اليوم علمت أنّ أمركم زائل، وأنّكم مغلوبون !
قبيل معركة (القادسية)، التي هزم المسلمون فيها الفرس، أرسل القائد
المسلم (سعد بن أبي وقّاص) رضوان الله عليه -فيما أرسل- (المغيرة بن
شعبة) إلى (رستم) قائد الفرس .. ولما دخل (المغيرة) عليه، ورأى مظاهر
العبوديّة والاستعباد بين (رستم) وحاشيته، قال لهم: [ كانت تبلغنا
عنكم الأحلام، ولا أرى الآن قوما أسفه منكم، وإنا معشر المسلمين سواء،
لا يستعبد بعضنا بعضا، وكان أحسن لكم أن تخبروني أنّ بعضكم أرباب بعض
..
اليوم علمت أنّ أمركم مضمحلّ، وأنكم مغلوبون، وإنّ ملكا مثل ملككم لا
يقوم على هذه السيرة، ولا على هذه العقول!..]. (أيام العرب في
الإسلام، الطبعة الرابعة، ص264).
بعد أن انصرف (المغيرة) رضي الله عنه، وخرج من عند (رستم)، خرج خلفه
رجل من الفرس ليقول له: [إنّ رستم رجل منجّم، وإنّه إذ رآك حسب لك
ونظر في أمرك، فوجد أنّك غدا تفقأ عينك]، فأجابه (المغيرة) بكل ثقة
واطمئنان وعزّ: [ والله لقد بشّرتني بخير، ولولا أن أجاهد بعد اليوم
أشباهكم من المشركين الظالمين، لتمنّيت أنّ عيني الأخرى ذهبت أيضا في
سبيل الله!..] . (نفس المصدر، ص267).
بمثل (المغيرة) رضي الله عنه هزم الله أقوى دولة في الأرض آنذاك ..
ولعلّ الهزيمة المنكرة التي لقيها الفرس وقعت لسببين رئيسيّين،
حدّدهما بدقّة البطل المسلم المجاهد (المغيرة بن شعبة)، هما:
1- ابتعاد العدوّ عن منهج الله عز وجل، وبالتالي استعباد بعض الناس
بعضهم الآخر، وممارسة الظلم.
2- الإيمان المطلق لدى المسلم المؤمن، بأنّ الله عز وجل سينصره على
أعدائه، بغضّ النظر عن التوازن في القوّة الماديّة.
هكذا كان المسلمون يدكّون عروش الكفار ويهزمون المشركين، في القادسية
واليرموك وحطين وعين جالوت و .. وغيرها، حيث تحقّق في مثل تلك المعارك
الفاصلة، ما لم يعتقد أحد من البشر أن يتحقّق، وزالت دول وأمم كانت
تظنّ أنها باقية أبد الدهر!..
وفي يوم (بدر) كانت قوة المسلمين -الظاهرة- لا تعادل ثلث قوة العدوّ،
ومع ذلك فإنّ بدرا كانت (ذات الشوكة)، وكانت الفاصلة التي قصمت
العدوّ، وهزمته شرّ هزيمة!.. ذلك العدوّ الذي قدم إلى (يثرب) وهو في
أعلى درجات الثقة، بأنه سيسحق المسلمين، ويستأصل شأفتهم، معتمدا في
ذلك على الحسابات الماديّة الصرفة!..
وهزمت الشيوعية، وهزم (الاتحاد السوفييتي)، وتفكّكت إمبراطوريته
الأقوى في الأرض، بعد مقاومة عظيمة قدّم صفحاتها المجاهدون المسلمون
الأفغان، وعلى أيدي رجال لا يجدون ما يأكلون، ولا يعثرون على ما
يلبسون!..
وهزمت (بريطانية العظمى) شرّ هزيمة في أفغانستان، في أواخر القرن
التاسع عشر .. عندما كانت أعظم دولة على وجه الأرض، ولم تستطع السيطرة
على البلد المسلم الصغير الفقير، بل خلّفت وراءها آلاف القتلى
البريطانيين (الصناديد)!..
قد تمرّ على المؤمنين المجاهدين ظروف صعبة، وليال حالكات، وقد تثقل
الكواهل بالأحداث الجسام .. فما يزيدهم ذلك إلا تعلّقا بالله عز وجل،
وتحرّيا لنصره وحده، وتوخّيا لتأييده!.. وقد يتآمر المتآمرون، ويتحالف
أهل الكفر، ويبيع حكّام شرفهم وأخلاقهم ودينهم بعرض من الدنيا..
كما حدّثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «
إنّ بين يدي الساعة فتنا كقطع الليل
المظلم .. يبيع أقوام أخلاقهم ودينهم بعرض من الدنيا »
(أخرجه أحمد والطبراني والحاكم).
وقد يدّعي الأشرار أنهم أهل خير يحاربون أهل الشرّ، حين تختلّ
المعايير، فمثل هؤلاء ينطبق عليهم قوله صلى الله عليه وسلم: « من اقتراب الساعة،
أن ترفع الأشرار وتوضع الأخيار .. »
(أخرجه الطبراني والحاكم).
وقد يتحالف مع الباطل الكافر أقوام ودول تزعم أنها إسلامية تنتمي إلى
الإسلام..
فهؤلاء كذلك ذكرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: « ليأتينّ على الناس
زمان يؤمنون بالله ولا يشركون به شيئا، ويصومون رمضان، ويصلّون الخمس،
وقد سلبوا دينهم، لأنهم رأوا الحقّ فتركوه » (أخرجه ابن وضاح).
وقد تظهر دول وأنظمة، تتشدّق بالباطل، ويهدّد رجالها رجال الإسلام
ويتوعّدون، وينظّرون للهزيمة، ويفلسفون الاستخذاء ..
وهؤلاء أيضا ذكرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: « سيأتي على الناس
سنوات خدّاعات، يصدّق فيها الكاذب، ويكذّب فيها الصادق، ويؤتمن فيها
الخائن، ويخوّن فيها الأمين، وينطق فيها الرّويبضة، قيل وما
الرّويبضة؟.. قال: الرجل التافه ينطق في أمر العامّة ».
في (غزوة الخندق)، خرج أهل الشرك لاستئصال الدويلة المسلمة الناشئة،
وحشدوا لذلك آلاف الرجال من مختلف القبائل، وجمعوا أفضل السلاح
..
ومرّت على المسلمين المجاهدين في المدينة المنوّرة أيام عصيبة قاسية
حالكة رهيبة، وصفها الله عز وجل في محكم تنـزيله وصفا دقيقا مذهلا
بقوله: { إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل
منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنّون باللّه الظّنونا،
هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا } [الأحزاب:10و11]
..
ومع ذلك، وفي خضمّ تلك المحنة الرهيبة، لم يتزحزح المؤمنون المجاهدون
عن موقفهم الحق، ولم يتراجعوا أمام الباطل، ولم يساوموه على سلامتهم
ونجاتهم .. بل لم يفقدوا ثقتهم بنصر الله عز وجل، الذي لا نصر إلا
نصره: { ولمّا رأى المؤمنون الأحزاب
قالوا هذا ما وعدنا اللّه ورسوله وصدق اللّه ورسوله وما زادهم إلاّ
إيمانا وتسليما } [الأحزاب: 22] ..
وفي المقابل كان المنافقون المهزوزون الموتورون، ينظرون إلى القضية
من منظار آخر مختلّ قاصر: { وإذ يقول
المنافقون والّذين في قلوبهم مرض ما وعدنا اللّه ورسوله إلاّ
غرورا } [الأحزاب : 12]
وما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الظرف العصيب،
المفعم بالرعب والخوف والجوع والبرد، الذي بلغت فيه القلوب الحناجر،
.. ما كان منه إلا أن بشّر أصحابه المؤمنين المجاهدين أنصار الحقّ ..
بنصر الله عز وجل وتأييده: [أبشروا بفتح الله ونصره]!.. بل وعدهم -وهم
في تلك الحال من الزلزلة الشديدة- بملك كسرى وقيصر، وبفتح بلاد
اليمن!..
وانتصر المسلمون المؤمنون المجاهدون في غزوة (الخندق)، بتأييد الله
وعونه!.. ثم زال كسرى، وزال قيصر، وفتحت بلاد اليمن!..
إنّ القوة المادّية الغاشمة، لن تزيد قادة الحملة الظالمة وأهلها
الأميركيين والغربيّين وأذنابهم، إلا خسارا وهزيمة، مهما حشدوا من
الجيوش والأساطيل، ومهما هدّدوا وتوعّدوا، ومهما تآمروا وكادوا
وخططوا!..
لأنّ القوة الحقيقية هي قوة الله عز وجل، التي يهبها للمؤمنين
الصادقين المجاهدين في سبيله: { سيهزم
الجمع ويولّون الدّبر، بل السّاعة موعدهم والسّاعة أدهى وأمرّ
} [القمر: 45و46]، { وما أنتم بمعجزين
في الأرض ولا في السّماء وما لكم من دون اللّه من وليّ ولا
نصير } [العنكبوت:22] ، { فأصابهم سيّئات ما كسبوا والّذين ظلموا من
هؤلاء سيصيبهم سيّئات ما كسبوا وما هم بمعجزين } [الزمر:
51].
ومثل (أميركة) ونظامها العالميّ الظالم، كمثل دولة الفرس التي كانت
أعظم دولة على وجه الأرض، فاستأصلها الله عز وجل من أرضه، على أيدي
الرجال المؤمنين المجاهدين، الذين يعرفون هدفهم وطريقهم جيدا، لتحكيم
منهج الله في الأرض ..
استأصلها الله في الوقت الذي كانت تنضح فيه جبروتا وعنجهية وغطرسة،
وكان هراطقتها يظنّون أنّ الدنيا كلها رهن إشارتهم، وخاتم في إصبع
كافرهم الأكبر!..
فقبيل معركة (القادسية)، اختطف رجال من جيش (رستم) رجلا من عامّة
المقاتلين المسلمين، وأدخلوه على (رستم) الذي سأله: ماذا تطلبون؟..
قال الرجل: نطلب موعود الله، قال رستم: وما هو موعود الله؟..
قال الرجل: النصر أو الشهادة..
قال رستم: فإن قتلتم قبل ذلك؟..
قال: في موعود الله أنّ من قتل منا قبل ذلك أدخل الجنّة، وأنجز الله
لمن بقي منا حيّا ما قلت لك، فنحن على يقين!..
قال رستم هازئا: قد وضعنا إذا في أيديكم؟..
قال الرجل: ويحك يا رستم، إنّ أعمالكم قد وضعتكم، فأسلمكم الله بها،
ولا يغرّنّك ما ترى حولك، فإنّك لست تحاول الإنس، وإنما تحاول القضاء
والقدر!.. (أيام العرب في الإسلام، الطبعة الرابعة، دار الفكر، ص257)
..
ما أعظم هذا الكلام، كلام رجل مجاهد من عامة المسلمين وليس من قادتهم
أو من أهل الصف الأول فيهم .. وما أعظم هذا الإيمان، وما أعظم أولئك
الرجال، شموخا وإيمانا وتربية وعزّا وجهادا وفهما للإسلام!..
لقد دالت دول، وزالت أمم، كانت تظنّ أنّ قوّتها الماديّة ستخلّدها إلى
يوم القيامة.. وقد كانت أوطاننا الإسلامية مقبرة لبعض أولئك!.. فهل
ستكون مقبرة، للحملة الغربية الأميركية الظالمة، التي انطلقت تحمل إلى
عالمنا الإسلاميّ الدمار والخراب والهمجية وسفك الدماء والقتل والفتك
.. والإرهاب؟!.. نرجو الله ذلك، بل لا نشك مطلقا بنصر الله وتأييده
للعصبة المؤمنة، وليس هذا الأمر عليه سبحانه بعزيز!..
فالله عز وجل يقول لعباده المؤمنين المجاهدين المخلصين:
{ وعد اللّه الّذين آمنوا منكم وعملوا
الصّالحات ليستخلفنّهم في الأرض كما استخلف الّذين من قبلهم وليمكّننّ
لهم دينهم الّذي ارتضى لهم وليبدّلنّهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا
يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون } [النور :
55] .
بينما يقول للمشركين الكافرين المتغطرسين، الذين يحتكمون إلى قوّتهم
المادية الغاشمة:
{ أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان
عاقبة الّذين من قبلهم كانوا أشدّ منهم قوّة وأثاروا الأرض وعمروها
أكثر ممّا عمروها وجاءتهم رسلهم بالبيّنات فما كان اللّه ليظلمهم ولكن
كانوا أنفسهم يظلمون } [الروم : 9].
- التصنيف: