بحور الآثام وتزيين الشيطان!

منذ 2014-05-14

في ذات يوم وأنا أغوص غوصًا عميقًا في بحري الشهي -الذي أنساني أني كائن بري فأصبحت لا أغادره ليلَ نهار-، فإذا بي برجلٍ للتو خرج من بحرٍ ذي ملحٍ أُجاج، ولونُ سوادِه كالقار الخام، رائحته كريهة، فعجبت من أمره عجبًا! ما الذي رمى هذا الرجل على تحمل كل هذه الغصة؟!

يا لها من أنهارٍ عذبة، أسبحُ في مائِها الفرات، كالعسلِ في مذاقهِ، ممتعة السباحة فيه والاغتمار به. كان هذا حالي ليل نهار وما أحلاه وما أطلاه من حال. كان الزمان يعبر عليَّ أو أعبر عليه بسرعةٍ أستبق فيها الأحداث أو تستبقه.

وفي ذات يوم وأنا أغوص غوصًا عميقًا -في بحري الشهي الذي أنساني أني كائن بري فأصبحت لا أغادره ليلَ نهار-، فإذا بي برجلٍ للتو خرج من بحرٍ ذي ملحٍ أُجاج، ولونُ سوادِه كالقار الخام، رائحته كريهة، فعجبت من أمره عجبًا! ما الذي رمى هذا الرجل على تحمل كل هذه الغصة؟!

عرض عليَّ الرجل كوبًا من مسبحه المقيت لأشرب منه! تعجبت لذلك كثيرًا وحسمت أمري ألا أتناوله، إلا أنه أقسم عليَّ أن أتذوقه فقط بطرف لساني فإن لم يعجبني تركته، ولكن اشترط عليَّ شرطًا قبل شرابي! أن أستعيذ بالله من وساوس نفسي والشيطان، ففعلت لأتخلص من إلحاحه ولكني قلتها بإخلاص شديد وخشوع، لا أعرف لماذا وكيف تنسجم حالتي هذه من إخلاص وخشوع مع سأمي من إلحاح الرجل. ذقت طعمه بطرف لساني.. ما هذا؟! يا لها من مفاجأةٍ يُجَنُ منها العاقل!

أحسست إحساسًا غريبًا! قشعريرةً كأنما أُبَدِلَ نفسي وروحي وأحاسيسي. وجدت نفسي أرتشف المزيد من هذا السائل الذي بدا لي قبل شرابه قارًا فإذا به الآن يتحوَّل إلى عسلٍ لم أذق في حلاوته ما يضاهيه!

وما أن حدث هذا وجدت المسبح الذي كنت أسبح وأغوص فيه، وجدته سائلًا أسودًا آسنًا عفِنًا ووجدتنى مُجردًا من الملابس تمامًا. ووجدت الرجلَ ملابسه جافة بالرغم من أنه يسبح هو الآخر في مسبحٍ كمسبحي! ووجدت عبق مسكٍ فوّاح يأتيني من مسبحه.

فما إن وجدت هذا أدركت أنه ما من تغيير طرأ على الماء نفسِهِ، ولكن التغيير طرأ على إدراك حواسي له فقد كنت مغرورًا في حقيقته، والآن أراه كما هو دون تزيين نفسٍ ولا إغواء شيطان. فالآن أرى مسبحي آسنًا وأراني مكشوف العورة فيه، بينما أرى المسبح الآخر جميل العِطرِ ويسبح السابح به مستورةٌ عورته!

فأدركت أن ما أنا فيه هو بحر الآثام العفن وتذكرت قول ربي سبحانه: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأعراف:26].

وربطت ذلك بعُرييِّ لخلو أفعالي من التقوى، فما ترددت أن أقفز من بحر الآثام الآسن إلى مياه التقوى العطرة، فتبدَّل انكشاف عورتي بسِتر جميل بهي زكي.. وتذكرت حينئذ انطباق قول ربي عليَّ في السابق قبل توبتي وانتقالي من الآثام للذلِ والانكسار والطاعةِ لله..

قال الله تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [فاطر:8].

فقد كنت أرى سوء عملي حسنًا والآن أراه سيئًا عَفِنًا.. وتعجبت من نفسي أن كنت ميتًا وسط هذا الوسط القَذِر.. إنه إغواء النفس وتزيين الشيطان.

والله أعلم.

 
 
 
المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام

أحمد كمال قاسم

كاتب إسلامي