صناعة العلماء - (13) العلماء ونُصح الحُكَّام

منذ 2014-05-24

نعيش في هذه الحلقة مع بعض النماذج المشرقة من سير العلماء الربانيين، الذين نصحوا للحكام وقالوا كلمة الحق ولو كانت تحمل معاني المحن والأزمات، فنتناول سيرة نبي الله يوسف عليه السلام مع حاكم مصر، وصور من حياة سلطان العلماء العز بن عبد السلام، مع نماذج معاصرة عاشت محن الحكام الظالمين أمثال ابن تيمية وسيد قطب... وهنا ملخص ما جاء في هذه الحلقة

بسم الله الرحمن الرحيم

د. صلاح:

العالِم عليه الشعور بالمسؤولية عن الكلمة التي يحملها وهي كلمة الله، وشعوره بالمسؤولية عن الأمة، وهذه الكلمة هي كما في قول الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108]، فكل من اتبع النبي صلى الله عليه وسلم لا بد أن يكون حاملًا للرسالة ومُبلِغًا للأمانة.

والعالِم الرباني لا يتمحور حول ذاته بل يُحَول الأزمة إلى فرصة، وهذا ما فعله سيدنا يوسف عليه السلام، وأيضًا ابن تيمية عندما دخل السجن كتب مؤلفات وكذلك الشهيد سيد قطب كتب ظلال القرآن في السجن.

وهذه الطريقة التي نريد أن يَتقدم بها العالِم إلى الحاكم، لا لينفع نفسه بل لينفع بلده وأمته ولينفع الحاكم في آخرته وفي دنياه.

 

د. راغب:

وسيدنا يوسف عليه السلام عندما نَصَحَ الحاكِم كانت النتيجة أن وصل يوسف عليه السلام للتمكين في الأرض، فهنا كلمة الحق رَفَعت مِن قَدر يوسف عليه السلام في الدولة ومَكَّنَت له في الأرض، ورأينا موقف العزّ بن عبد السلام وهو ينصح نجم الدين أيوب، فاستمع لنصحه نجم الدين أيوب، ورُفِعَ قَدر العزّ بن عبد السلام في البلاد، لكن ليس الحال دائمًا على هذه الصورة، فالأصل في الأمور أنه إذا تَقدم العالِم للحاكم بنصحٍ تكون العاقبة نكالًا وعقاب وأزمة كبيرة جدًا تَحدُث للعالِم!

 

د. صلاح:

قال الله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30]، وقال: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} [الأحزاب:39].

وقال ابن تيمية: "سجني خلوة ونفيي سياحة وقتلي شهادة، فماذا عساهم إن يفعلوا بنا؟"، وفي هذا القول راحة لعقل العالِم الرباني الذي نريد صناعته فلا يكون هناك ضغط على عقله.

عَرَفْنا اللَّيالي قَبلَ مَا نَزَلَت بِنَا *** فلمَّا دَهَتْنَا لَمْ تَزِدْنَا بِهَا عِلْما

 

د. راغب: 

وإن أكثر ما جعل كلمات سيد قطب تنتشر بين الناس أنه مات من أجلها، وهو الذي قال: "ستظل كلماتنا عرائس من الشمع لا روح فيها ولا حياة، حتى إذا متنا في سبيلها دبّت فيها الروح وكتبت لها الحياة".

هذا هو المعنى يجب أن يصل إلى ذهن العالِم الذي يتمنى أن يكون عالمًا ربانيًا.

إن العلماء يرزقهم الله رزقًا حسنًا ويدافع الله عن الّذين آمنوا، لكن في نفس الوقت نرى بعض النماذج من تاريخ علمائنا فنرى من يمر بالأزمة ولا يخرج منها ويموت مضطهدًا أو معذبًا  أو يموت مقهورًا في الظروف الصعبة. 

أعتقد أن الذي يثبته على هذا الأمر أنه ينظر إلى ما هو أعظم من أن الله عزَّ وجلَّ سيفَرِّج عنه في الدنيا ولكنه ينظر إلى أن الله عزَّ وجلَّ  سيفرِّج عنه في الاخرة وهذا أعظم وأجلّ، إن العالِم إن نظر إلى ما في يد الله عزَّ وجلَّ وعَظُمت الآخرة في عينيه وقلَّت الدنيا في عينيه، حتى وإن ضاعت منه ولن تعود إليه ولن يُمكَّن كما مُكِّنَ يوسف عليه السلام ولن يخرج من الأزمة كما خرج العزّ بن عبد السلام، وسيعيش معذبًا مطاردًا، وما الضير في ذلك؟ وما الألم في ذلك؟ إن قُرِنَ بنعيم الجنة وغمسة واحدة في الجنة ينسى بها كل هذا الألم.

إذًا علينا أن نُعلي في عين العالِم قَدر الله عزَّ وجلَّ وما سيعطيه الله ربنا عزَّ وجلَّ في الآخرة ،عندها تهون هذه المحن.

 

د. صلاح:

نحن الآن في القرن 21 ونتكلم عن العز بن عد السلام، وأنت كتبت عنه في كتابك عن غزو التتار وفَصَّلتَ في  قصته بشكل متميز جدًا، وكذلك أخونا علي الصلابي في فقهاء النهوض تكلم عنه كلامًا رائعًا، وأيضًا الأستاذ الطبَّاع عندما حَقَّقَ كتاب شجرة المعارف والأحوال وصالح الأقوال والأعمال للعز بن عبد السلام،  فأينما تذهب تجد الحديث عن العز بن عبد السلام، فكم من  الحسنات يأخذها الآن؟!

وانظر إلى سيدنا خبيب بن عدي عندما قالوا له سَنُقطع جسدك فيقول هذه الكلمات التي أتمنى أن يتربى عليها كل عالِم: 

وَلَسْتُ أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِمًا *** عَلَى أي جَنْبٍ كَانَ في اللهِ مَصْرَعِي
وَذَلِكَ في ذَاتِ الإلهِ وإنْ يَشَأ *** يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شَلْوٍ ممَزَّعِ 


وهذه كلمات شيخنا العلامة القرضاوي عندما كان في سجون عبد الناصر:

ضَعْ فِي يَدَيَّ الْقـَيْدَ، أَلْهِبْ أَضْلُعِي *** بِالسَّوْطِ، ضَعْ عُنُقِي عَلَى السِّكِّينِ!
لَنْ تَسْتَطِيعَ حِصَارَ فِكْرِيَ سَاعَةً *** أَوْ نَزْعَ إِيمَانِي وَنُورِ يَقِينِي!
فَالنُّورُ فِي قَلْبي، وَقلْبيْ فِي يَدَيْ *** رَبِّي، وَرَبِّي نَاصِرِي وَمُعِينِي!
سَأَعِيشُ مُعْتَصِمًا بِحَبْلِ عَقِيدَتِي *** وَأَمُوتُ مُبْتَسِمًا لِيَحْيَا دِينِي!

 

 

لسماع هذه الحلقة: العلماء ونصح الحكام

راغب السرجاني

أستاذ جراحة المسالك البولية بكلية طب القصر العيني بمصر.

المقال السابق
(12) العلاقة بين العالِم والحاكِم
المقال التالي
(14) الصراع بين العلماء