معجزة المرأة الصالحة

منذ 2014-05-05

لن نعدم ما يوازي شق تمرة أو ثمن الزيت، ورب درهم أكثر قبولاً وبركة من الملايين، المهم أن نتحرك ونعيد المسجد الأقصى إلى سويداء قلوبنا وبؤر الاهتمام في حياتنا، ونحرص أن نكون فيه بأعمالنا ولو غابت عنه أجسادنا؛ لأننا كلما نسيناه وانشغلنا عنه استغل العدو غيبتنا فعاثوا فيه فسادًا!

بعد أن أنهيت حديثي في محاضرة عن مشروع إحياء مصاطب -مجالس- العلم في المسجد الأقصى، وقد كان سقف ما أتأمله من الدعم من دينار إلى خمسة دنانير، وذكرت الحاضرات بشعار دولة العدو عندما قامت لرعاياها في الخارج: "تبرعوا ولو بدولار من أجل صهيون"، وقلت نحن أولى بحقنا ومقدساتنا منهم بباطلهم وادعائهم، اقتربت مني شابة وهمست في أذني بعيدًا عن الأخريات قائلة: "ما وضعته في جيبك للمشروع"، لم أعرف ما وضعت فلم أحس بيدها، وانشغلت مع الحاضرات وغادرت هي إلى الحصة الأولى في المدرسة التي تعمل فيها، ولما أنهيت وجدت في جيبي سوار من الذهب عيار 21 قيراطًا!

لم أدر ما أفكر أو أشعر فبحسابات زمننا هذا، بدا لي أن هذه المرأة قادمة من المريخ وليس من كوكبنا وبلادنا، حيث الأحوال الاقتصادية في تدهور مستمر، وأسعار الذهب في ارتفاع مطرد، بلغت محليًا 32 دينارًا أردنيا و46 دولارًا للغرام الواحد، وهذا وقت اكتناز الذهب أو بيعه لسد حاجة، ولكن التبرع به من امرأة جعل الله من فطرتها حب الحلي والذهب ولو كان قناطير مقنطرة! هي لم تنفق فقط مما تحب، بل من أفضل ما تحب، وهي معلمة -مدرسة- ثمن السوار قد يساوي نصف راتبها أو أكثر!

ولكن عندما ذهبت الصدمة الأولى تذكرت ميسون الدمشقية، التي ذكرت قصتها كتب التاريخ، وهي التي لما لم تجد ما تتبرع به لتجهيز جيش المسلمين بعد استشهاد إخوتها الأربعة، ضحت بجديلتها لتكون سرجًا لأحد خيول المجاهدين في حربهم مع الصليبيين، والشعر يومها كان عنوان الجمال وأغلى ما تملكه المرأة!

ثم عدت وتذكرت صورة شاهدتها لنساء فلسطين من أراضي 48، وهن يملأن بساطًا كبيرًا بصنوف المجوهرات والحلي من أجل إعمار المصلى المرواني، الذي جعله الاحتلال خرابة ومزبلة! وعدت وتذكرت نجوى سلطاني القيادية الجزائرية، التي أعطت دبلتها لإسماعيل هنية ليضعها في مشاريع إعمار غزة!

وبعدما استدركت أدركت أن هذه المرأة صاحبة السوار لم تأتِ من فراغ، بل كانت وريثة جيل فريد ونماذج نادرة، تبيع نفسها لله مقابل جنات فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، حيث الأساور من ذهب ولؤلؤ والملابس من حرير، والأسماء فقط ما نعرف من ألفاظ الدنيا أم الحقائق فتعجز العقول عن تخيلها

بهذه الأمثلة من النساء فهمت ما معنى قول نابليون: "أمنع الحصون المرأة الصالحة"، لأن مثل هؤلاء النساء يعدن الأمل بأن الفرج قريب والتحرير بإذن الله أقرب، وتضحية المحب تظل تتعاظم حتى تصل إلى التضحية بالنفس، وهذه مع تأييد الله عماد النصر وأساسه.

تبرعت هذه المعلمة بسوارها لمشروع إحياء مجالس العلم في المسجد الأقصى، هذه المجالس التي جعلت من المسجد معهدًا علميًا بارزًا في القرن الخامس الهجري، والتي لم تنقطع فيه إلا زمن الصليبيين، وبلغ عددها أكثر من 360 مجلس علم، وأصبحت لا تزيد الآن على ثلاثين في أفضل الأحوال في شهر رمضان لقلة التمويل الذي تحتاجه للاستمرارية.

وهذه المصاطب لا يقتصر دورها على إحياء المسجد الأقصى كمدرسة للعلم والعلماء، بل يمتد إلى تعليم الأجيال المقدسية الواعية والمؤمنة، التي تواجه سياسات التجهيل المتعمد والاحتواء والإسقاط الإسرائيلي، ناهيك أن وجود هذه الحلقات يوميًا يؤمن الحماية للمسجد، ويثبت وجود مرابطين فيه على الدوام لمواجهة اقتحامات اليهود المتطرفين.

وهذا المشروع يشكل صدقة جارية لمن يشارك فيه بنشر علم يُنتفع به، وتكلف كفالة الطالب الواحد 1000$ وتشمل الكفالة منحة طالب العلم ومعاش المدرس والتكاليف الإدارية، وتكاليف المصطبة كاملة والتي تضم ثلاثين طالبًا 30000$.

ولتأكيد أهمية المشروع وخطورته فقد أوصى شيخ الأقصى، -الشيخ رائد صلاح- به عموم المسلمين، معلقًا عليه آمالا كبيرة في إحياء ودعم صمود المسجد الأقصى المبارك.

قد لا يستطيع كلنا ما استطاعته المعلمة، ومن قبلها نجوى سلطاني، ومن قبلها نساء 48، ومن قبلهن ميسون الدمشقية، وكثير من الأتقياء الأخفياء الذين يخفون على أهل الأرض، ويعلم بخبرهم أهل السماء، لكننا لن نعدم ما يوازي شق تمرة أو ثمن الزيت، ورب درهم أكثر قبولاً وبركة من الملايين، المهم أن نتحرك ونعيد المسجد الأقصى إلى سويداء قلوبنا وبؤر الاهتمام في حياتنا، ونحرص أن نكون فيه بأعمالنا ولو غابت عنه أجسادنا؛ لأننا كلما نسيناه وانشغلنا عنه استغل العدو غيبتنا فعاثوا فيه فسادًا!

 

ديمة طارق طهبوب
 

المصدر: موقع حركة التوحيد واﻹصلاح