تخلف النتائج في أي أمر نُـقـــدم عليه لابد أن يدفعنا إلى خطوتين:

الأولى: هو أن نفترض حدوث خطأ في عملنا..
والثانية: هو أن نبحث بجد عن هذا الخطأ في أعمالنا لنصوبه.

تساؤل مهم وجوابه:

وفي ظلال هذا الفهم لطبيعة العـلاقــــة بين الأسباب والنتائج، نخطو في مقالنا هذا خطوة أخرى فنتساءل:

ما هي الأسباب وراء انحســار عملنا الإسلامي، وعجزه عن بلوغ أهدافه من عودة الإسلام إلى المجتمع وصبغه بصبغة الإسلام، ثم تتويج ذلك بقيام النظام السياسي الإسلامي؟

سيرد البعض على الفور: علينا العمل، وليس علينا إدراك النتائج!! وسيؤكد آخرون: لقد قمنا بكل ما نقدر عليه ولكن الظروف الاجتماعـيـــة والسياسية والدولية لم تسمح بتحقيق النتائج!!

وأمّا الذين يدينون بـالجبرية السياسية فيرددون القوت الذي يقتاتون به عند كل فشل: إن مـكــر أعــدائـنــا من القوى المحاربة للإسلام وأذنابهم من العملاء الذين تحركهم الأيدي الخفية.. إنّ مكر هؤلاء قدر غالب ليس لنا وسائل لدفعه ولا أسباب لرده!

وأمّا الصنف الأخـيـر فسـيـصـحـح ـ بزعمه ـ كلام هؤلاء كلهم: لا بل نحن في آخر الزمان وهذه علاماته، فلا يمر يوم إلاّ والذي بعده أسوأ منه..!!

وهكذا يظل القوم يلهثون في البحـــث عن كبش الفداء لتبرير الفشل والانحسار ويتفنون في اختراع الأسباب لزحزحة المسؤولية عــن عــواتـقـهـــم وإلقائها على عاتق الغير من أعداء وظروف وغيرها، وهؤلاء هم الذين أصابهم وباء "المنطق التبريري".

لقد ضرب الله لنا مثلاً في القرآن لأناس أصابهم هذا المرض "المنطق التبريري" ثم عافاهم الله منه بتوفيق أرشدهم وأعقلهم إلى الطريقة الصحيحة لـعــلاجـــــه؛ فقال عز وجل: {إنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الجَنَّةِ إذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ(17) وَلا يَسْتَثْنُونَ} [سورة القلم: 17- 18].. لقد عزم هؤلاء على حرمان المساكين من حقهم بقطف ثـمــار بستانهم في الصباح قبل أن يراهم أحد، فعاقبهم الله: {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} [سورة القلم: 19- 20].. وفـي الـصـبــح: ذهــب أصحــاب البستان ليتموا ما اتفقوا عليه، وفوجئوا بالمأساة..مأساة استحالة النضارة في القطوف الدانية والثمار الزكية الشهية إلى سواد مُدْلَهِم لا ينتفع بشيء منه، بل هو صورة غضب الله ومؤاخذته لهم على كفران النعمة بما أقسموا على منع الخير وقبض أيديهم عن عطاء من هم أهل للعطاء..

فماذا فعل أصحاب البستان؟ لـقــــد كان بعضهم مصاباً بـالمنطق التبريري فأخذوا في تصيد كبش الفداء والبحث عن أمر خارج عـنـهــم كـــان هو السبب في بلائهم، فطمأنوا أنفسهم اطمئناناً خادعاً بأنّه لم يحصل شيء، فليست هـــذه جنتنا وإنّما نحن ضللنا الطريق..
{فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إنَّا لَضَالُّونَ} [سورة القلم: 26].. وحينما تأكدوا أنـّهــا هي ولـيـسـت غـيـرها، كان التبرير الآخــــر الذي يقوم على تنزيه النفس وإلقاء التبعة على الظـروف والقدر {بـَــلْ نَـحـْــــنُ مَحْرُومُونَ} [سورة الواقعة: 67]..
وهنا بدأ أوسـطـهـــم وأعقلهم وأرشدهم في تعريفهم بالسبب الحقيقي لما هم فيه، والطريقة الصحيحة في النظر إلـى المحن والمصائب.. {أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ} [سورة القلم: 28]، إنّ المشكلة فيكم وليست خارجكم، وأنتم الذين أخطأتم..

هذا هو الطريق ولم يرتكب أصحاب الجنّة حماقة التبرير للبقاء على الخطأ، بل بدؤوا في عملية التصحيح على الفور.. {إنَّا كُنَّا ظَــالِـمِـينَ}.. {إنَّا كُنَّا طَاغِين} [سورة القلم: 31].. إنّ الخطأ عندنا، والمشكلة بدأت من عندنا وليس من عند غيرنا..

هذه الطريقة التي اتبعها أوسـطـهــم هـي مــا يجب أن نسلكه في علاج تبريرنا لعجزنا وانحسار عملنا الإسلامي، فنقول: إنّّ التبريرات الـتـي نـسـوقها لتبرير فشلنا وعجزنا عن تحقيق أهدافنا ما هي في حقيقتها إلاّ نتائج للأسباب الحقيقية التي يغفلها عمداً أو جهلاً من أصيبوا منّا بوباء "المنطق التبريري".. ذلك المنطق الذي يعفـيـنـا مـــن أدنــى مسؤولية أو تقصير، ويفترض دائماً عدم وقوع أخطاء منّا، كانت هي السبب في تأخر قـطـفــنـــا لثمار أعمالنا؟!

.. ونحن نذكّر أنفسنا، ونذكّر من أصابهم المرض منّا، فنقول: إذا كانت الظروف هي سبب فـشـلـنا في تحقيق أهدافنا، فإنّ معنى ذلك أنّ أعمالنا دون مستوى عصرنا، لأنّنا لم نستعد لمواجهة تلك الظروف.

وإذا كانت خطط أعدائنا هي سبب فشلنا، فما الذي يجعلها تنجح؟

وإذا كــان أذنــاب هــؤلاء من العملاء الذين تحركهم الأيدي الخفية هم سبب فشلنا، فمن الذي تسبب في وجود الأذناب، وغطى الأيدي الخفية؟..

وإذا كان وجودنا في آخــر الزمان هو سبب فشلنا ـ لأنّ كل يوم يكون أسوأ ممّا قبله ـ فهل يعني هذا أنّ محاولات المصلحين وجهودهم لابد أن تضيع سدى؟

إنّ الحقيقة التي يجب أن نـديــن بـهـــا جميعاً أنّنا نحن ـ شئنا أم أبينا ـ المسؤولون عن فشلنا وهزائمنا، وكل من يحاول أن يزحـــزح هــذه المسؤولية عن عاتقنا ليلقيها على عاتق الغير، هو في الحقيقة يلحق بنا الضرر ويؤخر خروجنا ممّا نحن فيه.

إنّ من يعتقد أنّ مكر أعدائه هو القدر الغالب، أو أنّ الظروف فوق طاقته: سيتحرك بنفسية المهزوم الذي يرى أنّه لن يستطيع فعل شيء، وربّما أسلمه ذلك إلى الاستسلام للواقع على أنّه التصرف الواقعي، فيتقوقع على نفسه وينسحب من ميادين العمل ليشغل نفسه بقضايا هامشية، وإذا حاولت أن تشحذ همته للعمل على التـغـيـيـر، رد عليك بقوله: كنت أقوى عزيمة منك، كنت أحاول وأعمل وأجاهد، وتبين لي بعد سنين من التجارب المرة أنّ الأمور ليست بهذه البساطة، وأنّ محاولتي هذه كانت نوعاً من السذاجة والغفلة!

ولا يقل هزيمة عن هذا من يرى أنّ التغيير لا يخضع لسنة ارتـبـــاط النتائج بأسبابها، أو يرى أنّنا في آخر الزمان فيظل ساكناً في انتظار ظهور المهدي الذي يصلح الدنيا دون جهود من أهلها، وكلما دعاه أحد إلى العمل والتضحية من أجل الإصلاح أجاب لسان حاله: {فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [سورة المائدة:24]، ومهما كانت مرارة الفساد الذي يحيط به، فإنّه يبقى في انتظار ظهور المهدي الذي قد يمر ألف عام أو أقل مـــن ذلك أو أكثر دون أن يظهر، بينما لو أخذ هذا وغيره بالأسباب الموصلة إلى النصر وتغيير الواقع الفاسد لغيّر الله بهم هذا الواقع.

إنّ من يحاول التستر على أخطائنا وعدم الكشف عنها هو من يُسْلمنا إلى المأساة الحقيقية تحت دعوى عدم التشهير بأنفسنا، أو كشف عيوبنا أمام أعدائنا.. ذلك أنّ هؤلاء يضعوننا في مرتبة أعلى من مرتبة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين بيّن الله في قرآنه أنّ ما وقعوا فيه من أخطاء كانت سبباً في هزائمهم في "أحد" و"حُنين".

قد يرد بعضهم بقوله: إنّ الابتلاء من سنن الدعوات، وقد جرت حكمة الله وسنته في رسله وأتباعهم أن يُدال لهم مرة، وأن يُدال عليهم مرة أخرى، ليتميز الصادق من غيره.

ونحن نقول: إنّ هذا الكلام حق وصدق لا مرية فيه، ونحن لا ننكر أنّ الابتلاءات والمحن مــن سـنـن الـدعـــوات.. بل هي طريق الرسل وأولياء الله.. وواجب الذين يصابون بها هو الثبات على ما هم عليه.

ولكن ما نريده أن يكون لدينا ملكة الفرقان بين الابتلاء والفشل بسبب الخطأ في العمل.. ذلك أنّ الموقف الصـحـيـح فـي الأول هــــو الثبات والبقاء على ما نحن عليه، أمّا الموقف الصحيح في الثاني فهو مراجعة الخطأ والتـخـلـي عنه والبدء في تدراكه بالسير في الطريق الصحيح.

إن التفكير بطريقة "المنطق التبريري" الذي يفصل النتائج عن أسبابها تحت دعوى أنّ علينا أن نعمل، وليس علينا تحقيق النتائج هو في حقيقته مصيبة كبرى؛ لأنّ ذلك يعني مثلاً أنّ المهندس الذي يشيد عمارة فتنهار لا يحاسب!! أو أنّ الطبيب الذي يهمل في علاج مريض فيموت لا يكون مسؤولاً ومحاسباً!!

إن الـذيــن يرددون عـلـيـنــا أن نعمل وليس علينا تحقيق نتائج.. هؤلاء يغيب عنهم أنّ الصواب في الأعمال أصل قبولها في الآخرة وشرط نجاحها في الدنيا.. وأنّ صواب الأعمال لا يتحقق إلاّ أن تكون أعمالنا وفــق شـــروط الزمان والمكان، فالقيام بالأعمال خارج وقتها غيرمقبول، كما أنّ إتيان النوافل بترك الواجبات من ضعف الفقه.

إنّ أعمالنا من أجل التغيير لابد أن تكون في إطار أعظم أصل من أصول التغيير وأصدقه في عالم الأنفس والمجتمعات، وهـو قـول ربـنـا عـز وجـل: {إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [سورة الرعد: 11] طبقاً لفهمها الصحيح حسب سنن الله في الـكون، وطبقاً للعلاقة بين ما هو في النفس وما هو خارج النفس من أوضـــاع يطلب تغييرها، بمعنى أنّ كل شيء يتوصل إليه بـأسبابه المؤدية إليه، فإذا كنّا نريد تغيير واقع منحرف، فإنّ طريقنا إلى ذلك أمران:

الأول: إثارة السخط على الواقع المنحرف، وإثــارة الاهـتـمــام بـتـغـيـيـره، وزيادة الوعي بالبديل، والالتزام بهذا البديل.
الثاني: الإيمان بضرورة توفير القوة المؤيدة للتغيير التي تكفي لإزاحة القوة الباغية المؤيدة للواقع المنحرف.

فــإذا اقـتـصــرنا على الأمر الأول من التغيير لما في النفس، وهو تغيير الرضا بالواقع إلى السخط عليه، والتطلع إلى إحلال بديله، سيحصل ـ بإذن الله ـ ما قابله فقط من التغيير في الواقع.. أي سيحصل التغيير في الآراء والمطالب وسيلتزم الأفراد بوصفهم أفراداً بما يمكنهم التزامه من الواقع المنشود.

فإذا ما حدث الأمر الثاني من التغيير لما في النفس، وهو الإيمان بضرورة توفير القوة المؤيدة للتغيير الكافية لإزاحــة الـقــــوة المعادية عن طريقها، وتوفرت بالفعل تلك القوة.. حينئذ سيحصل التغيير الآخر.. وذلك:

إمّا بتخلي القوة المعادية عن المجابهة خوفاً من القوة الجديدة.

وإمّـــا أن تحـصــــل المواجهة فيحكم الله بين الفريقين حسبما تقتضي حكمته سبحانه وتعالى.. فإنّ كانت النتيجة نصراً لأصحاب الحق، فبحول الله وتوفيقه واتباع ما أمر به: كتب الله لهم هذا النصر.

وإن كانت الأخرى، فلأمر يريده الله كان تأخير النصر.. ومن لحق من أهل الحق بربّه فهو بالشهادة أسعد.. وعلى الباقين استئناف السير على الطريق المشروع المبرور حتى يأذن الله بالنصر، ولكل أجل كتاب.

... تلك هي الطريقة الصحيحة في محاولة الخروج من الانحسار والفشل.

... وهذه هي الطريقة الصحيحة في تفسير الهزيمة بعد إتقان العمل..

وبعـــد.. فإنّ "الـمـنـطـــق الـتـبـريري" يمثل أخطبوطاً يمد سيقانه إلى جل مجالات أعمالنا الإسلامية، ويشكل قيوداً وأغــلالاً تنـمــو في ظلالها قابليتنا للهزيمة، وتُقْتل بسببها همتنا للتغيير... ونحن ندرك أنّنا لن نقدر على عــلاج وباء "الـمنطق التبريري" بمقالة تكتب عنه، فذلك نوع من تسطيح الأمور والتفاؤل المفرط الذي يفقدنا الرؤية الصحيحة.

ولكنّنا في الوقت ذاته لا نعتقد أنّه لا علاج لهذا الوباء، أو نـقـــول كـمــا يقول لسان حال بعضهم: أقام العباد فيما أراد.. لن يكون إلاّ ما قد كان.. رفعت الأقلام وجفت الصحف... وغيرها من الأدلة السائرة التي يسوقها في غير موضعها أصحاب "المنطق التبريري".

وفقنا الله جميعاً للعلم النافع والعمل الصالح.


بقلم: محمد محمد بدري

المصدر: طريق الإسلام