الرجولة مفهومها ووسائل تحصيلها

منذ 2014-05-20

لقد فكرت في هذا الموضوع طويلاً، ونظرتُ في أحوال مهاجرينا من الرجال، صغاراً وكباراً، شباباً وشيباً، فوجدتُ أن التربية على الرجولة ومعالي الأمور ومكارم الأخلاق قد ضعُفت، وترتّب على ذلك غياب كثير من مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم وعلو الهمم، وظهر بل تكاثر أضرارها، وأورث كثيرٌ من الآباء كثيراً من خوارم الرجولة ونواقضها لأبنائهم وربوهم عليها.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد عليه الصلاة وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

أسباب اختيار الموضوع:

لقد فكرت في هذا الموضوع طويلاً، ونظرتُ في أحوال مهاجرينا من الرجال، صغاراً وكباراً، شباباً وشيباً، فوجدتُ أن التربية على الرجولة ومعالي الأمور ومكارم الأخلاق قد ضعُفت، وترتّب على ذلك غياب كثير من مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم وعلو الهمم، وظهر بل تكاثر أضرارها، وأورث كثيرٌ من الآباء كثيراً من خوارم الرجولة ونواقضها لأبنائهم وربوهم عليها.

فأردت أن أذكر شيئاً منها، وأحذر مما فشا من أضرارها، والذكرى تنفع المؤمنين.

تعريف الرجولة:

الرجولة وصف زائد على مجرد الذكورة، ففي أصل العربية: "الرجل مختص بالذكر من الناس" (المفردات في غريب القرآن: (1/ 189)) ولكن هذا التعريف ليس فيه تشريفٌ للرجال إلا بمقدار ما فضلهم الله على النساء، كما في قوله تعالى: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة:228]، وقوله تعالى: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} [آل عمران:36]

فجنس الرجال أفضل عموماً من جنس النساء، ولكني لا أريد هذا المعنى وإنما أريد وصفاً زائداً على ذلك يتفاضل فيه الرجال على بعضهم البعض، ومن هنا يمكن القول بأن الرجولة المقصودة هنا هي: صفات، وأخلاق، وشيم حميدة، يمدح الشخص على قدر اتصافه بها، ويزيد قدره كلما ازداد منها؛ ولذلك نسمع كثيراً من يقول عن شخص: "هذا رجل"، فلو كان يعني أنه عكس المرأة لما كان للكلام فائدة إذ الجميع يعرف أنه عكس المرأة بسماته الخَلْقية المعروفة، لكن المتحدث لا يعني ذلك، وإنما يعني أنه رجل فيه صفات يتميز بها عن كثير من أبناء جنسه، فالرجولة التي نعنيها هي الخُلُقية لا الخَلْقية.

وهذه المحاضرة تتحدث عن تلك الصفات التي يستحق من اتصف بها أن تميزه بأنه رجل والله الموفق.

الرجولة في القرآن:

لقد تكرر في القرآن ذكر الرجال وهو على ضربين: ضرب يقصد به عكس النساء، كما في قوله تعالى: {وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء:1].

وأما الضرب الآخر ففيه معنى زائداً على ذلك: إذ يذكر الرجال مقترنين بصفة شريفة أو عمل عظيم.

ومن ذلك:

1- رجولة دين ومجاهدة نفس وزهد في الدنيا:
 

مزايد نفس في تقى الله لم تدع *** له غاية في جدها واجتهادها

فما مالت الدنيا به حين أشرقت *** له في تناهي حسنها واحتشادها

لَسَجَّادةُ السجاد أحسن منظراً *** من التاج في أحجارها واتقادها


2- رجولة شجاعة وثبات وحفظ عهود وبيع للنفوس في سبيل خالقها ليكون مهرها الجنة:

فكل واحد منهم جدير بقول الشاعر:
 

رسا جبلاً في الدين فهو بنصره *** إذا ما تراخى الصادقون مكلف

ترى ملكاً في بردتيه وتارة *** ترى الليث من أعطافه الموت ينطف

إذا سار هز الأرض بأساً وقلبه *** إذا قام في المحراب بالذكر يرجف

يلوح التقى في وجهه فكأنه *** سنا قمر أو بارق يتكشف


3- أما هؤلاء فقد جمعوا جميع أصناف الرجولة:

الصدق والأمانة والشجاعة والصبر والنصح والرحمة وكل ما يخطر على البال من جميع الخصال: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} [الأحزاب:39].

وحسبك قول الله تعالى في خاتمهم وسيدهم محمد صلى الله عليه وسلم: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]، وهذا يشمل جميع خصال الرجولة، وقد قال الشاعر فيه:
 

خلقت مبرأً من كل عيب *** كأنك قد خلقت كما تشاء


قوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ . رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور:36-37].

وقوله: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب:23].

وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل:43].

ولفظ رجل جاء في عدة مواضع مقروناً بصفات عظيمة كقوله تعالى: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} [يس:20].

وقوله جلّ ذكره: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} [غافر:28]، ولو ذهبت أتتبع ما في القرآن من هذا النوع لطال المقام.

الرجولة في الحديث:

لم أجد في الحديث حسب استحضاري المحدود ذكراً للفظ الرجل مراداً به صفات خاصة، وإنما هناك حديث يفيد اتصاف كثير من الرجال بالكمال، وذلك فيما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: قال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «كَمَلَ من الرِّجَالِ كَثِيرٌ ولم يَكْمُلْ من النِّسَاءِ إلا مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ وَفَضْلُ عَائِشَةَ على النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ على سَائِرِ الطَّعَامِ» (متفق عليه، رواه البخاري برقم: (5202)، ومسلم برقم: (2431). 

فالكمال لدى الرجال ممكن، وبالفعل كمل كثير منهم مابين نبي وصديق وصالح، ومادام الشيء ممكناً فإن صاحب النفس الأبية والهمة العليَّة سوف يبذل قصارى جهده للوصول إليه؛ وبمقدار ما يحقق كل واحد من خصال الكمال تتفاوت مقادير الرجال، وقد اعتبر المتنبي من العيب التقصير في ذلك مع إمكانه فقال:
 

ولم أر في عيوب الناس شيئاً *** كنقص القادرين على التمام


الرجولة عند العلماء والحكماء:

لقد تحدث العلماء والحكماء والمربون عن الرجولة ومرادفاتها مثل المروءة والفتوة ونحو ذلك، وأكتفي بكلمة جامعة لعالِمَين حكيمَين من سلفنا الصالح هما: سفيان بن عيينة وحماد بن زيد حيث قالا: "لا تتم الرئاسة للرجال إلا بأربع: علم جامع، وورع تام، وحلم كامل، وحسن التدبير، فإن لم تكن هذه الأربع فمائدة منصوبة، وكف مبسوطة، وبذل مبذول، وحسن المعاشرة مع الناس، فإن لم يكن هذه الأربع فبضرب السيف، وطعن الرمح، وشجاعة القلب، وتدبير العساكر، فإن لم يكن فيه من هذه الخصال شيء فلا ينبغي له أن يطلب الرئاسة" (رواه البيهقي شعب الإيمان: (6/ 67) برقم: (7539).
حدّد هذا الأثر ميادين الرجولة وهي ثلاثة:

رجولة من أجل الدين وما يرفع الإنسان في الآخرة، ورجولة الكرم والجود ونفع الناس في الدنيا، ورجولة الشجاعة والإقدام وحفظ ذمار الأمة.

أما في الميدان الأول فهناك أربع خصال يكمل بها الرجل ويرأس:

1- العلم الجامع.

2- الورع التام.

3- الحلم الكامل.

4- وحسن التدبير.

1- أما العلم الجامع: فقد أفردنا الكلام عليه مراراً وتكراراً لأهميته وخطورة التفريط في تحصيله.

2- وأما الورع فهو: ترك ما يريبك، ونفي ما يعيبك، والأخذ بالأوثق، وحمل النفس على الاتقاء.

3- وأما الحلم الكامل فهو:

ضبط النفس عند هيجان الغضب، أو ترك الانتقام عند شدة الغضب مع القدرة على ذلك، وانظر لهذا الحلم فقد قيل للأحنف بن قيس: "ممنِ تعلَّمت الحِلْم؟" قال: "من قيس بن عاصم المِنْقريّ -وكان صحابياً رضي الله عنه- رأيتهُ قاعداً بفِناء داره مُحْتبياً بحمائل سَيْفه يُحَدِّث قَومه؟ حتى أُتي برجُلٍ مكتوف ورجُل مقتول، فقيل له: "هذا ابن أخيك قَتل ابنك؟" فواللّه ما حَلَّ حَبْوته، ولا قطَع كلامه، ثم التفت إلى ابن أخيه فقال له: "يا ابن أخي، أَثِمت برّبك، ورَمَيت نفسَك بسَهْمك، وقتلتَ ابن عمك". ثم قال لابنٍ له آخر: "قم يا بني فوارِ أخاك، وحُلّ كِتاف ابن عمك، وسُق إلى أُمِّه مائة ناقة ديةَ ابنها فإنها غَريبة"، ثم أنشأ يقول:
 

إِنِّي امرؤ لا شائنٌ حَسَبي *** دَنَس يهجنه ولا أفْنُ

من مِنْقرٍ في بيت مكْرُمة *** والغُصن يَنْبُت حولَه الغُصْن

خطباء حي يقول قائلُهم *** بيضُ الوُجوه أعفّه لُسْن

لا يفطنون لعَيْب جارهمُ *** وهمُ لحفْظ جِواره فُطْنُ"


العقد الفريد لابن عبد ربه: (2\163)

4- وأما حسن التدبير فهو: الإدارة الناجحة للأمور، ويقصد به هنا الاتّباع، ورعاية الأحوال والقيام بالمسئوليات على أحسن وجه.

الميدان الثاني ميدان الكرم والجود ونفع الناس وهذا يتم حسب ما ورد في الأثر بـ:

1- مائدة منصوبة.

2- وكف مبسوطة.

3- وبذل مبذول.

4- وحسن المعاشرة للناس.

1- أما المائدة المنصوبة فهي رمز الكرم وإطعام الضيفان.

2- وأما الكف المبسوطة فهي رمز الجود والعطاء.

3- وأما البذل المبذول فهو وجود المال ثم بذله في وجوه الخير.

وأكمل الخلق في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو يعطي عطاء من لا يخشى الفقر(كما أخرج مسلم في صحيحه: (2312) من حديث أنس رضي الله عنه)، والعرب عموماً أهل كرم وجود، وإنما اشتهر من اشتهر منهم بذلك لمبالغته في الكرم والجود.

ومن أشهرهم في الجاهلية حاتم الطائي، وفي الإسلام كثير جداً من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وقد اشتهر معن بن زائدة وأثنى عليه بذلك الثناء العاطر.

ومن أشهر ما قيل فيه:
 

يقولون معن لا زكاة لماله *** وكيف يزكي المال من هو باذله

إذا حال حول لم تجد في دياره *** من المال إلا ذكره وجمائله

تراه إذا ما جئته متهللاً *** كأنك تعطيه الذي أنت نائله

تعوَّد بسط الكف حتى لو أنه *** أراد انقباضاً لم تطعه أنامله

فلو لم يكن في كفّه غير نفسه *** لجاد بها فليتق الله سائله


ولأهل حضرموت مشاركة جيدة في تلك الخصال، فهذا المقنع الكندي -وهو من دوعن- يفتخر بجوده وكرمه ويرد على من يلومه في ذلك يقول:
 

يُعاتِبُني في الدينِ قَومي *** وَإِنَّما دُيونيَ في أَشياءَ تُكسِبُهُم حَمدا

أَلَم يَرَ قَومي كَيفَ أوسِر مَرَّة *** وَأُعسِرُ حَتّى تَبلُغَ العُسرَةُ الجَهدا

فَما زادَني الإِقتارُ مِنهُم تَقَرُّباً *** ولا زادني فضل الغنى منهُمُ بعدا

أسدُّ به ما قد أخلوا وضيعوا *** ثُغورَ حُقوقٍ ما أَطاقوا لَها سَدّا

 

وَفي جَفنَةٍ ما يُغلَق البابُ دونها *** مُكلَّلةٍ لَحماً مُدَفِّقةٍ ثَردا

وَفي فَرَسٍ نَهدٍ عَتيقٍ جَعَلتُهُ *** حِجاباً لِبَيتي ثُمَّ أَخدَمتُه عَبدا

وَإِن الَّذي بَيني وَبَين بَني أَبي *** وَبَينَ بَني عَمّي لَمُختَلِفٌ جِدّا

أَراهُم إِلى نَصري بِطاءً وَإِن هُمُ *** دَعَوني إِلى نَصرٍ أَتيتُهُم شَدّا

 

فَإِن أكلوا لَحمي وَفَرتُ لحومَهُم *** وَإِن هدموا مَجدي بنيتُ لَهُم مَجدا

وَإِن ضَيَّعوا غيبي حَفظتُ غيوبَهُم *** وَإِن هُم هَوَوا غَييِّ هَوَيتُ لَهُم رُشدا

وَإِن زَجَروا طَيراً بِنَحسٍ تَمرُّ بي *** زَجَرتُ لَهُم طَيراً تَمُرُّ بِهِم سَعدا

وَإِن هَبطوا غوراً لِأَمرٍ يسوؤني *** طَلَعتُ لَهُم ما يَسُرُّهُمُ نَجدا

 

فَإِن قَدحوا لي نارَ زندٍ يَشينُني *** قَدَحتُ لَهُم في نار مكرُمةٍ زَندا

وَإِن قَطَعوا مِنّي الأَواصِر ضَلَّةً *** وَصَلتُ لَهُم مُنى المَحَبَّةِ وَالوُدّا

وَلا أَحمِلُ الحِقدَ القَديمَ عَلَيهِم *** وَلَيسَ رئيسُ القَومِ مَن يَحمِلُ الحِقدا

فَذلِكَ دَأبي في الحَياةِ وَدَأبُهُم *** سَجيسَ اللَيالي أَو يُزيرونَني اللَحدا

 

لَهُم جُلُّ مالي إِن تَتابَعَ لي غنى *** وَإِن قَلَّ مالي لَم أُكَلِّفهُم رِفدا

وَإِنّي لَعَبدُ الضَيفِ ما دامَ نازِلاً *** وَما شيمَةٌ لي غَيرُها تُشبهُ العَبدا

عَلى أَنَّ قَومي ما تَرى عَين ناظِرٍ *** كَشَيبِهِم شَيباً وَلا مُردهم مُردا

بِفَضلٍ وَأَحلام وجودٍ وَسُؤدُد *** وَقَومي رَبيع في الزَمانِ إِذا شَدّا


وفي الوقت الذي يفتخر بالكرم والجود والسماحة وحفظ الحقوق تراه يذم البخل ويحرض على تركه فيقول:
 

إِنّي أُحَرِّض أَهلَ البُخلِ كُلِّهُم لَو *** كانَ يَنفَعُ أَهلَ البُخلِ تَحريضي

ما قَلَّ ماليَ إِلّا زادَني كَرَماً *** حَتّى يَكونَ برزقِ اللَهِ تَعويضي

وَالمالُ يَرفَعُ مَن لَولا دَراهِمُهُ *** أَمسى يُقَلِّب فينا طرفَ مَخفوضِ

لَن تُخرِج البيضُ عَفواً مِن أكُفِّهُم *** إِلا عَلى وَجَعٍ مِنهُم وَتَمريضِ

كَأَنَّها مِن جُلودِ الباخِلينَ بِها *** عِندَ النَوائِبِ تُحذى بِالمَقاريض


ديوان الحماسة: (2/37)

وهناك خصلة أرفع من الكرم وهي الإيثار إذ غالباً يكون الكرم مع الغنى، وأما الإيثار فهو مع العدم والقلة، وهذه الخصلة هي التي مدح الله بها الأنصار في قوله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9].

وللرسول صلى الله عليه وسلم من ذلك الشيء الكثير، منها قصة رواها البخاري في صحيحه تعد عَلَماً من أعلام نبوة النبي صلى الله عليه وسلم ومعجزة من معجزات أخلاقه؛ تصديقاً لقول الله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]، لا يكاد المرء يتصور وجودها، ولولا أنها صحيحة في البخاري لشك الواقف عليها في صحة سندها.

فعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إلى رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِبُرْدَةٍ قال: "وما الْبُرْدَةُ؟" قال: "الشَّمْلَةُ"، قالت: "يا رَسُولَ اللَّهِ! إني نَسَجْتُ هذه بِيَدِي لِأَكْسُوَكَهَا" فَأَخَذَهَا رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُحْتَاجًا إِلَيْهَا، فَخَرَجَ عَلَيْنَا فيها وَإِنَّهَا لَإِزَارُهُ، فَجَاءَ فُلَانُ بن فُلَانٍ رَجُلٌ سَمَّاهُ يَوْمَئِذٍ فقال: "يا رَسُولَ اللَّهِ! ما أَحْسَنَ هذه الْبُرْدَةَ اكْسُنِيهَا" قال: «نعم»، فلما دخل طَوَاهَا وَأَرْسَلَ بها إليه فقال له الْقَوْمُ: "والله ما أَحْسَنْتَ كُسِيَهَا النبي صلى الله عليه وسلم مُحْتَاجًا إِلَيْهَا ثُمَّ سَأَلْتَهُ إِيَّاهَا، وقد عَلِمْتَ أَنَّهُ لَا يَرُدُّ سَائِلًا"، فقال: "إني والله ما سَأَلْتُهُ إِيَّاهَا لِأَلْبَسَهَا وَلَكِنْ سَأَلْتُهُ إِيَّاهَا لِتَكُونَ كَفَنِي" فقال سَهْلٌ: "فَكَانَتْ كَفَنَهُ يوم مَاتَ" (صحيح البخاري: (1277، 2093، 5810))

وأما الميدان الثالث فهو ميدان الشجاعة، هذا الميدان الذي تتفاخر به الأمة على مر العصور، وتضرب الأمثال بالشجاعة في كثير من المناسبات، وللعرب والمسلمين من ذلك أوفر نصيب وأكثر حصة.

كانت في العرب جبلة وفطرة وتربية وسجية، فلما جاء الإسلام حافظ على ما عند العرب منها ثم زادها رسوخاً وشموخاً إذ جعلها ديناً؛ فهي الطريق الموصل إلى الشهادة والجنة ورضوان رب العالمين، وما أكثر ما يتفاخر العرب ويتمادحون بالشجاعة، فمن افتخارهم بالشجاعة قول السموأل:
 

وَإِنّا لَقَومٌ لا نَرى القَتلَ سُبَّةً *** إِذا ما رَأَتهُ عامِرٌ وَسَلولُ

يُقَرِّبُ حُبُّ المَوتِ آجالَنا لنا *** وَتَكرَهُهُ آجالُهُم فَتَطولُ

وَما ماتَ مِنّا سَيِّدٌ حَتفَ أَنفِهِ *** وَلا طُلَّ مِنّا حَيثُ كانَ قَتيلُ

تَسيلُ عَلى حَدِّ الظُباتِ نُفوسُنا *** وَلَيسَت عَلى غَيرِ الظُباتِ تَسيلُ


ويقول عنترة العبسي:
 

لعمرُك إن المجد والفخر والعلا *** ونيلَ الأماني وارتفاعَ المراتبِ

لمن يلتقي أبطالها وسراتها *** بقلب صبور عند وقع المضارب

ويبني بحدّ السيف مجداً مشيّداً *** على فلك العلياء فوق الكواكب

 

ومَن لم يروّ رُمحهُ من دم العِدا *** إذا اشتبكت سمرُ القنا بالقواضب

ويُعطي القنا الخطيّ في الحرب حقه *** ويبري بحد السيف عرض المناكب

يعيش كما عاش الذليل بغُصّة *** وإن مات لا يجري دموع النوادب

 

فضائلُ عزم لا تباعُ لضارع *** وأسرار عزمٍ لا تذاع لعائب

برزتُ بها دهراً على كل حادث *** ولا كحل إلا من غُبار الكتائب

إذا كذب البرق اللموعُ لشائم *** فبرقُ حُسامي صادق غير كاذبُ


وهكذا فإن الرجولة مرتبطة لدى العرب بالشجاعة، فلا مجد ولا رجولة مع الجبن والوهن والخور، ومع ذلك فليست الشجاعة هي التهور والإقدام على غير بصيرة؛ بل لابد لها من ضوابط، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس الشديد بالصرعة، ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب» (أخرجه البخاري: (6114)، ومسلم: (2609) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً).

ويقول المتنبي:
 

الرأي قبل شجاعة الشجعان *** هو أول وهي المحل الثاني

 

لكن بدون أن يتغلب الجبن فيخدع النفس ويريها أنه هو العقل والحكمة:

 

يرى الجبناء أن العجز حزم *** وتلك خديعة الطبع اللئيم



وسائل تحصيل الرجولة:

بعد أن عرفنا ما هي الرجولة؟ وما هي أهم خصالها؟ يتبقى أن نعرف كيف نتوصل إلى الرجولة؟

وذلك بأمور:

الأمر الأول: حسن التربية

فيجب أن يُربّى الأبناء على الرجولة من صغرهم، وذلك بدلالتهم على خصال الخير وتدريبهم على فعلها من الكرم والجود والورع وترك الحرام، وتعلم وسائل القوة والخشونة. فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يربي الحسن على الورع والبعد عن أخذ ما لا يحل وهو لا يزال يحبو غير مميز (أخرج البخاري: (1491، 3072) ومسلم: (1069) من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ رضي الله عنهما أَخَذَ تَمْرَةً مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ فَجَعَلَهَا فِي فِيهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم  بِالْفَارِسِيَّةِ: «كِخْ كِخْ أَمَا تَعْرِفُ أَنَّا لَا نَأْكُلُ الصَّدَقَةَ»)، ويعلم عمر بن أبي سلمة أدب الأكل (أخرج البخاري: (5376، 5378) ومسلم: (2022) من حديث عُمَرَ بْنَ أَبِي سَلَمَةَ يَقُولُ: كُنْتُ غُلَامًا فِي حجْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانَتْ يَدِي تَطِيشُ فِي الصَّحْفَةِ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يَا غُلَامُ سَمِّ اللَّهَ، وَكُلْ بِيَمِينِكَ، وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ»، فَمَا زَالَتْ تِلْكَ طِعْمَتِي بَعْدُ)، ويكني أخا أنس الصغير بأبي عمير (أخرج البخاري: (6129، 6203)، ومسلم: (2150) من حديث أَنَس بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه يَقُولُ: إِنْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَيُخَالِطُنَا حَتَّى يَقُولَ لِأَخٍ لِي صَغِيرٍ: «يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ») ليشعره بالقدر والقيمة.

وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوصي الآباء بتربية أبنائهم على خصال القوة فيقول: "عَلِّمُوا غِلْمَانَكُمْ الْعَوْمَ وَمُقَاتِلَتَكُمْ الرَّمْيَ.." (أخرجه أحمد: (323) وابن الجارود في المنتقى: (964) وغيرهما من حديث أبي أمامة بن سهل بن حنيف قال: كتب عمر بن الخطاب إلى أبي عبيدة بن الجراح: "أَنْ عَلِّمُوا غِلْمَانَكُمْ الْعَوْمَ، وَمُقَاتِلَتَكُمْ الرَّمْيَ، فَكَانُوا يَخْتَلِفُونَ إِلَى الْأَغْرَاضِ.. "، وسنده حسن. وأخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب العيال (398) من وجه آخر بسند فيه ضعف عن قلابة بلفظ: قال عمر رضي الله عنه: "علموا أولادكم العوم، والرماية، ونعم لهو المرأة المغزل". وأخرجه القراب في (فضائل الرمي) كما ذكر صاحب كنز العمال: (11386) عن مكحول أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى أهل الشام: "أن علموا أولادكم السباحة، والرمي، والفروسية". ولم نقف على سنده إلا أن مكحولاً لم يدرك عمر رضي الله عنه).

الأمر الثاني: القدوة الصالحة

فيجب أن يُربط الأطفال بقدوات معظمة في نفوسهم، محببة إلى قلوبهم، تكون هذه القدوات على المستوى من الرجولة والأخلاق الفاضلة والخصال الحميدة، مع إبراز تلك الصفات وحثّ الأطفال على التخلق والتحلي بها.

قال الله تعالى آمراً بالتأسي بالصالحين: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21].

وقال عز وجل عن إبراهيم وأصحابه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [الممتحنة:6].

وقال سبحانه: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف:111].

وقال صلى الله عليه وسلم: «اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ من بَعْدِي أبي بَكْرٍ وَعُمَرَ» (أخرجه الترمذي: (5/ 609) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً. وهو ثابت من حديث حذيفة بن اليمان، وأنس بن مالك، وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم جميعاً، وصححه الألباني في صحيحه: (1223)

وقال الشاعر:
 

فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم *** إن التشبه بالكرام فلاح


فينبغي الاطّلاع على سير الصالحين وقصص الأبطال والعظماء، ورواية الأدب والشعر الذي يأخذ بمجامع النفوس فيرفعها إلى المجد والسؤدد، روى ثعلب في أماليه عن ثابت بن عبد الرحمن قال: كتب معاوية بن أبي سفيان إلى زياد: "إذا جاءك كتابي فأوفد إليّ ابنك عبيد الله"، فأوفده عليه فما سأله عن شيء إلا أنفذه، حتى سأله عن الشعر فلم يعرف منه شيئاً، قال: "ما منعك من روايته؟" قال: "كرهت أن أجمع كلام الله وكلام الشيطان في صدري"، قال: "اغرب، والله لقد وضعت رجلي في الركاب يوم صفين مراراً، ما يمنعني من الانهزام إلا أبيات ابن الإطنابة حيث يقول:
 

أبت لي عفتي وأبى بلائي *** وأخذي الحمد بالثمن الربيح

وإعطائي على الإعدام مالي *** وإقدامي على البطل المشيح

وقولي كلما جشأت وجاشت *** مكانك تعذري أو تستريحي

لأدفع عن مآثر صالحات وأحمى *** بعد عن أنف صحيح"


وكتب إلى أبيه، أن روِّه الشعر، فروّاه فما كان يسقط عليه منه شيء (مجالس ثعلب: (ص17)، والمزهر في علوم اللغة والأدب: (2/ 266).

الأمر الثالث: تربية النفس على ما يجلب خصال الرجولة

وأول خصلة: علوّ الهمّة، وعلوّ الهمّة هو: استصغار ما دون النهاية من معالي الأمور، يعني أن صاحب هذه الصفة يتطلع إلى معالي الأمور ولا يرضى بما دونها، على حد قول المتنبي:
 

إذا غامرت في شرف مروم *** فلا تطمع بما دون النجوم

فطعم الموت في أمر حقير *** كطعم الموت في أمر عظيم


وقول أبي فراس:
 

وإنا أناس لا توسط بيننا *** لنا الصدر دون العالمين أو القبر


وقد حث القرآن الكريم على علو الهمة وطلب معالي الأمور في مثل قوله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:133]، وقوله جل جلاله: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [المائدة:48]، وقوله سبحانه: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26].

وكذلك حثت السنّة على معالي الأمور، فقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله كريم يحب الكرم، ويحب معالي الأخلاق، ويكره سفسافها» (رواه الطبراني في الكبير: (5928) وغيره من حديث سهل بن سعد - رضي الله عنه -، وصححه الألباني في صحيح الجامع: (2682)) ، وقال صلى الله عليه وسلم: «فإذا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ، فإنه أَوْسَطُ الْجَنَّةِ، وَأَعْلَى الْجَنَّةِ أُرَاهُ فَوْقَهُ عَرْشُ الرحمن، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ» (رواه البخاري: (2790، 7423) من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ مرفوعاً).

وهكذا نجد جميع أدلة الشرع كتاباً وسنّة تحث على علوّ الهمّة، وترغِّب في السعي للدرجات العالية، وأما الشعراء فقد أكثروا من الحث على علو الهمة، وبيان فوائده، والافتخار به، فقال أحدهم:
 

فكن رجلاً رجله في الثرى *** وهامة همته في الثريا


وقال الآخر يردّ على من يعاتبه في جَدِّه وإقباله على طلب العلم وترك الراحة واعتزال ما عليه أقرانه:
 

بِالْجِدِّ يُمْكِنُنِي تَحْقِيقَ أَحْلامِي *** فَاتْرُكْ مُعَاتَبَتِي بِاللَّهِ يَا سَامِي

إِنِّي لأَصْرِفُ أَوْقَاتِي وَأُنْفِقُهَا *** فِيمَا يُؤَهِّلُنِي لِلْمَوْقِفِ السَّامِي

يَجْتَازُ بِي الدَّهْرُ لا أَبْغِي تَصَرُّمَهُ *** حَتَّى أَوَدَّ لَوَ أنَّ الْيَوْمَ كَالْعَامِ

 

إِنِّي أَرَى الْعُمرَ مَهْرَ الْمَجْدِ أَطْلُبُهُ *** لِذَا حَرَصْتُ عَلَى تَقْيِيمِ أَيَّامِي

لا أَصْرِفُ الْوَقْتَ فِي لَهْوٍ وَفِي لَعِبٍ *** فَقَدْ نَهَانِي عَنِ التَّبْذِيرِ إِسْلامِي

وَلا أَرَى فِي لُزُومِ الْجِدِّ مِنْ تَعَبٍ *** بَلْ رَاحَةُ النَّفْسِ فِي جِدِّي وَإِقْدَامِي

 

فَكَمْ سَهِرْتُ عَلَى إِدْرَاكِ مَكْرُمَةٍ *** فَمَا تَسَبَّبَ تَسْهِيدِي بِإِيلامِي

بَلْ لَوْ تَفَطَّرَتِ الأَعْضَاءُ مِنْ تَعَبٍ *** جَاءَ النَّجَاحُ يُدَاوِي جُرْحَهَا الدَّامِي

مَا أَعْذَبَ الْقَصْدَ بَعْدَ الْجَهْدِ تُدْرِكُهُ *** يُنْسِيكَ مَا كَانَ مِنْ جَهْدٍ وَآلامِ

هَذَا شُعُورِي شُعُورُ الطَّامِحِينَ فَهَلْ *** يَسْرِي الطُّمُوحُ إِلَى أَبْنَاءِ أَعْمَامِي


(هذه قصيدة قلتها عندما كنت أدرس في الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام).

وعلى عكس ذلك فأنهم يذمون القاعدين القانعين بالعيش الدنيء، واللهو والدعة وقلة الفائدة وخسة النفس، يقول قائلهم:
 

إذا ما قطعتم ليلكم بمرامكم *** وأفنيتم أيامكم بمنام

فمن ذا الذي يرجوكم في ملمة *** ومن ذا الذي يغشاكم بسلام

رضيتم من الدنيا بأيسر *** بلغة بشرب مدام أو بلثم غلام

 

ولم تعلموا أن اللسان موكل *** بمدح كرام أو بذم لئام

ولكن رأس الشر تلبيس قادة *** يغرونكم زوراً بيع ذمام

تحمل التعب والمشاق شرطٌ *** لعلو الهمة الموصلة للرجولة


كل ما تقدّم نكاد نتفق عليه، فما أحد يعارض في شيء من ذلك، ولكن عند التطبيق تظهر الحقيقة، فإن شرف النفوس وعلوّ الهمم والمنافسة في المعالي لا يقدر عليها إلا من وطَّن نفسه على تحمل المشاق والمتاعب وترك الشهوات وتفويت الكثير مما تحب النفوس:
 

وإذا كانت النفوس كباراً *** تعبت في مرادها الأجسام


ويقول المتنبي:
 

لا تحسب المجد تمراً أنت آكله *** لن تبلغ المجد حتى تلعق الصَبِرا


ويقول غيره:
 

فقل لمرجِّي معالي الأمور *** بغير اجتهاد رجوت المحالَ


ويقول آخر:
 

الذل في دعة النفوس ولا أرى *** عز المعيشة دون أن يشقى لها


ولولا أن السيادة والرجولة والمجد صعب لما بقي أحد دون أن يصل إليه، ولكن الذي يمنع من الوصول إليه المشقة التي لا تتحملها النفوس الضعيفة، يقول المتنبي:
 

لولا المشقة ساد الناس كلهم *** الجود يفقر والإقدام قتال


ويقول ابن القيم رحمة الله تعالى: "وقد أجمع عقلاء كل أمة على أن النعيم لا يُدرك بالنعيم، وأن من آثر الراحة فاتته الراحة، وأنّ بحسب ركوب الأهوال واحتمال المشاق تكون الفرحة واللذة، فلا فرحة لمن لا همّ له، ولا لذة لمن لا صبر له، ولا نعيم لمن لا شقاء له، ولا راحة لمن لا تعب له، بل إذا تعب العبد قليلاً استراح طويلاً، وإذا تحمّل مشقة الصبر ساعةً قادهُ لحياة الأبد، وكلّ ما فيه أهل النعيم المقيم فهو صبر ساعة، والله المستعان ولا قوة إلا بالله، وكلما كانت النفوس أشرف والهمة أعلى، كان تعب البدن أوفر وحظه من الراحة أقل" (مفتاح دار السعادة: 2/ 15).

وإنّ من أظهر ملامح الرجولة النّجدة والمسارعة في النصرة والإعانة، وهو أمر مطلوب في الشرع كما قال تعالى: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الأنفال:72]

وقال صلى الله عليه وسلم: «انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا»، فَقَالَ رَجُلٌ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْصُرُهُ إِذَا كَانَ مَظْلُومًا، أَفَرَأَيْتَ إِذَا كَانَ ظَالِمًا كَيْفَ أَنْصُرُهُ؟" قَالَ: «تَحْجُزُهُ -أَوْ تَمْنَعُهُ- مِنْ الظُّلْمِ فَإِنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ» (أخرجه البخاري: (6952) من حديث أَنَسٍ رضي الله عنه).

وفي حديث آخر: «لينصر الرجل أخاه ظالماً أو مظلوماً، فإن كان ظالماً لينهه فإنه نصره، وإن كان مظلوماً فلينصره» (أخرجه الدارمي: (2753) وغيره من حديث جابر رضي الله عنه مرفوعاً، وصححه الألباني في صحيح الجامع: (2381 )

والمقصود أن الرجل هو الذي يبادر بإجابة الدّاعي وإغاثة الملهوف وإعانة المحتاج والتصدي للأمور الجليلة، وقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم المثل في ذلك، روى أنس بن مالك أنه كان فَزَعٌ بِالْمَدِينَةِ، فَاسْتَعَارَ النبي صلى الله عليه وسلم فَرَسًا من أبي طَلْحَةَ يُقَالُ له الْمَنْدُوبُ، فَرَكِبَ فلما رَجَعَ قال: «ما رَأَيْنَا من شَيْءٍ وَإِنْ وَجَدْنَاهُ لَبَحْرًا» (أخرجه البخاري: (2627) ومسلم: (2307)

والعرب يتفاخرون بالنجدة وإدراك المستغيث، يقول طرفة بن العبد:
 

إذا القوم قالوا مَن فتى خلت *** أنني عنيت فلم أكسل ولم أتبلد


وقال الآخر:
 

إنيِّ لِمنْ مَعْشَرٍ أفْنَى أوائِلَهْم *** قَوْلُ الكُمَاةِ ألاَ أيْنَ المُحَامُونَا


أما هذا فقد تضجر بقومه الذين لا يدركون من استغاث بهم، ولا يحمون دماءهم وتمنى أن له بهم قوماً آخرين، فيقول:
 

لو كنتُ من مازن لم تستَبح إبلي *** بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا

إذاً لقام بنصري معشَرٌ خُشُن *** عند الحفيظة إن ذو لوثة لانا

قوم إذا الشرُّ أبدى ناجذيه لهم *** طاروا إليه زرافاتٍ ووحدانا

 

لا يسألون أخاهُم حين يندُبُهم *** في النائبات على ما قال برهانا

لكنّ قومي وإن كانوا ذوي عددٍ *** ليسوا من الشرِّ في شيءٍ وإن هانا

يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرةً *** ومن إساءة أهل السوء إحسانا

 

كأن ربك لم يخلُق لخشيتهِ *** سواهُم من جميع الناس إنسانا

فليت لي بهم قوماً إذا ركبوا *** شدّوا الإغارة فرسانا وركبانا


ويقول آخر:
 

ربّ وامعتصماه انطلقت *** ملء أفواه الصبايا اليتم

لامست أسماعهم لكنها *** لم تلامس نخوة المعتصم


وما أشبه هذه الأبيات بحالنا، فإن أكثر الأمة اليوم ومنها أهل بلادنا لا يفكرون إلا في أحوالهم، وما يهمهم من أمورهم الخاصة فقط، ويأخذون بمبدأ (ما حولي)، و(ما سيبي) (كلمتان من اللهجة الدارجة في حضرموت ومعناهما: "لا دخل لي بأحد، ولو حصل ما حصل"). 

وقد كان العرب دوماً يخافون من الذّمّ واللّوم الذي يلحقهم نتيجة التقصير ونحوه، ومما شاع في بلادنا قولهم: "يا لوماه" (كلمة باللهجة الدارجة الحضرمية، تقال إذا أراد أن يفعل الشخص فعلاً يلام عليه ويعاب) وهي ميزان عظيم للرجولة يلوذ به الرجل الشهم حين يساوم على أمر يورثه عاراً، وهذه الكلمة أصيلة أصالة العرب قبل الإسلام، فإن أحدهم يركب الصعاب، ويضحي بالحبيب والقريب من أجل أن لا يذم ويرخص عرضه، وهل قتلوا الموءودة إلا خوفاً من العار!

ولقد حافظ أبو سفيان على الصدق والاعتراف بكل الفضل للرسول صلى الله عليه وسلم وهو ألدّ أعدائه آنذاك من أجل أن لا يؤثر عنه الكذب (كما ثبت في الحديث الذي أخرجه البخاري: (7) ومسلم: (1773) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وفيه يقول أبو سفيان: "فَوَاللَّهِ لَوْلَا الْحَيَاءُ مِنْ أَنْ يَأْثِرُوا عَلَيَّ كَذِبًا لَكَذَبْتُ عَنْه")، وقرر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن اتقاء الشبهات يستبرأ للدين والعرض (كما في الحديث الذي أخرجه البخاري: (52) ومسلم: (1599) من حديث النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ رضي الله عنه يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «الْحَلَالُ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لَا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ، فَمَنْ اتَّقَى الْمُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ» الحديث)، ومن شدّة تحرزه من تخيل ما لا يليق به صلى الله عليه وسلم قال للأنصاريين حينما مرّا، وكان مع صفية عند باب المسجد: «على رِسْلِكُمَا إِنَّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ» (رواه البخاري: (2035) ومسلم: (2175) من حديث صَفِيَّةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم).

وفي صحيح مسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "قَسَمَ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَسْمًا فقلت: "والله يا رَسُولَ اللَّهِ لَغَيْرُ هَؤُلَاءِ كان أَحَقَّ بِهِ منهم". قال: «إِنَّهُمْ خَيَّرُونِي أَنْ يَسْأَلُونِي بِالْفُحْشِ أو يُبَخِّلُونِي فَلَسْتُ بِبَاخِلٍ» (مسلم:1056).

وما أعظم ما صور به الخطيئة حال العربي الذي يراد منه فعل مكرمة وهو غير قادر عليها، وكيف يفعل حتى ينفي عنه العار ويذبح ابنه لضيفه؛ قال:
 

وَطاوي ثَلاثٍ عاصِبِ البَطنِ مُرمِلٍ *** ببيداءَ لَم يَعرِف بِها ساكِنٌ رَسما

أَخي جَفوَةٍ فيهِ مِنَ الإِنسِ وَحشَةٌ *** يَرى البُؤسَ فيها مِن شَراسَتِهِ نُعمى

وَأَفرَدَ في شِعبٍ عَجُوزاً *** إِزاءها ثَلاثَةُ أَشباحٍ تَخالُهُمُ بَهما

 

حفاة عراة ما اغتذوا خبز ملة *** ولا عرفوا للبر مذ خلقوا طعما

رَأى شَبَحاً وَسطَ الظَلامِ فَراعَهُ *** فَلَمّا بَدا ضَيفاً تَشمَّرَ وَاهتَمّا


وقال:
 

هيا رباه ضيف ولا قرى بحقك *** لا تحرمه تاالليلة اللحما

وَقالَ اِبنُهُ لَمّا رَآهُ بِحَيرَةٍ أَيا أَبَتِ *** اِذبَحني وَيَسِّر لَهُ طُعما

وَلا تَعتَذِر بِالعُدمِ عَلَّ الَّذي *** طَرا يَظُنُّ لَنا مالاً فَيوسِعُنا ذَمّا

 

فَرَوّى قَليلاً ثُمَّ أَجحمَ بُرهَةً *** وَإِن هُوَ لَم يَذبَح فَتاهُ فَقَد هَمّا

فَبَينا هُما عَنَّت عَلى البُعدِ عانَةٌ قَد ** انتَظَمَت مِن خَلفِ مِسحَلِها نَظما

عِطاشاً تُريدُ الماءَ فَاِنسابَ نَحوَها *** عَلى أَنَّهُ مِنها إِلى دَمِها أَظما

 

فَأَمهَلَها حَتّى تَرَوَّت عِطاشُها *** فَأَرسَلَ فيها مِن كِنانَتِهِ سَهما

فَخَرَّت نَحوصٌ ذاتُ جَحشٍ سَمينَةٌ *** قَدِ اِكتَنَزَت لَحماً وَقَد طُبِّقَت شَحما

فَيا بِشرَهُ إِذ جَرَّها نَحوَ قَومِهِ *** وَيا بِشرَهُم لَمّا رَأَوا كَلمَها يَدمى

 

فَباتَوا كِراماً قَد قَضوا حَقَّ ضَيفِهِم *** فَلَم يَغرِموا غُرماً وَقَد غَنِموا غُنما

وَباتَ أَبوهُم مِن بَشاشَتِهِ أَباً *** لِضَيفِهِمُ وَالأُمُّ مِن بِشرِها أُمّا


ولله درّ أبي تمام في تصويره لرجولة المجاهد الكبير محمد بن حميد الطوسي، وكيف اختار الموت على أن يجلب إليه العار فقال:
 

فتىً دهره شطران فيما ينوبه *** ففي بأسه شطرٌ وفي جوده شطر

فَتىً ماتَ بَينَ الضَربِ وَالطَعنِ *** ميتَةً تَقومُ مَقامَ النَصرِ إِن فاتَهُ النَصرُ

وما مات حتى مات مضرب سيفه *** من الطعن واعتلت عليه القنا السمر

 

وَقَد كانَ فَوتُ المَوتِ سَهلاً فَرَدَّهُ *** إِلَيهِ الحِفاظُ المُرُّ وَالخُلُقُ الوَعرُ

وَنَفسٌ تَعافُ العارَ حَتّى كَأَنَّهُ *** هُوَ الكُفرُ يَومَ الرَوعِ أَو دونَهُ الكُفرُ

فَأَثبَتَ في مُستَنقَعِ المَوتِ رِجلَهُ *** وَقالَ لَها مِن تَحتِ أَخمُصِكِ الحَشرُ

 

غَدا غَدوَةً وَالحَمدُ نَسجُ رِدائِهِ *** فَلَم يَنصَرِف إِلّا وَأَكفانُهُ الأَجرُ

تَرَدّى ثِيابَ المَوتِ حُمراً فَما *** أَتى لَها اللَيلُ إِلّا وَهيَ مِن سُندُسٍ خضْرُ


وقال الشافعي رحمه الله لابنه أبي عثمان: "والله لو أعلم أن الماء البارد يثلم مروءتي ما شربت إلا حاراً" (آداب الشافعي ومناقبه لابن أبي حاتم الرازي: 72)

قال ابن المبارك قيل للأحنف: "بم سوّدوك؟" قال: "لو عاب الناس الماء لم أشربه" (سير أعلام النبلاء [4 / 91])

هذه الرجولة التي يجب أن نتحلّى بها ونربي عليها أبناءنا. أسأل الله تعالى لي ولكم التوفيق والسداد. والله تعالى أعلم.