قصة أبي قدامة الشامي والغلام (عرض ونقد)

منذ 2014-05-22

القصة:
كان بمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل يقال له أبو قدامة الشامي، وكان قد حبب الله إليه الجهاد في سبيل الله والغزو إلى بلاد الروم.

فجلس يومًا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحدث مع أصحابه، فقالوا له: يا أبا قدامة حدثنا بأعجب ما رأيت في الجهاد؟ فقال أبو قدامة: نعم إني دخلت في بعض السنين الرقة أطلب جملًا أشتريه ليحمل السلاح، فبينما أنا يومًا جالسًا إذ دخلت علي امرأة فقالت: يا أبا قدامة سمعتك وأنت تحدث عن الجهاد وتحث عليه وقد رُزقتُ من الشَّعر ما لم يُرزقه غيري من النساء، وقد قصصته وأصلحت منه شكالًا للفرس وعفرته بالتراب كي لا ينظر إليه أحد، وقد أحببت أن تأخذه معك فإذا صرتَ في بلاد الكفار وجالت الأبطال ورُميت النبال وجُردت السيوف وشُرعت الأسنّة، فإن احتجت إليه وإلا فادفعه إلى من يحتاج إليه ليحضر شعري ويصيبه الغبار في سبيل الله، فأنا امرأة أرملة كان لي زوج وعصبة كلهم قُتلوا في سبيل الله ولو كان عليّ جهاد لجاهدت.

وناولتني الشكال، وقالت: اعلم يا أبا قدامة أن زوجي لما قُتل خلف لي غلامًا من أحسن الشباب وقد تعلم القرآن والفروسية والرمي على القوس وهو قوام بالليل صوام بالنهار وله من العمر خمس عشرة سنة وهو غائب في ضيعة خلفها له أبوه فلعله يقدم قبل مسيرك فأوجهه معك هدية إلى الله عز وجل وأنا أسألك بحرمة الإسلام، لا تحرمني ما طلبت من الثواب.

 

فأخذت الشكال منها فإذا هو مظفور من شعرها، فقالت: ألقه في بعض رحالك وأنا أنظر إليه ليطمئن قلبي. فطرحته في رحلي وخرجتُ من الرقة ومعي أصحابي، فلما صرنا عند حصن مسلمة بن عبد الملك إذا بفارس يهتف من ورائي: يا أبا قدامة قف علي قليلًا يرحمك الله، فوقفت وقلت لأصحابي تقدموا أنتم حتى أنظر من هذا، وإذا أنا بفارس قد دنا مني وعانقني وقال: الحمد لله الذي لم يحرمني صحبتك ولم يردني خائبًا.

قلت للصبي أسفر لي عن وجهك، فإن كان يلزم مثلك غزو أمرتك بالمسير، وإن لم يلزمك غزو رددتك، فأسفر عن وجهه فإذا به غلام كأنه القمر ليلة البدر وعليه آثار النعمة. قال الصبي: يا أبا قدامة أما تعرفني قلت: لا. قال: أنا ابن صاحبة الوديعة، ما أسرع ما نسيت وصية أمي صاحبة الشكال، وأنا إن شاء الله الشهيد ابن الشهيد، سألتك بالله لا تحرمني الغزو معك في سبيل الله، فإني حافظ لكتاب الله عارف بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، عارف بالفروسية والرمي وما خلفت ورائي أفرس مني فلا تحقرني لصغر سني وإن أمي قد أقسمت على أن لا أرجع، وقالت: يا بني إذا لقيت الكفار فلا تولهم الدبر وهب نفسك لله واطلب مجاورة الله تعالى ومجاورة أبيك مع إخوانك الصالحين في الجنة فإذا رزقك الله الشهادة فاشفع فيّ فإنه قد بلغني أن الشهيد يشفع في سبعين من أهله، ثم ضمتني إلى صدرها ورفعت رأسها إلى السماء وقالت: إلهي وسيدي ومولاي هذا ولدي وريحانة قلبي وثمرة فؤادي سلمته إليك فقربه من أبيه.

 

فلما سمعت كلام الغلام بكيت بكاءً شديدًا أسفًا على حسنه وجمال شبابه ورحمة لقلب والدته وتعجبًا من صبرها عنه. فقال: يا عم مم بكاؤك؟ إن كنت تبكي لصغر سني فإن الله يعذب من هو أصغر مني إذا عصاه. قلت: لم أبك لصغر سنك ولكن أبكي لقلب والدتك كيف تكون بعدك. وسرنا ونزلنا تلك الليلة فلما كان الغداة رحلنا والغلام لا يفتر من ذكر الله تعالى، فتأملته فإذا هو أفرس منا إذا ركب وخادمنا إذا نزلنا منزلًا، وصار كلما سرنا يقوى عزمه ويزداد نشاطه ويصفو قلبه وتظهر علامات الفرح عليه.

 

فلم نزل سائرين حتى أشرفنا على ديار المشركين عند غروب الشمس فنزلنا فجلس الغلام يطبخ لنا طعامًا لإفطارنا وكنا صيامًا، فغلبه النعاس فنام نومة طويلة فبينما هو نائم إذ تبسم في نومه فقلت لأصحابي: ألا ترون إلى ضحك هذا الغلام في نومه، فلما استيقظ قلت: بني رأيتك الساعة ضاحكًا مبتسمًا في منامك، قال: رأيت رؤيا فأعجبتني وأضحكتني. قلت: ما هي. قال: رأيت كأني في روضة خضراء أنيقة فبينما أنا أجول فيها إذ رأيت قصرًا من فضة شُرفه من الدر والجواهر، وأبوابه من الذهب وستوره مرخية، وإذا جواري يرفعن الستور وجوههن كالأقمار فلما رأينني قلن لي: مرحبًا بك فأردت أن أمد يدي إلى إحداهن فقالت: لا تعجل ما آن لك، ثم سمعت بعضهن يقول لبعض هذا زوج المرضية، وقلن لي تقدم يرحمك الله فتقدمت أمامي فإذا في أعلى القصر غرفة من الذهب الأحمر عليها سرير من الزبرجد الأخضر قوامه من الفضة البيضاء عليه جارية وجهها كأنه الشمس لولا أن الله ثبت علي بصري لذهب وذهب عقلي من حسن الغرفة وبهاء الجارية. فلما رأتني الجارية قالت: مرحبًا وأهلًا وسهلًا يا ولي الله وحبيبه أنت لي وأنا لك فأردت أن أضمها إلى صدري فقالت: مهلًا، لا تعجل، فإنك بعيد من الخنا، وإن الميعاد بيني وبينك غدًا بعد صلاة الظهر فأبشر.

قال أبو قدامة: قلت له: رأيت خيرًا، وخيرًا يكون. ثم بتنا متعجبين من منام الغلام، فلما أصبحنا تبادرنا فركبنا خيولنا فإذا المنادي ينادي: يا خيل الله اركبي وبالجنة أبشري، انفروا خفافًا وثقالًا وجاهدوا. فما كان إلا ساعة، وإذا جيش الكفر خذله الله قد أقبل كالجراد المنتشر، فكان أول من حمل منّا فيهم الغلام فبدد شملهم وفرق جمعهم وغاص في وسطهم، فقتل منهم رجالًا وجندل أبطالًا فلما رأيته كذلك لحقته فأخذت بعنان فرسه وقلت: يا بني ارجع فأنت صبي ولا تعرف خدع الحرب. فقال: يا عم ألم تسمع قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُ‌وا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ‌} [الأنفال:15]، أتريد أن أدخل النار؟ فبينما هو يكلمني إذ حمل علينا المشركون حملة رجل واحد، حالوا بيني وبين الغلام ومنعوني منه واشتغل كل واحد منا بنفسه.

وقُتل خلق كثير من المسلمين، فلما افترق الجمعان إذ القتلى لا يحُصون عددًا فجعلت أجول بفرسي بين القتلى ودماؤهم تسيل على الأرض ووجوههم لا تعرف من كثرة الغبار والدماء، فبينما أنا أجول بين القتلى وإذا أنا بالغلام بين سنابك الخيل قد علاه التراب وهو يتقلب في دمه ويقول: يا معشر المسلمين، بالله ابعثوا لي عمي أبا قدامة فأقبلت عليه عندما سمعت صياحه فلم أعرف وجهه لكثرة الدماء والغبار ودوس الدواب فقلت: أنا أبو قدامة. قال: يا عم صدقت الرؤيا ورب الكعبة أنا ابن صاحبة الشكال، فعندها رميت بنفسي عليه فقبلت بين عينيه ومسحت التراب والدم عن محاسنه وقلت: يا بني لا تنس عمك أبا قدامة في شفاعتك يوم القيامة. فقال: مثلك لا يُنسى لا تمسح وجهي بثوبك ثوبي أحق به من ثوبك، دعه يا عم ألقى الله تعالى به، يا عم هذه الحوراء التي وصفتها لك قائمة على رأسي تنتظر خروج روحي وتقول لي عجّل فأنا مشتاقة إليك، بالله يا عم إن ردّك الله سالمًا فتحمل ثيابي هذه المضمخة بالدم لوالدتي المسكينة الثكلاء الحزينة وتسلمها إليها لتعلم أني لم أضيع وصيتها ولم أجبن عند لقاء المشركين، واقرأ مني السلام عليها، وقل لها أن الله قد قبل الهدية التي أهديتها، ولي يا عم أخت صغيرة لها من العمر عشر سنين كنت كلما دخلت استقبلتني تسلم علي، وإذا خرجتُ تكون آخر من يودعني عند مخرجي، وقد قالت لي بالله يا أخي لا تبط عنّا فإذا لقيتَها فاقرأ عليها مني السلام وقل لها يقول لك أخوك: الله خليفتي عليك إلى يوم القيامة، ثم تبسم وقال أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له صدق وعده وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله، ثم خرجت روحه فكفناه في ثيابه ووريناه رضي الله عنه وعنا به.

 

فلما رجعنا من غزوتنا تلك ودخلنا الرقة لم تكن لي همة إلا دار أم الغلام، فإذا جارية تشبه الغلام في حسنه وجماله وهي قائمة بالباب وتقول لكل من مر بها: يا عم من أين جئت فيقول من الغزو، فتقول: أما رجع معكم أخي فيقولون لا نعرفه، فلما سمعتها تقدمت إليها فقالت لي: يا عم من أين جئت، قلت: من الغزو قالت: أما رجع معكم أخي ثم بكت وقالت: ما أبالي، يرجعون وأخي لم يرجع فغلبتني العبرة، ثم قلت لها: يا جارية قولي لصاحبة البيت أن أبا قدامة على الباب، فسمعت المرأة كلامي فخرجت وتغير لونها فسلمت عليها فردت السلام وقالت: أمبشرًا جئت أم معزيًا. قلت: بيّني لي البشارة من التعزية رحمك الله. قالت: إن كان ولدي رجع سالمًا فأنت معز، وإن كان قُتل في سبيل الله فأنت مبشر. فقلت: أبشري. فقد قُبلت هديتك فبكت وقالت: الحمد لله الذي جعله ذخيرة يوم القيامة، قلت فما فعلت الجارية أخت الغلام. قالت: هي التي تكلمك الساعة فتقدمت إلي فقلت لها إن أخاك يسلم عليك ويقول لك: الله خليفتي عليك إلى يوم القيامة، ثم سلمت ثياب الغلام التي كانت معي لأمه وودعتها وانصرفت حزينًا على الغلام ومتعجبًا من صبر أمهما.

 

النقد:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، فإن القصة قد اشتهرت بين الناس فخطب بها الخطباء، ودرَّسها المدرسون، وتناقلها العامة والخاصة، وهي -عند التأمل- واضحة البطلان، وفيها أشياء كثيرة منكرة فإلى بيان بعضها:

1- قال: "رجل يقال له أبو قدامة الشامي"، قلنا: ولو كان معروفًا لسمِّي، فهي إذن عن مجاهيل، وليس لها إسناد، ولا زمام ولا خطام.


2- قال: "فبينما أنا يومًا جالسًا إذ دخلت علي امرأة"، قلنا: صوابه "جالس" ثم: أين كان جالساً؟؟ وكيف استجاز الكلام مع أجنبية؟ ومن كان ثالثهما؟


3- قال: "وقد رُزقتُ من الشَّعر ما لم يُرزقه غيري من النساء"، قلنا: شعر النساء عورة بالاتفاق، ولا أظن أحدًا يخالف في هذا! فكيف تصف المرأة شيئًا من عورتها لأجنبي، وفي خلوة -كما هو ظاهر-؟؟؟


4- قال: "فإن احتجت إليه وإلا فادفعه إلى من يحتاج إليه ليحضر شعري ويصيبه الغبار في سبيل الله"، قلنا: وهل هذا الفعل جائز في الشرع -أعني قص الشعر لهذا السبب-؟؟ وماذا في إصابة الغبار شعرها؟ وهل غاب مثل هذا الفعل عن أمهات المؤمنين والتابعيات، حتى تتفطن له هذه المجهولة الجهولة؟؟


5- قال: "وأنا أسألك بحرمة الإسلام، لا تحرمني ما طلبت من الثواب"، قلنا: هل السؤال بحرمة الإسلام جائز؟


6- قال: "قال: لا بل أنا خارج معك أطلب ثأر والدي"، قلنا: هل هذه نية المجاهدين؟ وهل الذي يقاتل حمية أو عصبية عدَّه النبي صلى الله عليه وسلم من المجاهدين في سبيل الله؟


7- قال: "لا تحرمني الغزو معك في سبيل الله، فإني حافظ لكتاب الله عارف بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم"
قلنا: وما علاقة حفظ القرآن بالغزو في سبيل الله؟ أليس قوله أنه على علم بالفروسية والرمي بالقوس كافٍ؟ وهل كان يرد النبي صلى الله عليه وسلم الصغار لجهلهم بالسنة وقلة حفظهم؟ وأليس كان يقبل الصغار الذين يحسنون المصارعة دون السؤال عن حفظهم؟ هل هذا جهاد أم "ناشىء في رحاب القرآن"؟!.


8- قال: "قد بلغني أن الشهيد يشفع في سبعين من أهله وسبعين من جيرانه"، قلنا: ومن أين جاءت بالسبعين من جيرانه؟ وكيف استجاز ناقل القصة مثل هذا الافتراء والهراء؟ ورواية الترمذي وابن ماجه "من أقاربه" ورواية أبي داود "أهل بيته"! وإنما هي سبعين واحدة!


9- قال: "إن كنت تبكي لصغر سني فإن الله يعذب من هو أصغر مني إذا عصاه"، قلنا: لا يعذب الصغير إلا إن بلغ الحلم! وهذا الولد عمره (15) كما في الخرافة! فكم عمر الصغير الذي يعذب على زعمه إن عصى الله؟


10- قال: "فأردت أن أضمها إلى صدري فقالت: مهلًا، لا تعجل، فإنك بعيد من الخنا"، قلنا: سبحان الله، يكذبون ولا يحسنون الكذب، فهل الذي يواقع أجنبية في المنام يعد من أهل الخنا؟ وهل حكم المنامات هو مثل حكم الحقيقة في الزنى أو الكفر أو المعاصي أو الطاعات؟


11- قال: "وقلت: يا بني لا تنس عمك أبا قدامة في شفاعتك يوم القيامة"، قلنا: هل هو حراج؟ وهل هو من أقربائه؟ أو من جيرانه -كما زعمت الأم!-؟


12- قال: "وقل لها أن الله قد قبل الهدية التي أهديتها"، قلنا: وهذا من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، فكيف عرف هذا الولد أن الله قبله عنده؟ وكيف رضي كاتب القصة بمثل هذه الخرافات التي فيها الكذب على الله؟ وكبار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كان يسأل الله قبول ركعتين منه -كابن مسعود وابن عمر- وهذا الولد يجزم بقبوله عند الله! إن هذا لمن العجب!


13- قال: "فكفناه في ثيابه ووريناه رضي الله عنه وعنا به"، قلنا: وهل تجوز لفظة "وعنا به"؟ فهي في ظاهرها منكرة، فإذا رضي الله عن فلان فهل يرضى عن غيره برضاه عن الأول؟ وواضح منها أنها استشفاع بالمخلوق على الخالق، وهي منكرة.


14- قال: "فصرختْ ووقعتْ على وجهها مغشيًا عليها، فحركتها بعد ساعة، فإذا هي ميتة فتعجبت من ذلك"
قلنا: هكذا بكل سهولة! وهل هذه التربية التي تربت عليها البنت من أمها صاحبة الشعر الطويل وأخيها الحافظ لكتاب الله العارف! بسنة النبي صلى الله عليه وسلم؟ وهل هذا إلا كما يعرف عن المتصوفة بخرافاتهم من موت عند سماع آية أو صعقة عند رؤية ولي؟
والله أعلم.