هارب من الزواج!

منذ 2014-04-28

لقيته أول مرة يوم عيد فطر.. كنت ذاهبًا لزيارة خالتي فتعطلت سيارتي في منتصف الطريق، وورشات إصلاح السيارات كانت جميعها مغلقة؛ فاليوم عيد، جاء يسعى من بعيد بعوده النحيل ووجهه الأسمر الباسم، "السلام عليكم، أعندك مشكلة؟ أنا ميكانيكي"، وشرع في فحص وإصلاح السيارة قبل أن أجيب، تلطَّخ ثوبه الأبيض بالزيت والشحم الأسود، وكنت في حرج بالغ، بعد فراغه من الإصلاح وضعت في يده أضعاف أجره نقوداً، لكنه أبى بشدة، "أنا اليوم في إجازة، اليوم عيد، ما فعلته كان نجدة ومروءة".

لقيته أول مرة يوم عيد فطر.. كنت ذاهبًا لزيارة خالتي فتعطلت سيارتي في منتصف الطريق، وورشات إصلاح السيارات كانت جميعها مغلقة؛ فاليوم عيد، جاء يسعى من بعيد بعوده النحيل ووجهه الأسمر الباسم، "السلام عليكم، أعندك مشكلة؟ أنا ميكانيكي"، وشرع في فحص وإصلاح السيارة قبل أن أجيب، تلطَّخ ثوبه الأبيض بالزيت والشحم الأسود، وكنت في حرج بالغ، بعد فراغه من الإصلاح وضعت في يده أضعاف أجره نقوداً، لكنه أبى بشدة، "أنا اليوم في إجازة، اليوم عيد، ما فعلته كان نجدة ومروءة".

طلبت عنوانه وتابعت زيارته دون انقطاع، وبدا لي أعظم قدرًا مما ظننت وأكرم، علمت أنه لم يحصل إلاّ على الشهادة الابتدائية؛ فقد مات أبوه، والتحق بورشة إصلاح سيارات لينفق على الأسرة، تسّربت سنوات عمره، ونسي نصيبه من الدنيا، وأفنى عمره وماله على إخوته، فصار منهم الدكتور الجامعي، والطبيب، والمهندس، مضَوا في طريق الحياة، وتركوه كما هو في حجرة تحت السلم، لم أسمعه يذكرهم إلاّ بكل حبّ وخير، لكنني كنت أرى الحزن في عينيه، بلغ الستين ولم ينشئ أسرة بعدُ؛ كان يؤخِّر أمر زواجه عامًّا بعد عام، مؤثرًا حوائج ومطالب إخوته، سمعته يردِّد دومًا: "أيتزوج العجوز ويترك أبناءه الشباب ضائعين؟!".

لكنه اليوم يمر بأزمة كبيرة، لا أحد يشعر به، أنا فقط أدرك؛ لأني صديقه المقرب، هو عزيز النفس لا يبوح بشيء، لكني تعلمت أن أقرأ ما في نفسه على صفحات وجهه، ومن فلتات لسانه، أمسى الآن وحيدًا، زحف الوهن على جسده ونفسه، يهفو إلى الراحة والسكن، وكلٌّ مشغول عنه بنفسه، أخطأ لما أخَّر زواجه وتسرَّبت سنوات عمره، كان بإمكانه التوفيق بين ضرورات حياته وحاجات إخوته، لكنه اختار الطريق الأسهل للنفس؛ لم يشأ أن يحمل همًّا على همٍّ -زواجه وهموم إخوته- والآن هو يدفع ثمن قراره غاليًّا، فلا هو يستطيع العيش وحيدًا، كما أنه لا يملك شجاعة قرار الزواج.

بات الزواج حاجزًا ماديًّا ونفسيًّا لا يستطيع تخطية، كأن العزوبة صَكُّ عبودية لا يقوى على التحرر منه، يخاف من الزواج في ذلك العمر، يخاف من مسؤولياته وأعبائه، يرهب الإخفاق الزوجي، فهو يهرب ويسوق مسوّغات واهية لرفض ما يُعرض عليه من فرص زواج، حادثتُه وحاورتُه محاورة الصديق وصدقته النصيحة، وكان كجَلْمود صخر قدَّ من عزة نفس وعناد ومكابرة، يردد دائمًا: "ما لي والنساء، لا حاجة لي بهن، ما أغناني عن همومهن"، لكنك لو شققت عن صدره سترى فيه الضعف والشكوى والمعاناة، وسمعتَ نفسه تصرخ: "كم أنا في حاجة إلى زوجة صالحة أسكن إليها تملأ وحشتي وفراغي مودة ورحمة"!

لكنه يأبى ويخاف أن يكسر الحاجز أو يتخطاه، قلت له: هل أمست العزوبة لك شعائر ونسكًا وجب عليك أن تتمسَّك بها حتى يأتيك اليقين، حقيقة هو يحتاج إلى وقفة صدق مع نفسه وشجاعة كي يحطم الأغلال التي كبَّل بها نفسه، حاولتُ كصديق أن أمدَّ له يد المساعدة فكان كغريق يرفض أن يمسك طوق النجاة الملقى إليه، بكل عناد يصارع أمواجًّا لا قبل له بها، رفض كل مشروع زواج عرضتُه عليه، وبعد صراع طويل مرير متتابع وضغوط كبيرة وافق أن يعيد النظر في موقفه.

وذهبت إليه الأمس فوجدته قد باع كل معدات ورشته وترك الورشة، وسافر إلى عائلة أبيه بالجنوب، وأرسل إليَّ أنه لن يعود، لا أدري أهو سفرُ هروبٍ، أم ليبدأ حياة جديدة هناك؟! 

 

أبو بكر عثمان