الإجازة رسمية وليست عبادية

منذ 2014-06-05

الإجازات التي تمنح للعاملين، في أي عمل كان، هي تنظيم إداري وعقد بشري يجب الوفاء به، لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}، ولكنها لا تسقط حقوق الله وحقوق عباده عن أهل الإجازات...

الرغبة الصادقة في عمل الخير، والإرادة الجازمة لذلك العمل، والجد والاجتهاد في اتخاذ الأسباب لتنفيذه هي أساس النجاح فيه.
فقد أمر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بالرغبة إليه، فقال: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ . وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح:7-8].

 

والرغبة إلى الله هي الرغبة في عبادته وهي الرغبة في ملة إبراهيم، ولهذا نفى تعالى عن أهل الرشد والهدى الرغبة عنها، وحكم على من يرغب عنها بالسفه، فقال تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [البقرة:130].

 

والأصل أن أمره تعالى لنبيه أمر لأمته، مالم يدل دليل على إرادة تخصيصه، لأن لهم فيه أسوة حسنة، كما قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21].


ولهذا قال تعالى فيمن اعترضوا على الرسول صلى الله عليه وسلم في قسمه الصدقات من المنافقين: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} [التوبة:59]، أي لو أنهم فعلوا ذلك كما فعل المؤمنون الصادقون الراغبون إلى الله، لكان خيرا لهم. (يراجع تفسير الآية في تفسير القرآن العظيم لابن كثير وغيره).

 

فالرغبة إلى الله تعالى تيسر على العبد القيام بطاعته وترك معصيته، ولا بد مع الرغبة الصادقة من الإرادة الجازمة التي يترتب عليها القيام بالعمل الذي يرضي الله تعالى ويوصل إلى ثوابه، قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:145].


وقال تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء:19].


الرغبةُ الصادقة في طلب العلم (أيِّ علمٍ ينفعه وينفع أمتَه) وإرادةُ الطالب الجازمة لهذا الطلب، والسعيُ الجاد في تحصيله، كلها تثمر فوزه ونجاحه فيه.

ولهذا تجد الطالب الذي توافرت فيه هذه العناصر الثلاثة (الرغبة والإرادة والتنفيذ) يدير وقته إدارة من يعمل لدنياه كأنه يعيش أبدا، ويعمل لآخرته كأنه يموت غدا.

وقد كان سلف هذه الأمة من العلماء والمتعلمين، يقضون أوقاتهم في التعليم والتعلم والعمل، فحققوا لأنفسهم وللعالم السعادة بعمارة دنياهم وإقامة دينهم.


وكانوا يقصدون بتعلمهم وتعليمهم وعملهم وجه ربهم الذي بعونه أمدهم، وبتوفيقه أعانهم، فاستسهلوا بذلك الصعاب، وخفت على أجسامهم الأتعاب، واستنارت بضياء هداه الألباب.


ثم تتابعت بعدهم الأجيال، وتغيرت فيهم الأحوال، فقلت الرغبة والإرادة وضعف الإخلاص والاجتهاد، وانتشر الجهل والغفلة بين العباد، وصار طلب العلم لمتاع الدنيا وسيلة، ولم تعد له عند كثير من الطالبين ذلك القَدْر وتلك الفضيلة.

فثقل طلب العلم على كثير من المتعلمين والمتعلمات، وبرم بالتعليم كثير من المدرسين والمدرسات، وأصبحت النفوس تتمنى كثرة العطل والإجازات، فتحققت للجميع تلك الأمنيات.

وكذلك العاملون من سلف هذه الأمة في الوظائف العامة أو الخاصة، كان الإحسان الذي قال الله تعالى في أهله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} في أكثر من آية، منها الآية (134) من سورة المائدة.


وقال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» (البخاري: [4499]، ومسلم: [8]).


وهو الذي كتبه الله تعالى على كل شيء، كما جاء في حديث شداد بن أوس قال اثنتان حفظتهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح وليحد أحدكم شفرته فليرح ذبيحته» (مسلم: [1955]، وغيره).

 

والإحسان كما يقول العلماء: "هو إتقان الشيء والإتيان به على أكمل وجه".

هذا هو شأن المسلم، معلما ومتعلما، وموظفا عاما أو خاصا، يجتهد في إحسان عمله في كل أحواله، في حال سره وعلنه، لأن السر والعلن إنما يكونان مع المخلوقين، أما الخالق فالسر والعلن عنده سواء...{وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} [النحل:19].


وقد وضعت لكل العاملين أنظمة إجازات يتمتع كل منهم فيها بمدة معينة، بعيدا عن عمله، قد يكون فيها مسافرا في داخل بلده أو خارجها، وقد يكون مقيما بين أهله وأسرته.
 

وكثير من الناس يعتبرون هذه الإجازات أوقات فراغ عن العمل الجاد فيها، لأن وقت العمل قد حدد في غيرها. فيمضون أيامها ولياليها في نوم وكسل، أو لهو وخطل.

وهو اعتبار غير سليم وتصرف لا يخلو من سفه ذميم، لأن الأصل في كل لحظة من حياة الإنسان أن يستثمرها فيما يعود عليه وعلى أسرته وأمته بالربح والخيرات، وينجيه من الخسران والحسرات.

قال تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:21].


وقال تعالى: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:148].


وقال تعالى: {لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [التوبة:88].


وقال تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} [الأنبياء:73].


ولعظمة الوقت وحرمته وكونه عمر الإنسان الذي يتعاطى فيه كل تصرفاته، أكثر تعالى من القسم به، وذكر أجزائه في مواضع متفرقة من كتابه، ليلفت نظر عباده إلى اغتنامه وعدم تفويت شيء منه في غير فائدة، أو استغلاله فيما يعود عليهم بالضرر في الدارين، وهذه أمثلة لذلك:

فمما ذكر تعالى الليل والنهار و الصبح و الضحى و بكرة والإبكار والظهيرة والعصر و العشي و الأصيل واليوم والشهر والأشهر والشهور والسنة والسنين والعام والدهر والساعة والحين والغسق والشمس والقمر... وكثير منها تكرر كثيرًا.

وقد ربط الله كثيرا من الأحكام الشرعية العبادية والعادية بأوقات محددة، كالصلاة والصيام والحج... وعِدد الطلاق، ومدة الحمل والرضاع... وغيرها.

ويكفي أن نذكر ثلاثة أمثلة تدل على أهمية الوقت في حياة الإنسان:

المثال الأول: قوله تعالى: {وَالْعَصْرِ . إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ . إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر].

فقد أقسم تعالى بالعصر -سواء كان الدهر كله، أو وقت العصر، أو صلاة العصر التي تؤدى فيه- ثم أتبع القسم بالإخبار بخسارة كل إنسان يوجد على ظهر الأرض، وأكد تلك الخسارة بثلاثة تأكيدات:
التأكيد الأول: القسم في قوله: {وَالْعَصْرِ}. 

والتأكيد الثاني: حرف {إِنَّ} وهي من المؤكدات في اللغة العربية.

والتأكيد الثالث: بحرف لام الابتداء الداخلة على خبر {إِنَّ} في قوله: {لَفِي} وهي من المؤكدات كذلك.

فالخسران ثابت لهذا الإنسان الذي يتقلب في هذا الزمن، ثباتا مؤكدا لا شك فيه، بمجرد ان يخبر الله تعالى به، لأن تخلف المخبر به لا يحصل إلا إذا جاز على من أخبر به الكذب، أو جاز العجز على من ينشئ المخبر به.

والله تعالى منزه عن الأمر، فقوله صدق لا يعتريه الكذب: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء من الأية:122]، وهو تعالى لا يعجزه شيء، لأنه على كل شيء قدير، وهو إنما يقول للشيء {كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة من الأية:117].

ومع ذلك أكد حصول الخسران على كل إنسان بهذه التأكيدات، رحمة منه بهذا الإنسان ليأخذ الخبر مأخذ الجد، ويهتم بحماية نفسه من هذا الخسران، ولا يحميه منه إلا الخصال الأربع التي استثنى الله تعالى أهلها في قوله: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}

 

وكلها إنما تحدث في أول المؤكدات الثلاثة، وهو الزمن "العصر" والتقصير فيها أو في بعضها إنما يحصل فيه كذلك. وهذا يدل على أن الإنسان العاقل يحرص على استغلال الوقت في الأعمال النافعة، ويتجنب فيه الأعمال الضارة، لينجو من الخسران، وأن مَن نقص عقله يخرج عن هذا السبيل، فيملأ أوقاته بما يضره أو يضر غيره، أوبما لا فائدة له فيه.

المثال الثاني: قوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى . وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى . وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى . إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [الليل:1-4]، فقد أقسم تعالى بالليل والنهار -وهما ظرفان لسعي البشر- كما أقسم بنفسه، وهو الذي يحاسب على تصرفات المخلوقين، أقسم على إخباره تعالى بأن سعي الناس مختلف، منهم من يملأ أوقات عمره بالطاعات التي تقربه إلى الله، ومنهم من يملأها بالمعاصي التي تبعده عن خالقه. ثم فصل ذلك في بقية آيات السورة كما هو واضح.


المثال الثالث: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر:37]. يمنح الله تعالى الناس أزمانا يعيشون فيها في الدنيا، وهي أعمارهم التي يكلفهم فيها طاعته واجتناب معصيته، ثم يحاسبهم على أعمالهم يوم القيامة، فمن آمن به وأطاعه أدخله الجنة، ومن كفر به وعصاه أدخله النار.


وفي هذه الآية ذكر الله تعالى أن الكفار عندما يدخلون النار ويذوقون عذابه الشديد، ينادون بأصوات مرتفعة مستغيثين من ذلك العذاب، نادمين على الأوقات التي قضوها في معصية الله في الدنيا، طالبين الرجوع إليها، ليتداركوا ما فاتهم من العمل الصالح، ولكن الله تعالى يبكتهم، ويذكرهم بأنه قد منحهم من الأوقات في الدنيا ما كان كافيَهم للتذكُّر والتوبة إلى الله والطاعة له، والإقلاع عن الكفر به ومعصيته، إنه العمر الذي يحاسب الله تعالى عليه صاحبه على ما قدم: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ . وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة:7-8]، ولقد حذر الرسول صلى الله عليه وسلم، الناس كلهم، من حساب الله تعالى لهم، على أعمارهم فيم أفنوها، وبخاصة أيام شبابهم التي يكتمل فيها نشاطهم وقوتهم الجسمية والعقلية.


كما في حديث أبي برزة الأسلمي، قَال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزول قدما عبد يوم القيامة، حتى يسأل عن عمره فيما أفناه، وعن علمه فيم فعل، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسمه فيم أبلاه» (الترمذي: [2417]، وقال:هذا حديث حسن صحيح).


وفي حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه قال قَال رسول الله: «لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع خصال، عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل فيه» (الترغيب والترهيب: [5444]، وقال: "رواه البزار والطبراني بإسناد صحيح واللفظ له").


فقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم في هذين الحديثين، أن الله يسأل خلقه يوم القيامة، عن كل ما أتوه في أوقات حياتهم، وهي أعمارهم، عن علمهم وعملهم، وعن ما اقترفته أعضاؤهم، وعن أموالهم من أين اكتسبوها وفيم أنفقوها. فابن آدم مسئول عن عمره كله.

فلا يظنن امرؤ أنه مطلق الحرية في تصرفاته في جميع أوقاته، وبخاصة أوقات فراغه، بعيدا عن منهج الله، بل يجب أن يعلم أن أوقات الفراغ التي لا يستغلها فيما ينفعه في دينه ودنياه، هي أشد غبنا وندامة عليه من غيرها، وبخاصة من أنعم الله عليه فيها بالصحة والغنى الذي قد يتمكن به من تعاطي كثير من المعاصي التي لا يقدر على تعاطيها الفقراء. كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما قَال قال النبي صلى الله عليه وسلم: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس، الصحة والفراغ» (البخاري: [6049]).


بل أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، الإنسان باغتنام الفرص التي يمنحه الله تعالى في أوقات عمره، قبل أن يفقدها، فيندم على عدم اغتنامها، كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال قَال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لرجل وهو يعظه: «اغتنم خمسا قبل خمس، شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناءك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك» (الحاكم في المستدرك: [7846]، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه").


وإن من أهم ما يورد الإنسان موارد الهلاك، الغفلة والإعراض واللهو واللعب، التي تنسي صاحبها اغتنام الفرص المتاحة لاستثمار حياته في عمل الخيرات وترك المنكرات، والإعراض عن ذلك كما قال تعالى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ . مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ . لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} [الأنبياء:1-3].


بل إن هذه الغفلة لتعطل على صاحبها أدوات استقبال التوجيه الإلهي التي من الله تعالى بها عليه، حتى يصير بذلك التعطيل أحط من الحيوانات العجماء، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179].


وقد نهى الله نبيه صلى الله عليه وسلم -ونهيه له نهي لأمته- أن يطيع من أغفل الله قلبه عن ذكره فقال: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف من الأية:28]. قال ابن تيمية رحمه الله: "فالغفلة والشهوة أصل الشر، قال تعالى:{وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا}" (الفتاوى:[14-289]).


وعزا ابن القيم رحمه الله الزهد عن الحياة العليا -حياة الأنبياء والرسل وأتباعهم- إلى أصلين:
أحدهما ضعف الإيمان.
والثاني جثوم الغفلة على القلب.
وقال في هذا الأخير: "السبب الثاني: جثوم الغفلة على القلب، فإن الغفلة نوم القلب، ولهذا تجد كثيراً من الأيقاظ في الحس نياماً في الواقع..." (مدارج السالكين: [3-284]).

ووصف سيد قطب رحمه الله أصحاب الغفلة واللهو في كتابه (في ظلال القرآن) في مطلع سورة الأنبياء فقال:
"مطلع قوي يهز الغافلين هزاً، والحساب يقترب وهم في غفلة، والآيات تعرض وهم معرضون عن الهدى، والموقف جد وهم لا يشعرون بالموقف وخطورته، وكلما جاءهم من القرآن جديد، قابلوه باللهو والاستهتار واستمعوه وهم هازلون يلعبون {لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} والقلوب هي موضع التأمل والتدبر والتفكر.


إنها صورة للنفوس الفارغة التي لا تعرف الجد، فتلهو في أخطر المواقف، وتهزل في مواطن الجد وتستهتر في مواقف القداسة، فالذكر الذي يأتيهم، يأتيهم {مِنْ رَبِّهِمْ} فيستقبلونه لاعبين بلا وقار ولا تقديس.


والنفس التي تفرغ من الجد والاحتفال بالقداسة، تنتهي إلى حالة من التفاهة والجدب والانحلال، فلا تصلح للنهوض بعبء، ولا الاضطلاع بواجب، ولا القيام بتكليف، وتغدوا الحياة عاطلة هينة رخيصة، إن روح الاستهتار التي تلهو بالمقدسات روح مريضة، والاستهتار غير الاحتمال، فالاحتمال قوة جادة شاعرة، والاستهتار فقدان للشعور واسترخاء" (في ظلال القرآن: [17-2367]، طبع دار الشروق).

وقد تعرض الغفلة للمسلم أحيانا، فيقع في معصية أو ترك طاعة بوسوسة من عدوه الشيطان، ولكن تقواه تدفعه إلى ذكر ربه فيتوب إليه اقتداء بأبيه آدم الذي عصى ثم تاب.

كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:201]، وهذا هو العلاج الناجع للغفلة عندما تعرض للمسلم، وهو ذكر الله وتقواه، وهما اللذان يفقدهما غير المسلم، ولهذا لا ينفعه إنذار ولا تذكير، كما قال تعالى في الكفار: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:6].


وقال تعالى في المنافقين: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ . يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ . فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة:8-10].


وقال عنهم كذلك: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ . اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ . ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ} [المنافقون:1-3].


فعلى المسلم أن يكون يقظا حريصا على وقاية نفسه من وسوسة عدوه، وهواه وغفلته التي تسبب له الخسارة:
الرغبة إلى الله، الإرادة الجازمة لعمل الخير، اغتنام الفرص قبل فواتها:
1-الشباب قبل الهرم.
2-الفراغ قبل الشغل.
3-الصحة قبل المرض.
4-الغنى قبل الفقر.
5-الحياة قبل الموت.

الإجازات لا تسقط العبادات

الإجازات التي تمنح للعاملين، في أي عمل كان، هي تنظيم إداري وعقد بشري يجب الوفاء به، لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة من الأية:1]. ولكنها لا تسقط حقوق الله وحقوق عباده عن أهل الإجازات.

 

فهناك فروض العين التي تجب على كل مسلم، سواء كان قائما بوظيفته أو في إجازته، كالصلوات الخمس وصيام رمضان...

وهناك فروض الكفاية التي إذا قام بها طائفة من المسلمين قياما كافيا، سقطت عن غيرها، مثل إمامة المصلين في المساجد، وبيان الحلال والحرام للناس، وعلاج المرضى، وإطعام الجائعين...
 

وهناك التنافس في الطاعات -وإن لم تكن فرض عين ولا فرض كفاية- ينبغي للمسلم الحرص عليها والمنافسة فيها، كنوافل الصلاة الراتبة وغيرها، وبخاصة قيام الليل، والصيام وبخاصة يومي الإثنين والخميس، والأيام البيض، والصدقات وقراءة القرآن.. وغير ذلك.


قال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:133].

وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ . أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون:60-61].


وقال تعالى: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:148].


وقد أثنى الله تعالى على عباده المؤمنين الذين، يهجرون مضاجعهم ليتقربوا إليه سبحانه ويقفوا بين يديه متضرعين، يخافون عذابه، ويطمعون في رحمته وثوابه، كما قال تعالى: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ . تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ . فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:15-17]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} [الفرقان:64]، وهناك المباحات التي يتحول فعلها أو تركها عند المؤمن إلى طاعات وعبادات، فيستكثر من طاعات ربه وطلب ثوابه ومرضاته...


لقد جعل الله تعالى إتيان الرجل امرأته صدقة يكتب الله تعالى له به الثواب، كما يثيبه على ذكره من التهليل والتسبيح والتكبير، كما في حديث أبي ذر رضي الله عنه: أن ناسًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم. قال: «أو ليس قد جعل الله لكم ما تصدقون؟ إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهى عن منكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة» قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: «أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر» (صحيح مسلم: [1006]).


فقد تعجب الصحابة رضي الله عنهم من كون أن الله يثيب الرجل على إتيان امرأته، لأنه من المباحات التي يشتهيها، وليس من العبادات التي كانوا يظنون أن الأجر لا يكون إلا عليها، كنوافل الصلاة والذكر ونحوهما. فأخبرهم الرسول صلى الله عليه وسلم، أن إتيان الحلال استغناء به عن الحرام يثيب الله صاحبه عليه.
 

ولما سئل معاذ بن جبل رضي الله عنه: كيف تقرأ القرآن؟ قال: «أقرأ وأنام، ثم أقوم فأتقوى بنومتي على قومتي ثم أحتسب نومتي بما أحتسب به قومتي» (صحيح ابن حبان: [12-197])، ومعناه أنه رضي الله عنه، يرجو من الله أن يثيبه على نومه، كما يثيبه على قيام الليل، لأنه يتقوى بالنوم وهو مباح على قيام الليل وهو مندوب إليه.


وفي حديث عطية السعدي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يبلغ العبد أن يكون من المتَّقين، حتى يدع ما لا بأس به حَذَراً مما به بأس» (الترمذي: [2451]، وقال: "حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه"، والحاكم في المستدرك: [7899]، وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه").


وبهذا يعلم أن المؤمن يستطيع أن يكون في عبادة دائمة لربه، يملأ الله ديوانه بالأجور في كل لحظة من لحظات حياته. وهو مأمور بالاستمرار في عبادة ربه حتى يلقاه، كما قال تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99].


وهو يستطيع أن يكون في عبادة دائمة، في كل أحواله، حتى وهو يتمتع بالمباحات التي تشتهيها نفسه.
فقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يشعرون بقوة الإيمان واليقين، عندما يكونون عند الرسول صلى الله عليه وسلم.

فإذا خرجوا من عنده، وزاولوا أعمالهم المباحة مع أهلهم أو في أموالهم، شعروا بنقص في إيمانهم، فيندمون ويشكو بعضهم إلى بعض، ثم يشكون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيسليهم بأن هذه طبيعة البشر التي لا قدرة لهم على مفارقتها، ويقول لهم: «ساعة فساعة».

 فعن حنظلة الأسيدي، قال وكان من كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: لقيني أبو بكر فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قال قلت: نافق حنظلة. قال سبحان الله! ما تقول؟ قال قلت: نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأى عين، فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، فنسينا كثيرا. قال أبو بكر: فوالله إنا لنلقى مثل هذا، فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله قلت: نافق حنظلة يا رسول الله. فقال رسول الله: «وما ذاك؟» قلت: يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأى عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، نسينا كثيرا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده إن لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر، لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة ثلاث مرات» (صحيح مسلم: [2750]).

 

ومع ذلك فما على المسلم إلا أن ينوي بترك المباح وفعله طاعةَ الله تعالى، فينقلب ذلك المباح إلى طاعة يرضي بها ربه، فطعامه وشرابه، وملبسه ومركبه، ورياضته وبيعه وشراؤه، وسفره وإقامته، وتمتعه بالمناظر الجميلة في البر والبحر والجبل والصحراء والغابات، واجتماعه مع أصدقائه ... كل ذلك يكون طاعة وعبادة لله، بسبب إرادته به وجه ربه.

بل إن الله تعالى ليأجر المسلم حتى على اللقمة يضعها في فم امرأته كما في حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه «... وإنك لن تنفق نفقة إلا أجرت عليها حتى اللقمة ترفعها إلى في امرأتك...» (صحيح البخاري: [6352]، ومسلم: [1628]).


وقال النووي رحمه الله: "وفيه أن المباح إذا قصد به وجه الله تعالى، صار طاعة ويثاب عليه، وقد نبه صلى الله عليه وسلم على هذا بقوله صلى الله عليه وسلم: «حتى اللقمة تجعلها فِي في امرأتك»، لأن زوجة الإنسان هي من أخص حظوظه الدنيوية وشهواته وملاذه المباحة" (شرح النووي على مسلم: [11-77])


وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "قال بن دقيق العيد فيه أن الثواب في الإنفاق مشروط بصحة النية وابتغاء وجه الله وهذا عسر إذا عارضه مقتضى الشهوة فإن ذلك لا يحصل الغرض من الثواب حتى يبتغي به وجه الله وسبق تخليص هذا المقصود مما يشوبه قال وقد يكون فيه دليل على أن الواجبات إذا أديت على قصد أداء الواجب ابتغاء وجه الله أثيب عليها فإن قوله حتى ما تجعل في في امرأتك لا تخصيص له بغير الواجب ولفظة حتى هنا تقتضي المبالغة في تحصيل هذا الأجر بالنسبة إلى المعنى كما يقال جاء الحاج حتى المشاة" (فتح الباري: [5-367]).


مشروع للإجازة الصيفية:

تنظيم الوقت والبدء بالأولويات، من أهم ما يحرص عليه العقلاء الذين يسوؤهم ضياع أي وقت من أعمارهم، ونحن هنا لا نقصد الكسالى والفارغين الذين يصرون على ضياع أوقاتهم في غير ما ينفعهم في الدنيا والآخرة، فهؤلاء يحتاجون أن يجاهدوا أنفسهم حتى يقنعوها بوجوب الحرص على العمر من حيث هو، وما مضى من نصوص القرآن وصحيح السنة كاف لمن عنده رغبة في استغلال وقته فيما يفيده.

وإنما نقصد هنا أولئك الذين تشتد رغبتهم ويقوى عزمهم على استغلال أوقاتهم فيما ينفعهم وينفع أسرهم وأمتهم، في دينهم وأخراهم، ولكن كثيرا منهم يعوزه تنظيم وقته وترتيب أولوياته، فتراه كثير القراءة كثير الحركة، ولكنه في قراءته وحركاته يخبط خبط عشواء.

تجده يأخذ أي كتاب بدون هدف معين ويبدأ يقلب صفحاته، ويقرأ أسطرا أو صفحات قليلة منه، ثم يقفز إلى موضوع آخر فيقلب بعض صفحاته، وقد يحرك لسان بالقراءة، وذهنه شارد لا يعي شيئا مما يقرأ... وهكذا يفعل في قراءة الجرائد والمجلات، وقد يفعل ذلك في سماع الأشرطة أو المذياع أو التلفاز... فيمضي الوقت وهو يقفز هنا وهناك، ولا يدري ما ذا يجري. وهكذا يفعل في كثير من حركاته لا تنظيم لها ولا ترتيب، وفي ذلك من ضياع العمر ومن الخسارة ما فيه.
 

ولست أزعم أنني سأحدد لأصحاب الإجازات مسافرين أو مقيمين أولوياتهم، فلكل شخص احتياجاته وضروراته، وهو الذي يعلم أولوياته، ولكنه يحتاج إلى تدبر أمره ومعرفة ما ينبغي تقديمه او تأخيره، فإذا وفقه الله تعالى لذلك ونظم وقته وبدأ بالأهم فالمهم، واستغل وقته استغلالا مناسبا، فستكون عاقبته النجاح بإذن الله.
 

وبعد هذه المقدمة أقترح لصاحب الإجازة هذا المشروع، مجرد اقتراح، فقد يكون لديه مشروع أشمل من هذا المشروع المقترح، يغنيه عن اقتراحي.

أولا: مشروع إيماني:
إن أهم ما يجب أن يحرص عليه المسلم، هو المحافظة على إيمانه، وتقويته، بالازدياد من تقوى ربه بالأعمال الصالحة، فرائضها ونوافلها، فذلك هو الذي يقوي إيمانه، ويقربه إلى ربه تعالى.

وإني أقترح عليك أيها المؤمن شابا وشابة وكبيرا وكبيرة، مقيما ومسافرا، الأمور الآتية:

الأمر الأول: قراءة ما تيسر لك من القرآن وأقله نصف جزء يوميا.

الأمر الثاني: قراءة تفسير بعض الآيات، مفتشا عن نفسك فيها، جاعلا لها مرآتك التي يتبين لك فيها حالة قلبك من صفاء وغيره، لتتمكن من صقله باستمرار.

ومن الآيات التي أنصح بقراءة تفسيرها:
1- سورة الفاتحة.
2- الآيات الأولى من سورة البقرة إلى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [21]. 

3- الآيات الأولى من سورة الأنفال إلى قوله تعالى: {وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} [8]. 

4- الآيات الأولى من سور المؤمنون إلى قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} [16].

5- الآيات الأخيرة من سورة الفرقان، من قوله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ} [63] إلى آخر السورة.

6- آيات في سورة الأحزاب، من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [9] إلى الآية رقم [27].

7- سورة الحجرات.
8- سورة العصر.
9- السور الثلاث في آخر القرآن الكريم

ويمكنك أن تختار ما يتيسر لك من كتب التفسير، كـ (تفسير القرآن العظيم لابن كثير)... ولو جمعت معه (في ظلال القرآن) قد يكون النفع أكثر. وإذا كان وقتك أضيق من أن يتسع لهذا الاقتراح، فلك أن تختار ما تقدر عليه...

الأمر الثالث: قراءة ما يتيسر لك من الأبواب الآتية من كتاب (رياض الصالحين)
1- مقدمة الإمام النووي للكتاب.
2- بالإخلاص وإحضار النية.
3- باب التوبة.
4- باب الصبر.
5- باب الصدق.
6- باب المراقبة.
7- باب اليقين والتوكل.
8- باب المبادرة إلى الخيرات...
9- باب المجاهدة.
10- باب في بيان كثرة طرق الخير.
11- باب في التعاون على البر والتقوى.
12- باب في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
13- باب بان تعظيم حرمات المسلمين...
14- باب الإصلاح بين الناس.
15- باب الوصية بالنساء.
16- باب وجوب أمر أهله وأولاده المميزين...
17- باب بر الوالدين وصلة الأرحام.
18- باب توقير العلماء والكبار وأهل الفضل...
19- باب إجراء أحكام الناس على الظاهر...
20- باب الخوف والرجاء.
21- باب ذكر الموت وقصر الأمل.
22- باب استحباب زيارة القبور.
23- باب الورع وترك الشبهات.
24- باب ترك الكبر والإعجاب.
25- باب العفو والإعراض عن الجاهلين.
26- باب الوالي العادل.
27- باب حفظ السر.
28- باب الوفاء بالعهد.
29- كتاب آداب النوم....
30- باب الاستئذان وآدابه.
31- باب آداب السير...
32- باب فضل قيام الليل.
33- كتاب العلم.
34- كتاب الأذكار - اختيار ما تيسر من هذا الكتاب -.
35- كتاب الأمور المنهي عنها - اختيار ما يرى القارئ حاجته إليه -...
36- باب بيان ما أعد الله تعالى للمؤمنين في الجنة.

الأمر الرابع: حضور بعض الحلقات العلمية التي يقوم بها بعض العلماء والدعاة إلى الله، لتزداد علما من أهله، فالمسلم في حاجة إلى شيخ يصقل قلبه بالإيمان، ويغذي عقله بالعلم النافع، وهو ماكان يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم مع أصحابه، والصحابة مع التابعين، وهكذا... ويمكن الاستفادة من بعض المعسكرات والمخيمات الصيفية التي تهتم بالتربية والتعليم والثقاة والرياضة وغيرها مما فيه فائدة.
 

الأمر الخامس: القيام بتعليم الجهال أمور دينهم، وبخاصة فروض العين التي يجهلها أو يجهل تفاصيلها كثير من الناس، مثل أركان الإيمان وأركان الإسلام، مثل قراءة الفاتحة وبعض السور القصار من القرآن الكريم، وصفة الوضوء وصفة الصلاة، وغير ذلك مما يجب على المسلم.
 

الأمر السادس: القيام بالدعوة إلى الله وبيان الواجبات للناس وحثهم على فعلها وعدم التقصير فيها، توضيح المحرمات وحثهم على تركها والابتعاد عنها، بل حثهم على نوافل الطاعات وترك مكروهاتها، ارتقاء بتقواهم إلى الأفضل لهم.



الأمر السابع: صلة الأرحام بزياراتهم ومواساتهم ماديا ومعنويا، وبخاصة الذين يسكنون بعيدا عن مقر عملك، لأن في الإجازة فرصة قد لا تتاح في غيرها... وإن كان ينبغي الحرص على صلتهم في غير الإجازات في حدود المقدرة.
 

الأمر الثامن: الصلح بين المتخاصمين من الأقارب وغيرهم، من الأزواج والآباء والأبناء والجيران، لما في ذلك من وقاية الأمة من التنازع والتقاطع والتدابر التي نهى الله تعالى عنها ورسوله، وفي ذلك من الأجر ما فيه، كما هو معروف من القرآن والسنة.
 

الأمر التاسع: تفقد أحوال المسلمين في داخل بلدك وخارجه، وإغاثة من يحتاج منهم إلى الإغاثة، من مسكن ومأكل وكساء ودواء وغيره، وإذا كنت غير قادر على ذلك بنفسك، فاجتهد في جمع التبرعات من المحسنين، وأوصل ما تتمكن منه إلى مستحقيه بنفسك إن أمكن وإلا عن طريق الجمعيات الخيرية المأمونة.

وإن من أجدر المسلمين بالعناية في هذا الباب، هم إخواننا الفلسطينيون الذين لا تخفى حاجاتهم على كل الناس في الأرض، فكم يتيم وأرملة ومعوق ومريض ومشرد بلا مأوى... فيجب على كل قادر أن يساعدهم بما يقدر عليه.

ولا تنس يا أخي المسلم نفسك بالإكثار من نوافل الطاعات صلاة وصياما وصدقة وغيرها...
 

ثانيا: مشروع رياضي يقوي به الإنسان جسمه، ويدفع عنه الكسل والترهل والأمراض الناشئة عن عدم الحركة، فربنا تعالى لم يخلق الإنسان ليأكل ويشرب ويقعد ويقف وينام ولا يتحرك، بل خلقه ليستعمل كل الأدوات التي ركبها فيه، عقلية كانت أو جسمية، فإذا عطل أي أداة من تلك الأدوات، فقد كفر نعمة الله عليه بتلك الأداة، والحركة أمر فطري تجده في جميع الحيوانات.

وإنك لترى الطفل الصغير يتحرك في بطن أمه، ثم إذا خرج من رحمها لا يفتأ متحركا يلتفت يمنة ويسرة ويحرك يديه ورجليه، وبحركتهما يتحرك جسمه كله.
 

وكلما زادت حركته طمع في المزيد منها، فتجده يتقلب على سريره يمينا ويسارا، ثم يبدأ يزحف على بطنه، كأنه يسبح في الماء، ثم يحاول الوقوف على قدميه، متكئا على أطراف السرير أو الجدار، ثم يتدرب على المشي، فيقوم ويسقط، حتى يتمكن من مغادرة غرفته إلى خارجها... وهكذا حتى يصبح كغيره ممن سبقوه في العمر، فيغادر المنزل ثم الحي ثم المدينة فالقرية فالبلد، وهي رياضة فطرية تقتضيها طبيعة الحياة.
 

فإذا تقدم بالإنسان العمر، وكثرت أعماله ومشاغله، بدأ جسمه يثقل، وإرادة الحركة عنده تضعف، وبخاصة من كان عمله يقتضي الجلوس في مكتب أو البقاء في مكان معين كالحراسة أو البيع والشراء في دكان أو معرض، وقد لا يخرج من منزله أو يعود إليه إلا على وسيلة نقل لا مجهود لجسمه في قيادتها – سواء كان راكبا أو سائقا - كالسيارة. فيترتب على ذلك حدوث أمراض وأوجاع، قد تحول بين الإنسان والنشاط المفيد له في معاشه ومعاده.

المسابقة على الأقدام
ودربهم صلى الله عليه وسلم على المسابقة على الأقدام وكان هو قدوتهم في ذلك.

قال ابن القيم رحمه الله: "فأما مسابقته بالأقدام، ففي مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود من حديث عائشة، قالت: سابقني النبي صلى الله عليه وسلم فسبقته، فلبثنا حتى إذا أرهقني اللحم سابقني فسبقني، فقال: «هذه بتلك» (صحيح الألباني؛ غاية المرام: 377)، وفي رواية أخرى أنهم كانوا في سفر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «تقدموا» ثم قال: «سابقيني» فسبقته ثم  «سابقيني» وسبقني، فقال: «هذه بتلك» (رواه أبو داوود؛ الجهاد: [2578]، ومسند أحمد: [6/39]).

وفي صحيح مسلم عن سلمة بن الأكوع قال: "بينما نحن نسير وكان رجل من الأنصار لا يسبق أبداً، فجعل يقول: ألا مسابق إلى المدينة؟ هل من مسابق؟ فقلت: أما تكرم كريماً وتهاب شريفاً؟ قال: لا، إلا أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: قلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي ذرني أسابق الرجل، فقال: «إن شئت»، فسبقته" (صحيح مسلم: 1807)، (الفروسية ص3).


وفائدة التدريب على المسابقة بالأقدام والعدو، ظهرت جلية عندما أخذت غطفان لقاح رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأدركهم سلمة بن الأكوع العداء الذي أكرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأردفه على ناقته.
قال سلمة: "خرجت قبل أن يؤذَّن بالأولى، وكانت لقاح رسول الله صلى الله عليه وسلم ترعى بذي قرد، قال فلقيني غلام لعبد الرحمن بن عوف، فقال: أُخِذت لقاح رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت من أخذها، قال غطفان.

 

قال فصرخت ثلاث صرخات يا صباحاه، فأسمعت ما بين لابتي المدينة، ثم اندفعت على وجهي حتى أدركتهم، وقد أخذوا يستقون من الماء، فجعلت أرميهم بنبلي وكنت رامياً وأقول:
أنا ابن الأكوع *** اليوم يوم الرضع

وأرتجز حتى استنقذت اللقاح منهم واستلبت، منهم ثلاثين بردة. قال: وجاء النبي صلى الله عليه وسلم والناس فقلت: يا نبي الله قد حميت القوم الماء وهم عطاش، فابعث إليهم الساعة فقال: «يا بن الأكوع ملكت فأسجح»، قال: ثم رجعنا ويردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم على ناقته، حتى دخلنا المدينة" (البخاري: [4194]، فتح الباري: [7/460]، ومسلم [3/1432])، ومعنى "فأسجح" قال النووي في شرحه لمسلم [12/174]: "معناه فأحسن وارفق والسجاحة السهولة، أي لا تأخذ بالشدة، بل ارفق، فقد حصلت النكابة في العدو].


التدريب على المصارعة
ودربهم صلى الله عليه وسلم على المصارعة، كما صارع صلى الله عليه وسلم ركانة بن عبد يزيد. (سنن الترمذي: [1784]، وسنن أبي داود: [4078]، والمستدرك على الصحيحين: [5902])، وذكره ابن القيم في (الفروسية ص3).
 

وجعل صلى الله عليه وسلم، السبق في المصارعة مسوغاً للإذن بالانخراط في الجيش الإسلامي لصغار السن.
قال ابن هشام: "وأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ - أي يوم أحد - سمرة بن جندب، ورافع بن خديج، وهما ابنا خمس عشرة سنة، وكان قد ردَّهما، فقيل له: يا رسول الله: إن رافعا رامٍ، فأجازه، فلما أجاز رافعاً قيل له يا رسول الله فإن سمرة يصرع رافعاً، فأجازه" (السيرة النبوية: [2/66]).

ثالثا: كل نفس بما كسبت رهينة
لا يستغني كلٌّ منا عن التوجيه والنصيحة، والجليس الصالح، و اتخاذ من يكون له قدوة حسنة يدله على الخير ويحضه على فعله، ويبين له الشر ويحضه على تركه، وبخاصة العلماء العاملين الناصحين الذين يصقلوننا بالإيمان العميق والعبادة الشاملة، والأعمال الصالحة، والأخلاق الحسنة الفاضلة، و العلم النافع.

ولكن العبء الأكبر في صلاحنا وإصلاحنا يبقى السعي إليهما واتخاذ الوسائل إلى تحقيقهما على كواهلنا، لأن كل إنسان مسئول مسئولية فردية كاملة - بعد بلوغه سن الرشد والتكليف - عن نفسه، سواء في حق نفسه الذي كلفه الله تعالى القيام به، أو حق ربه الذي فصل منهجه في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أو حقوق المخلوقين غيره، من أقاربه وجيرانه، وكل من يتعامل معه في حياته.

ويمكن أن يضرب لذلك مثالا شاملا:
يجب على ولي أمر الطفل - من أب وأم وأقارب - أن يقوم على مصالحه المادية والمعنوية، في طفولته وصباه، تغذية وتنظيفا وتعليما وعبادة، وسلوكا ودعوة إرشادا إلى كل نافع، وتحذيرا من كل ضار.
 

ثم تأتي مسئولية المعلم في المدرسة أو الجامعة، أو المسجد وحلقة العلم فيه أو في غيره، وهو في كل تلك المؤسسات يتلقى مزيدا من العلم والمعرفة والتوجيه والنصح، ويأخذ حظه من كل علم من العلوم دينية كانت أو دنيوية (معلوم أن العلوم الدينية والدنيوية في الإسلام يجمعها هدف عمارة الأرض التي استخلف الله فيها الإنسان، وهي بذلك تكون بالنية الخالصة مثابا عليها، كما هو معروف).

وتنتهي مهمة ولي الأمر والمعلمون عند قيامهم بواجب التعليم والتوجيه لهذا الإنسان - إلا فيما يتعلق بالنصح عند الحاجة - ويتحمل هو بعد ذلك القيام بما هو مكلفٌ القيامَ به.

فهو مسئول عن أداء حقوق نفسه وحقوق ربه وحقوق غيره من المخلوقات، بشرا كانوا او حيوانا، أو غير ذلك من وظائفه، وله ثواب عمله، وعليه إثمه، ولا يتحمل أحد عنه ما لزمه القيام به.
 

فولي أمره علمه وجوب أدائه الصلوات الخمس في أوقاتها، وتابعه في ذلك عندما كان مسئولا عنه فيها، ولكنه أصبح بعد أن بلغ رشده وأصبح مكلفا أداء تلك الصلوات، مسئولا مسئولية مباشرة عن أداء تلك الصلوات في أوقاتها، فعليه يقوم بها، ولا ينتظر من يأمره بها عند وقت كل صلاة، فالله تعالى هو الرقيب عليه، ولا يمكن أن يراقبه أحد في كل أوقاته غير ربه، وهكذا صيامه وزكاته وحجه إنفاقه على أهله.
 

وطبيبه علمه الطب في أي تخصص من فروعه، ودربه على ذلك تدريبا كاملا، وحمله مسئولية قيامه بهذه المهنة قياما كافيا بصدق وأمانة، فقد أصبح طبيبا مسئولا أمام الله تعالى عن حقوق مرضاه، فهو المسئول مسئولية فردية عن الكشف على مرضاه وتحليل مرضهم، ووصف الدواء لهم، وليس على أستاذه الطبيب مرافقته في عيادته، والإشراف على مرضاه، وتحمل الآثار الناتجة عن نشاطه، فله صواب عمله، وعليه أخطاؤه.
 

وهكذا من علمه أستاذه أي علم من العلوم، كالاقتصاد والسياسة والإعلام، والتربية والتعليم والرياضة بأنواعها ومنها السباحة، والشئون العسكرية، وقيادة المراكب كالطائرة والسيارة والسفينة، والمركبات الفضائية، والتجارة والزراعة والنجارة والخبازة والخياطة، يصبح مسئولا هو عن مزاولة وظيفته، وليس على أستاذه الذي بذل جهده في تعليمه مسئولية في ذلك، بل لأستاذه فضله وأجره عند ربه، وعلى التلميذ فيما أساء فيه وزره.

وإذا رجع المسلم إلى القرآن والسنة، وجد هذا المعنى (مسئولية كل إنسان عن نفسه) بارزا فيهما، قد دلت نصوص كثيرة من الكتاب والسنة.

فمن الأمثلة القرآنية: قوله تعالى: {وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [الأنعام من الأية:164].

قال القرطبي في تفسير الآية: "قوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} أي لا تحمل حاملة ثقل أخرى، أي لا تؤخذ نفس بذنب غيرها، بل كل نفس مأخوذ بجرمها ومعاقبة بإثمها..." (الجامع لأحكام القرآن).


وقال ابن كثير: "ثم قال {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} أي لا يحصل أحد ذنب أحد ولا يجني جان إلا على نفسه، كما قال تعالى: {وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ} [فاطر:18].

 



ولا منافاة بين هذا وبين قوله: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت من الأية:13] وقوله: {وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [النحل من الأية:25] فإن الدعاة عليهم إثم ضلالتهم في أنفسهم، وإثم آخر بسبب ما أضلوا، من غير أن ينقص من أوزار أولئك ولا يحمل عنهم شيئا، وهذا من عدل الله ورحمته بعباده" (تفسير القرآن العظيم).


وقوله تعالى: {وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء:111].

 

قال ابن كثير في تفسير الآية: "وقوله {وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ} الآية كقوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} الآية. يعني أنه لا يغني أحد عن أحد، وإنما على كل نفس ما عملت لا يحمل عنها لغيرها" (تفسير القرآن العظيم).


وقوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [فاطر:18].


قال ابن كثير في تفسير الآية: "وقوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} أي يوم القيامة {وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا} أي وإن تدع نفس مثقلة بأوزارها، إلى أن تساعد على حملها ما عليها من الأوزار أو بعضه لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى أي وإن كان قريبا إليها حتى ولو كان أباها أو أبنها كل مشغول بنفسه وحاله..." (تفسير القرآن العظيم).


وقوله تعالى: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى . وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى . وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى . ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى} [النجم:38-41].


قال ابن كثير في تفسير الآية: "ثم شرع تعالى يبين ما كان أوحاه في صحف إبراهيم وموسى فقال: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} أي كل نفس ظلمت نفسها بكفر أو شيء من الذنوب، فإنما عليها وزرها لا يحمله عنها أحد، كما قال: {وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى}، {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} أي كما لا يحمل عليه وزر غيره، كذلك لا يحصل من الأجر إلا ما كسب هو لنفسه" (تفسر القرآن العظيم).


وقوله تعالى:{عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} [التكوير:14]، وقوله تعالى: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} [الانفطار:5]. و{نَفْسٌ} في الآيتين تفيد العموم، وإن كانت نكرة في سياق الإثبات، وهذا ما أشار إليه المفسرون، فقد قال ابن كثير: "وقوله تعالى: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} هذا هو الجواب، أي إذا وقعت هذه الأمور حينئذ تعلم كل نفس ما عملت وأحضر ذلك، كما قال تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} [آل عمران من الأية:30]، 

 

وقال البغوي في تفسيره: "علمت عند ذلك كل نفس ما أحضرت من خير أو شر"، وقال البيضاوي في تفسيره: "ونفس في معنى العموم كقولهم تمرة خير من جرادة".

 

ومن أمثلة السنة:
حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه، يقول كنت عند رسول الله فجاءه رجلان أحدهما يشكو العيلة والآخر يشكو قطع السبيل فقال رسول الله: «ثم ليقفن أحدكم بين يدي الله ليس بينه وبينه حجاب ولا ترجمان يترجم له، ثم ليقولن له: ألم أوتك مالا؟ فليقولن بلى. ثم ليقولن ألم أرسل إليك رسولا؟ فليقولن بلى. فينظر عن يمينه فلا يرى إلا النار، ثم ينظر عن شماله فلا يرى إلا النار» (البخاري: [1347]، ومسلم: [1016]),


ومن أمثلتها حديث أبي هريرة رضي الله عنه: قال: قال رسول الله حين أنزل عليه {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214] «يا معشر قريش اشتروا أنفسكم من الله، لا أغني عنكم من الله شيئا، يا بني عبد المطلب لا أغني عنكم من الله شيئا، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئا، يا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئا، يا فاطمة بنت رسول الله سليني بما شئت لا أغني عنك من الله شيئا» (صحيح البخاري: [3336]، وصحيح مسلم: [206]).


فقد حمل الرسول صلى الله عليه وسلم - بعد أن بلغ رسالة ربه - كل فئة وكل شخص، حتى أقرب المقربين إليه، مسئوليتهم عن أنفسهم، وبين لهم أن قرابتهم له لا تفيدهم شيئا، إذا لم يستجيبوا لدعوة الله.

وكان الرسول صلى الله عليه وسلم، يوصي أمراءه المجاهدين أو الدعاة، بما يجب أن يقوموا به، ثم ينطلق كل منهم مؤديا ما أمره به نبيه.


ولنذكر لذلك مثالين:
المثال الأول يتعلق بأمراء الجهاد ومن معهم من المقاتلين:
ففي حديث بريد رضي الله عنه، قال: كان رسول الله إذا أمَّرَ أميرًا على جيشٍ أو سريةٍ ، أوصاه في خاصتِه بتقوى اللهِ ومن معه من المسلمين خيرًا . ثم قال: «اغزوا باسمِ اللهِ في سبيلِ اللهِ . قاتِلوا من كفر باللهِ. اغزوا ولا تَغُلُّوا ولا تغدِروا ولا تُمَثِّلوا ولا تقتلوا وليدًا. وإذا لقِيتَ عدوَّك من المشركين فادعُهم إلى ثلاثِ خصالٍ (أو خلالٍ). فأيتهنَّ ما أجابوك فاقبلْ منهم وكفَّ عنهم. ثم ادعُهم إلى الإسلامِ. فإن أجابوك فاقبلْ منهم وكفَّ عنهم. ثم ادعُهم إلى التحوُّلِ من دارِهم إلى دارِ المهاجرين. وأخبِرهم أنهم، إن فعلوا ذلك، فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين. فإن أبَوا أن يتحوَّلوا منها، فأخبِرْهم أنهم يكونون كأعرابِ المسلمين. يجري عليهم حكمُ اللهِ الذي يجري على المُؤمنين. ولا يكون لهم في الغنيمةِ والفيءِ شيءٌ. إلا أن يجاهِدوا مع المسلمين. فإن هم أبَوا فسَلْهم الجزيةَ. فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكفَّ عنهم. فإن هم أبوا فاستعِنْ بالله وقاتِلْهم. وإذا حاصرت أهلَ حصنٍ، فأرادوك أن تجعل لهم ذمَّةَ اللهِ وذِمَّةَ نبيِّه. فلا تجعلْ لهم ذمَّةَ اللهِ وذمَّةَ نبيِّه. ولكن اجعلْ لهم ذِمَّتَك وذمَّةَ أصحابِك. فإنكم، أن تُخفِروا ذِمَمَكم وذِمَمَ أصحابِكم، أهونُ من أن تُخفِروا ذِمَّةَ اللهِ وذِمَّةَ رسولِه. وإذا حاصرتَ أهلَ حِصنٍ، فأرادوك أن تنزلَهم على حكمِ اللهِ، فلا تنزلْهم على حكمِ اللهِ. ولكن أَنزِلْهم على حكمِك. فإنك لا تدري أُتصيبُ حكمَ اللهِ فيهم أم لا» (صحيح مسلم: [1731]).


يؤخذ من هذا الحديث، أن الرسول صلى الله عليه وسلم، كان يحرص على استقامة أمرائه في أنفسهم، ولهذا كان يبدأ وصيته لهم بتقوى الله. كما يحرص على عناية الأمراء بجيوشهم الذين تولوا إمارتهم، بأن يعاملوهم معاملة حسنة تحقق لهم الخير، لما في ذلك من الوئام والود والمحبة التي تجعل الجيش ينقاد لأميره انقياد رضا واطمئنان، وليس انقياد قسر وإكراه، وهذا جدير بأن يحقق الله تعالى لهم النصر على أعدائهم.

ثم يحرص صلى الله عليه وسلم على أن يكون هدف المجاهدين، الجهاد في سبيل الله، ولهذا يقول لهم: «اغزوا باسم الله» وليس باسم آخر من القوميات والعصبيات والأموال وغيرها...


ثم حذرهم صلى الله عليه وسلم من المعاصي التي لا يرجى لأهلها نصر على أعدائهم، فينهاهم عن الغلول والغدر والاعتداء على غير المقاتلين، من الأعداء.

ثم يبين لهم منهج غزوهم، ويبين لهم أنهم قد يجتهدون ويخطئون في اجتهادهم، فعليهم ألا ينسبوا اجتهادهم إلى الله تعالى، بل إلى أنفسهم، حتى يعلم غير المسلمين أن الإسلام بريء من خطئهم.

المثال الثاني يتعلق بالدعاة إلى الله:
فقد كان صلى الله عليه وسلم، يوصي أصحابه الذين يبعثهم للدعوة إلى الله، بالتيسير على المدعوين وتبشيرهم بما يسرهم في استجابتهم لهذه الدعوة، وينهاهم عن الأسباب المنفرة للناس عن دعوتهن.

كما في حديث أبي بردة قال: سمعت أبي قال: بعث النبي أبي ومعاذ بن جبل إلى اليمن، فقال: «يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا وتطاوعا» (البخاري: [6751]، ومسلم: [1733]).


كما كان ينبه من أرسله للدعوة إلى الله، أن يستعد للقوم الذين يدعوهم، بمعرفة عقائدهم وثقافتهم، حتى يكون على بصيرة بأمرهم، فيبني خطابه لهم على أساس تلك المعرفة، ويأمره أن يتدرج في دعوتهم فيدعوهم إلى الأهم فالمهم، وأن يرفق بهم فيما يأخذه منهم، ويبتعد عن ظلمهم الذي يعرضه لسخطهم عليه ودعوتهم عليه، وأن دعوة المظلوم مستجابة.

فقد روى ابن عباس رضي الله عنه، أن معاذا رضي الله عنه، قال: "بعثني رسول الله قال: «إنك تأتي قوما من أهل الكتاب، فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله. فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة. فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم، فإن هم أطاعوا لذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب» (صحيح مسلم: [19]).


فليع هذا الدرس كل مسلم، وبخاصة طلبة العلم والدعاة إلى الله، الذين يجب أن يهتموا بأنفسهم، بعد أن يصقلهم علماؤهم وأساتذتهم بالعلم والتزكية الربانية، وتوعيتهم بما ينفعهم وما يضرهم، فيحرصوا على حفظ ما تعلموه وفقهه والعمل به، ويتنبهوا لما زودوهم به من نصائح تصون دعوتهم من النكسات، وما أرشدوهم إليه من وسائل تحمي مسيرتهم، من تسلط أعداء دعوتهم عليهم، وعليهم أن يستحضروا مسئوليتهم أمام ربهم، فلا ينتظروا دائما التذكير و الإشراف والمتابعة من قِبَلِ غيرهم لهم - وإن كان التذكير والمتابعة مطلوبة -.

وعليهم كذلك أن يسلكوا مسلك علمائهم وأساتذتهم في صقل غيرهم بالعلم والتزكية الربانية، ليستمر انتشار العلم وتستمر تزكية الأجيال وتقواهم لربهم تعالى، فينقل كل جيل حقائق الإسلام والعمل بها، إلى الجيل الذي يليه، كما نقل جيل الصحابة ذلك إلى جيل التابعين، ونقل جيل التابعين ذلك إلى جيل أتباعهم، وهكذا حتى وصل ذلك إلينا.

شبهة مدفوعة:
قد يقال: ما سبق ظاهر أن الإنسان مسئول عن نفسه، فلا يجزى إلا على ما اكتسبه، من خير أو شر، ولكن بعض الآيات والأحاديث دلت على أنه يحمل أثقالا أخرى مع أثقاله، ويحمل ذنوبا من ذنوب من أضله.

كما قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ . وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [العنكبوت:12-13].


وقال تعالى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل:25].


والجواب أن هؤلاء إنما حملوا ذنوبهم التي باشروها بأنفسهم، وذنوبهم على دعوة غيرهم إلى الكفر بالله ومعصيته، كما سبق قريبا في قول ابن كثير: "ولا منافاة بين هذا وبين قوله: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ} وقوله: {وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} فإن الدعاة عليهم إثم ضلالتهم في أنفسهم، وإثم آخر بسبب ما أضلوا، من غير أن ينقص من أوزار أولئك ولا يحمل عنهم شيئا، وهذا من عدل الله ورحمته بعباده"


وكذلك ينتفع المسلم بعمل الخير الذي لا تنقطع فائدته بعد مماته، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله قال: «إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة، إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» (صحيح مسلم: [1631]).


فكن يا أخي المؤمن محافظا على عبادة ربك في كل حين، في إيمانك، وفي تعلمك وتعليمك، وفي صلاتك وصيامك وحجك وعمرتك وذكرك، وفي قراءة كتاب ربك، وفي صلاتك على نبيك، وفي دعوتك إلى دينك، وفي أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر، وفي رياضتك البدنية، وفي حلك وترحالك، وفي كل عمل مباح تأتيه أو تدعه، فقط تحتاج إلى أن تنوي بذلك وجه ربك. فاحرص على هذه النية لتكثر حسناتك.

{وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99].                                                                     

{قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162-163].