الشهوة الخفية

منذ 2014-06-01

أواخر الخلافة العثمانية كثر صراع السلاطين على الزعامة والنفوذ، وانتشر السجن والقتل بينهم، حتى إنّ أحد الخلفاء قتل تسعة من إخوانه لتثبيت حكمه وحكم ولده من بعده.. أليست هذه الحادثة جديرة بالتأمل والنظر؟! غريب هذا الإنسان.. ألهذا الحدّ يبلغ به بريق الزعامة؟! ألهذا الحد يطغى ويتجبر من أجل الوصول إلى القمة؟!

أواخر الخلافة العثمانية كثر صراع السلاطين على الزعامة والنفوذ، وانتشر السجن والقتل بينهم، حتى إنّ أحد الخلفاء قتل تسعة من إخوانه لتثبيت حكمه وحكم ولده من بعده.

أليست هذه الحادثة جديرة بالتأمل والنظر؟! غريب هذا الإنسان.. ألهذا الحدّ يبلغ به بريق الزعامة؟! ألهذا الحد يطغى ويتجبر من أجل الوصول إلى القمة؟!

وليس هذا المثال نشازًا لا نظير له؛ فكتب التاريخ ـ في قديم الدهر وحـديثه ـ طافحة بنظائره، بل إنّ التاريخ الحديث يُرينا إبادة وإذلال شـعـوب بأكـمـلـهـا، فـحبّ الزعامة والظهور يُعمي ويصم، ويجعل الإنسان يبيع كل شيء من أجل الوصول إليها.

ولـيــس عجـيـبًا أن تتواتر النصوص النبوية في التحذير من السعي إلى الإمارة، فهي فتنة تتساقط تحتها كرامة الرجال، وتنكشف أمامها كمائن القلوب، لقد اعتدنا ذلك مــن الـسـاســة وطلاب الدنيا، وأصحاب المغانم الفانية.

ولكن الغريب كل الغرابة أن ينتقل الداء داخل بـعــض التجمعات الدعوية، ويسيطر على بعض النفوس المريضة، من حيث تشعر حينًا، ومن حيث لا تشعر أحيانًا أخرى حتى يصبح همّ المرء أن يسوّد على خمسة أو عشرة أو أقل أو أكثر دون أن يُفـكـر بورع صادق في تبعات ذلك في الدنيا والآخرة، فهي أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة، قال يوسف بن أسباط: "الزهد في الرياسة أشد من الزهد في الدنيا".

إنّ ضبابًا كثيفًا يطغى على بصر الإنسان حينما يرى لمعان القـيـادة يطل عليه من بعيد، وتظـل نفسه تحدّثه، ويُمنيه هواه بالوصول إليها، فتراه ينسى نفسه ويلهث من أجـل الوصول إليها، والعض عليها بالنواجذ، ثم تجد التسابق والتنافس، بل الكيد والكذب أحيانًا للوصول إلى المطلوب، فالغاية تبرّر الوسيلة! وصدق الفضيل بن عياض عندما قال: "ما من أحد أحبّ الـريـاســة إلا حـسـد وبغى، وتتبع عيوب الناس، وكره أن يُذكر أحد بخير".

بئست الدعوة حينما تكون مغنمًا وجاهًا وشـرفًا، ينتفخ فيها المرء ويتيه ويتبختر.
وبئس الداعية حينما يسعى لاهثًا وراء زخـرف عاجل، وعرض قريب، وما أجمل قول الحافظ الذهبي: "ما أقبح بالعالم الداعي إلى الله الحرص وجمع المال".

إنّ حبّ الظهور والعلو بداية السقوط والانحـراف والفـشـل، وما أحكم رسول الله حينما يقول: «مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلَا فِي غَنَمٍ بِأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ الْمَرْءِ عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ» (رواه الترمذي وأحمد وإسناده صحيح).

قال شدّاد بن أوس رضي الله عنه: "يَا بَقَايَا الْعَرَبِ.. يَا بَقَايَا الْعَرَبِ! إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُم: الْرِّيَاءُ، والْشَّهْوةُ الْخَفِيّةُ" قيل لأبي داود السجستاني: "ما الشهوة الخفية؟" قال: "حب الرئاسة".

وإنّ نصر الله عز وجل، وتأييده لا يتنزل إلا على عباده المخلصين، الأخفياء الأتقياء، الذين تشرئب أعناقهم وتتطلع قلوبهم إلى النعيم المقيم، في مقعد صدق عند مليك مقتدر؛ قال تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِـــرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83].

 

المصدر: موقع الشيخ سلطان بن عبد الله العمري