طالبُ العلم.. والتأمُّل

منذ 2014-04-29

وللعلم فرحة، لا تُنَال بحصد أكبر قدر من الفوائد والـمُلَح، ولا بالترنُّم -حين تُسأل- ببضعة أبيات من هذه المنظومة أو تلك، وإنما تُنَال حين يترنَّح عقلك من رَهَق التأمُّل في دهليز مسألةٍ مظلمةِ الآخر، ويتهادى فكرك ذليلًا خلف أذيال قضية مغلقة، حتى إذا ما أزِفَت ساعتُك انسدل لك خيط الفتح، وانحلَّت عقد الإشكال..

سعة الاطلاع مطلبٌ لبلوغ مدارج العلماء، لكنَّ الرسوخَ وتخلُّلَ أعطاف التحقيق لا يُنال إلا بالتأمُّل وتقليب المعارف على صفائح العقل دون فتور ولا ملل، فجوهر المجاهدة في طلب العلم ليس في أطر النفس على قراءة أكبر قدر من الكتب، بل في أطرها على التحنُّث في محراب المعاني الغائرة والإشكالات المرهقة.

وللعلم فرحة، لا تُنَال بحصد أكبر قدر من الفوائد والـمُلَح، ولا بالترنُّم -حين تُسأل- ببضعة أبيات من هذه المنظومة أو تلك، وإنما تُنَال حين يترنَّح عقلك من رَهَق التأمُّل في دهليز مسألةٍ مظلمةِ الآخر، ويتهادى فكرك ذليلًا خلف أذيال قضية مغلقة، حتى إذا ما أزِفَت ساعتُك انسدل لك خيط الفتح، وانحلَّت عقد الإشكال.. ثمَّةَ الفرحة
يسجِّل الجاحظ ذلك، ويبين كيف تنفصم عرى الحزم مع فيوض هذه الفرحة فيقول: "للعلم سَورة، ولانفتاحه بعد استغلاقه فرحة، لا يضبطها بشريٌّ وإن اشتدَّت حُنكته وقويت مُنَّته وفضلت قوَّته"، ما أضيقَ العلمَ لولا فسحةُ الفرحِ!

صنَّف القرافي كتابه العجاب (الفروق) وابتدأه بذكر الفرق بين الشهادة والرواية، وأحسب أنه بهذا الابتداء أراد أن يقذف في روع القارئ أن هذا الكتابَ المتلقَّى كتابُ تأمُّل، وليس كتابًا تُدرك مضامينه بطرف العقل وحاشية الفكر.. كيف ذلك؟ قال في مطلع كلامه عن هذا الفرق: "ابتدأتُ بهذا الفرق بين هاتين القاعدتين لأني أقمتُ أطلبه نحو ثمان سنين فلم أظفر به"، (2900) يوم والمسألةُ مسرَّحةٌ في حيز النظر والتأمُّل! وهكذا العلم.
تأمَّلْ في علم، في كتاب، في مسألة.. تأمَّلْ لتخليق فكرة، لصناعة مدخل، لزرع إشكال..
تأمَّل.. فـ"إنَّما تُدرَك الحقائق بالتأمُّل" كما يقول الزرنوجي.

التأمُّلُ مشروع فكرة، والاطلاعُ المجرَّدُ مشروع معلومة، وإنما يتمايز الطلبة بقدر استحواذهم على الأفكار المنتِجة، لا المعلومات المعلَّبة، وقلِّب طرفك في جنبات التراث المعرفي للعلماء بشتى طبقاتهم، ستجد السادة هم من كانت الأفكار هي المحرِّكَ الأكبرَ لعلمهم، وبها تقلَّدوا مناصب التحقيق، بخلاف من نصب نفسه لاجترار المعلومات المنثورة عند الشركاء.. ولستُ أفرض بذلك تقابلًا بين الأفكار والمعلومات، فليس يستغني طالب العلم عن أيٍّ منهما، غير أن الشأن ليس مقصورًا على امتلاك ترسانة معلومات، بل الشأنُ في توظيفها واستثمارها لبناء فكرة متكاملة، وكما أن الأسد مجموعة خراف مهضومة، فالمحقِّقُ من طلاب العلم مجموعة معلومات مهضومة، أمَّا غيرُه فـمجموعة خرافٍ معلوماتية متجاورة، وشتَّان ما هما.

ثم إنَّ التأمُّلَ من خواصِّ التكوين الذاتي التي فَضَل بها التكوينَ الجمعيَّ، وذلك أنَّ لطالب العلم في تلقِّيه طريقين متوازيين، وهما: (التكوين الذاتي، والتكوين الجمعي)، ولا غنى له عن أحدهما، ولكلٍّ من هذين الطريقين خواصّ، والتكوين الذاتي الذي ينكفئ فيه الطالب على نفسه ويكون به حِلسَ مكتبته أحظى بالتأمُّل، بخلاف التكوين الجمعي الذي يكون فيه الطالبُ أسيرَ مصدر آخر يفرض عليه نمطًا زمانيًا ومكانيًا ومعرفيًا معينًا.

وهذا التكوينُ الذاتيُّ التأمُّليُّ أكثرُ تصالحًا مع نَزَعات الذات، فإنَّ للذات انجذاباتٍ طبعيَّةً غيرَ مراعاةٍ في التكوين الجماعي، وذلك يؤخر من موقع التأمُّل في خارطة التكوين المعرفي، فإن مقدمات التأمُّل تختلف باختلاف الطلبة من جهة الاستعداد الذهني والتهيؤ النفسي، ولا يحقق التوازن في رعاية هذه المعطيات مثلُ التكوين الذاتي.
تفكُّرُ ساعة خيرٌ من (قراءة) ليلة..

والقراءةُ بلا تفكير لا توصل إلى شيء من العلم كما يذكر ابن باديس..
"وأن تقرأ كتابًا ثلاث مرات أنفع من قراءتك ثلاثة كتب" كما يقول العقَّاد، طالبَ العلم.. أفسِحْ لتأمُّلك.
 

ألاَ أيُّهَا الأغْفَالُ إيهًا تأمَّلُوا *** وَهَل يُوقِظُ الأذهانَ غيرُ التأمُّلِ

 

مشاري بن سعد الشثري

المصدر: مجلة البيان