الطفل.. بين الكذب والخيال
الطفل هو تلك الصفحة البيضاء التي تقع على الأهل مسؤولية الحفاظ عليها وطريقة العناية بها وبرمجتها؛ لكي يصبح الطفل فردًا فعالًا في مجتمع متطور. وطبعًا يحتاج كل طفل إلى عطف والديه وحنانهما، كما يحتاج إلى أن يعتمد على نفسه في كثير من المواقف
الطفل هو تلك الصفحة البيضاء التي تقع على الأهل مسؤولية الحفاظ عليها وطريقة العناية بها وبرمجتها؛ لكي يصبح الطفل فردًا فعالًا في مجتمع متطور. وطبعًا يحتاج كل طفل إلى عطف والديه وحنانهما، كما يحتاج إلى أن يعتمد على نفسه في كثير من المواقف، وأن يتصرف كفرد له حقوق يجب أن نحترمها جميعا. لكن بعض الأطفال يلجأون إلى الكذب، لأنهم في مرحلة معينة، تمتد من ثلاث سنوات إلى اثنتي عشرة سنة، وهي مرحلة خيالية، يبنون أقوالهم على أحلامهم، مما يضطرهم إلى اختلاق حالة من الواقع الكاذب بالنسبة إلينا، وهذا ما يدفع إلى الاعتقاد بأن أولادنا يكذبون، لكن الحقيقة مغايرة تمامًا، ولهذا علينا أن نفهم أولادنا.
إن تأليف القصص في هذا العمر أمر طبيعي، والطفل يخترع هذه القصص من أجل المتعة، ومن دون أن نشعره بالذنب علينا أخذ عنصرين بعين الاعتبار: أولا: وظيفة الكذب. وثانيًا: استمراريته وتطوره. فالكذب عند الطفل ملكه الشخصي ورغبته في ألا يقول كل شيء. وهو في هذه المرحلة لا يملك القدرة الذهنية لتمييز العالم الحقيقي من الخيالي، وتطور النطق السريع لهذه المرحلة يوضح لِمَ يستمتع باختراع وتأليف القصص أمام الآخرين. لكن في الثامنة من العمر يميز الطفل بين الصح والخطأ في محيطه، وهذا أمر طبيعي في مجرى التطور الأخلاقي عند الإنسان. ففي مثل هذا العمر تترسخ الأخلاق والقيم الاجتماعية، ويتعلم الطفل أن قول الحقيقة شيء مرغوب فيه اجتماعيًا. ومن ناحية أخرى، يتعلم أن الكذب قد يساعده في الدفاع عن نفسه في مواقف معينة. في الطفولة تعتبر هذه الأكاذيب طبيعية، فالطفل لا يميز عالم الواقع من الخيال فهما مندمجان عنده، لأن الوعي الأخلاقي لم يتشكل لديه. وهذا النوع من الكذب يزول عندما يكبر، لكن كثيرا من الأسر لا يستطيعون التمييز بين حالتي الكذب والتخيل والفروقات الكمية والنوعية بينهما، مما يولد عندهم ردود فعل متناقضة، في طبيعتها ونتائجها.
(طفلي يكذب).. هذه صرخات نسمعها كثيرًا من قبل الأمهات اللواتي يعانين من كذب أطفالهن، والطفل بخياله ينسج قصصًا وحكايات هو البطل في أغلبها والضحية، وهن يعتبرن قصصه نوعًا من الكذب والسلوك الخاطئ الذي يستحق عليه العقاب أو عدم الاهتمام بما يقوله، أو التعامل معه بطريقة سلبية، بمعنى توجيه اللوم إلى الطفل كشخص لا توجيهه إلى سلوك الطفل بأسلوب دافئ محبب يشجعه على تنمية توجهات داخلية قادرة على إكساب شخصيته مبادئ السلوك الإيجابي وأساسياته. إن تقبل الوالدين لطفلهما يعد مصدرًا من مصادر تقبل الطفل للمعايير الأخلاقية والأحكام الاجتماعية المقصود توصيلها إليه من أجل بناء شخصيته بناءً سليمًا. والحقيقة التي لا يعرفها البعض أن هذا الخيال الطفولي ما هو إلا لبنة أولى في بناء شخص قاص أو مؤلف أو روائي، أو نتيجة الخوف والانتقام والتجاهل من جانب أسرته وعالمه الصغير.
المشكلات السلوكية التي تطرأ على بعض الأطفال غالبًا ما تكون بحاجة إلى معالجات حكيمة من طرف الأسرة. فالطفل في سنواته الأولى، وتحديدًا عندما يبدأ الكلام ويحرك عينيه تجاه الأشياء المرئية والمسموعة، يستطيع أن ينتج شيئًا ما. ومشكلتنا أننا نقيّم هذا الشيء بعقولنا -نحن الكبار- على أنه كذب وضرب من المبهمات لا يستحق أن نوليه أي اهتمام أو تأمل، من دون أن ندرك أن هذا الطفل يعيش مرحلة استهلاك عالمه بجميع ما أوتي من إمكانات، حسية وحركية وإدراكية، كي يتعارف على ما هو غامض بالنسبة إلى عقله. قد نراه يتحدث ويلعب مع الحيوانات الأليفة، وقد نجد الفتاة تشتكي لدميتها قساوة والدتها، وكثيرًا ما نقابل هذه الأمور للأسف بنوع من الاستهجان والاستخفاف واللامبالاة، وهو أمر ينعكس بالسلب على الطفل، لأن أحدًا لم يشاركه عالمه الصغير، وكثيرًا ما يراها الكبار أوهامًا وخرافات يقصها أطفالهم عن مغامراتهم الخيالية أو أفعالهم المعجزة، متناسين، في الوقت نفسه، مغامراتهم الخيالية التي كانوا يقومون بها في فترة طفولتهم.
إن الطفل الذي يحكي عن مغامراته حين استطاع أن يوقف انحدار السيارة من منعطف خطر بقوة عضلاته، لا ينبغي، بحال من الأحوال، أن يقابل الكبار خياله بالسخرية، فهذا سينتج عند الطفل شخصية ساخرة، مما يحولها في المجالات العملية إلى متهكمة في واقعها الاجتماعي، مستهترة، غير مبالية بما يحيط بها من مشكلات حياتية متنوعة. وتتكون لدى الطفل عادة ملامح مغامرات يندمج فيها مع صورة الطفل في قصص الجدات المسائية بحيث لا يستطيع الانفصال عن هذا العالم الثري الذي يشبع فضوله ويرضي غروره، ويحمله إلى عالمه الساحر، الأمر الذي يجعل من هذه الحكايات منعكسات يومية لتصرفاتهم وقصصهم عن وقائع حياتهم الحافلة بمواقف البطولة والحب والخير ومساعدة الآخرين، خصوصًا مع اتساع العصر بدخول الكمبيوتر والإنترنت وبرامج الأطفال، وهي بها من عوامل الجذب والتقليد أكثر من عوامل التخلق بالمبادئ والمثل العليا، بمعنى أن الطفل في هذه السن لا يعي معنى المبادئ والأخلاق، فكيف نكذبه من دون أن يعرف الصدق وعواقب الجنوح عنه؟ فهو يحكي ويتحاكى ويدخل الماضي في الحاضر لكي يخرج في النهاية بقصة رأى نفسه بطلا بداخلها كي ينال من والديه كلمة إعجاب أو ثناء أو هدية، إذ الخيال في مرحلة الطفولة المبكرة هو أمر لا بد منه، بل ومفيد إن أحسنا معايشته مع أطفالنا بالإصغاء والتنمية بعدة وسائل، منها الرسم والموسيقى والرياضة والكتابة والقراءة، على قدر استطاعته، وتهيئة الأجواء النفسية المريحة في الأسرة. فالطفل المطمئن لا يكذب، أما الطفل الخائف فيلجأ إلى الكذب كوسيلة للهروب من العقاب، والطفل الشجاع الذي يعترف بذنبه لا داعي لمعاقبته بل يكافأ على اعترافه بالخطأ مع التوجيه الدقيق بألا يستمر في الوقوع في الكذب.. واتهام الطفل بالكذب قبل التأكد يجعله يألف اللفظة ويستهين بها، كأن نتهمه ثم نسحب اتهامنا بعد ذلك، حيث إن هذا التصرف يضعف موقفنا التربوي. والمفروض من الآباء والمربين والمدرسين التنبه إلى هذه المسألة الشائعة كثيرًا، وليكن شعارنا كل إنسان بريء حتى تثبت إدانته وليس العكس.
بعض الآراء التربوية في هذا المجال تشير إلى أنه من القواعد المتبعة في مكافحة الكذب ألا نترك الطفل يمرر كذبته على الأهل والمدرسة، لأن ذلك يشجعه ويعطيه الثقة بقدرته على ممارسة الكذب دائمًا، فبمجرد إشعارنا له أننا كشفنا كذبه فسوف يحجم في المرات التالية عن الكذب. ويمكن معالجة الكذب بالعدالة والمساواة بين الإخوة، وتنمية ثقة الطفل بنفسه، والمعالجة النفسية للمصابين بالعقد، والتزود بالقيم الدينية، وإشباع حاجات الطفل وتوجيه سلوكه نحو الأمور التي تقع في دائرة قدراته الطبيعية، مما يجعله يشعر بالسعادة والراحة، عكس تكليف الطفل بأعمال تفوق قدراته مما يؤدي إلى الفشل والإحباط والكذب. أما الأطفال الذين يميلون إلى سرد قصص غير واقعية فتأتي معالجتهم عن طريق إقناعهم بأننا نرى في قصصهم خيالهم الواسع، ولكننا بالطبع لا نفكر في قبولها أو تصديقها لحقيقة واقعية، وذلك أفضل من العقاب البدني أو السخرية. وتعليم الطفل أن الصدق ينفعه، ويخفف من وطأة العقاب في حال ارتكب الخطأ، والكذب يؤدي به إلى فقدان الثقة بالنفس والحرمان وفقدان احترام الآخرين له.
فدورنا يجب أن يكون إيجابيًا في حل مشكلات أطفالنا عن طريق التفكير العلمي الموضوعي السليم، فلجوء الطفل إلى الكذب إما لأن يظفر بمرغوب، وإما أن ينجو من مرهوب بوسيلة كانت في الماضي القريب براءة أطفال ودليل موهبة، حولناها -نحن الناضجين- إلى سلوك خاطئ عندما تركنا أطفالنا يندمجون في خيالات ناعسة وناعمة بمفردهم من دون مشاركة أو تنمية أو تنبيه، إذ أدى الخيال بهم إلى تقمص دور أبطال الخيال في الأفلام أو البرامج. فما علينا إلا أن نلازم أطفالنا في مشاعرهم وأحاسيسهم. وإن الخيال هو إحدى ثمار مرحلة الطفولة كما أحلام اليقظة في مرحلة الشباب، والتعامل معهم بالمشاركة والإعجاب والثناء بجانب جعل أنفسنا -نحن الكبار- قدوة لهم ومثالًا في الصدق بالوعود والالتزام بالكلام معهم، وذلك بأن نعودهم على التخلق بالقيم الدينية والحياتية. وأن نلجأ إلى المتخصصين عندما يجنح الخيال ويتحول من تخلق إلى اختلاق قد يؤدي إلى أضرار جسدية ونفسية.
صبحة بغورة
- التصنيف: