كيف تكون ربَّانيًّا؟
سمى الله العلماء بكتاب ربهم والمتدارسين له فيما بينهم، والذين يُعَلّمونه للناس إيمانا واحتسابا.. سمّاهم ربانيين، ولا شك يحتاجون إلى الصبر والمصابرة لكي يبلغوا هذه الدرجة التي فاقت الأحبار والرهبان، حيث بدأ الله بهم: {لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة: 63]. فلكي يكونوا ربانيين فهم يحتاجون إلى أنواع من الصبر: الصبر على التعلم، والصبر على التعليم، والصبر على القدوة والدعوة بالمثال..
كيف تكون ربَّانيًّا؟
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
قال الله تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران:79]. قال الجريري رحمه الله-:{كونوا ربانيين}، أي: سمَّاعين من الله، قائلين بالله. وقال الغزالي رحمه الله: أي حلماء علماء. ويُرْوى عن ابن عباس قوله في الربانيين: "الذين يُعلمون الناس صغار العلم قبل كِباره".
فتحصَّل من مجموعها أن الربانية: علم وتعليم وعمل
فقد سمى الله العلماء بكتاب ربهم والمتدارسين له فيما بينهم، والذين يُعَلّمونه للناس إيمانا واحتسابا.. سمّاهم ربانيين، ولا شك يحتاجون إلى الصبر والمصابرة لكي يبلغوا هذه الدرجة التي فاقت الأحبار والرهبان، حيث بدأ الله بهم: {لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة: 63].
فلكي يكونوا ربانيين فهم يحتاجون إلى أنواع من الصبر:
1- الصبر في تعلمه وطلبه، ومعلوم أن العلم لا يعطيك بعضَه حتى تعطيه كلّك، وحتى لا يكون ممن أعرض عن آيات الله بعد أن وضعها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين يديه، وقرَّبها إلى متناوله العلماءُ الربانيون بالشرح والتفسير والبيان، وبالقدوة في التطبيق، وقد قال الله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا} [الكهف: 57].
وقد عدَّ بعض العلماء ذلك من نواقض الإسلام إذا كان إعراضًا كليًّا عن تعلم الآيات والذكر، إذ كيف يَعبد اللهَ ولمَّا يعرفه، أو كيف يستجيب للإسلام ولمَّا يتعلمه؟! وكيف يحب نبيه ولمّا يتعرف عليه؟! بل كيف يجيب على أسئلة المَلَكَيْن الخطيرة في أول منزلة من منازل الآخرة: من ربك؟ ما دينك، ما تقول في هذا الرجل الذي بُعِثَ فيكم؟: «فَيَقُولَانِ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: رَبِّيَ اللَّهُ، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا دِينُكَ؟ فَيَقُولُ: دِينِيَ الْإِسْلَامُ، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ " قَالَ: فَيَقُولُ: هُوَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَقُولَانِ: وَمَا يُدْرِيكَ؟ فَيَقُولُ: قَرَأْتُ كِتَابَ اللَّهِ فَآمَنْتُ بِهِ وَصَدَّقْتُ فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم: 27]» أما الكافر أو المنافق، فجوابه: هاه هاه، لا أدري! (انظر الحديث مختصرًا في صحيح مسلم، برقم: [2871]، ومطوَّلًا في سنن أبي داوود، برقم: [4753]) نسأل الله تعالى أن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
وفي ترك التعلم من الإثم والذم واللوم والمنقصة بقدر ما أنقص من جهد في تعلمه..
2- ويحتاج إلى الصبر في تعليمه وبذله، حتى لا يقع تحت طائلة قول الله- تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة: 159]، وقوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ، ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [آل عمران: 174-176].
والصبر على ترويض النفوس للعمل بمقتضى ما علموا حتى لا يكون حجة عليهم يوم القيامة، وصَبْرِها على اتِّباع العلم بالعمل؛ وحتى لا يكونوا ممن تندلق أقتابهم يدورون حولها كما تدور الحُمُر؛ كما جاء عن النبي-صلى الله عليه وسلم: «يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه في النار فيدور كما يدور الحمار برحاه فيجتمع أهل النار عليه فيقولون أي فلان ما شأنك أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟! قال: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه!» (متفق عليه)، وقبل ذلك قول الله تعالى: {ياأيها أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف:2- 3]، وقوله تعالى: أَ {تَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44].
3- وتحتاج إلى الصبر الأعظم في مجاهدة النفس على الإخلاص في كل ذلك، فإن الربانيين قالوا: "في إخلاص ساعة نجاة الأبد"، وقالوا: "العلم بذر، والعمل زرع، وماؤه الإخلاص"، وقال الجنيد: "إن لله عبادًا عقلوا، فلما عقلوا عملوا، فلما عملوا أخلصوا"، وقد سُئِل سهل بن عبد الله التستري رحمه الله تعالى: "أي شيء أشد على النفس؟ فقال: الإخلاص؛ لأنه ليس لها فيه نصيب".
وعليه أن يبقى طلب الإخلاص هاجسَ نفسه وقبلة قلبه، ومتى حدّثته نفسه أنه أخلص؛ فقد احتاج إخلاصه إلى الإخلاص، وكما قال أبو يعقوب السوسي رحمه الله: "متى شهدوا في إخلاصهم الاخلاص؛ احتاج إخلاصهم إلى إخلاص!". فكيف لا يحتاج ذلك إلى صبر ومصابرة .. صبر الربانيين؟! ولا شك أنه هذه أنواع من المجاهدة، بينك وبين الربَّانية، وقد عدّ الإمام ابن القيم-رحمه الله- مراتب جهاد النفس أربعاً، فقال :
إحداها: أن يجاهدها على تعلم الهدى ودين الحق الذي لا فلاح لها ولا سعادة في معاشها ومعادها إلا به ومتى فاتها علمُه شقيت في الدارين .
الثانية أن يجاهدها على العمل به بعد علمه وإلا فمجرد العلم بلا عمل إن لم يضرها لم ينفعها .
الثالثة أن يجاهدها على الدعوة إليه وتعليمه من لا يعلمه وإلا كان من الذين يكتمون ما أنزل الله من الهدى والبينات ولا ينفعه علمه ولا ينجيه من عذاب الله .
الرابعة أن يجاهدها على الصبر على مشاق الدعوة إلى الله وأذى الخلق ويتحمل ذلك كله لله .
فإذا استكمل هذه المراتب الأربع صار من الربانيين فإن السلف مجمعون على أن العالم لا يستحق أن يسمى ربانيا حتى يعرف الحق ويعمل به ويعلمه فمن علم وعمل وعلم فذاك يدعى عظيما في ملكوت السماوات. "زاد المعاد: 3/ 5"
ومن الربانية الصبر على المجاهدة بهذا القرآن، ببيان الحق، ونصرة الحق وأهله، وكشف خطط الأعداء، وأعوانهم، واستبانة سبيل المجرمين على ضوء هذا القرآن، كما قال تعالى: {فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان: 52].
وقبل الختام نلفت النظر إلى أن الآية قدمت تعليم الكتاب قبل دراسته، {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ}، فكيف يكون التعليم قبل التعلم؟!
ونقول: لا يمكن أن يكون التعليم قبل التعلم؛ ففاقد الشيء لا يعطيه، وإنما الغرض والله أعلم أن التعلُّم ليس هدفًا في ذاته، وإنما هو وسيلة إلى ما بعده، ومنها، بل وعلى رأسها تعليمه والعمل به، وتبليغه قولا وعملا، وبيانه نظريًّا وتطبيقيًّا. ولن يكون ربَّانيًّا من ظلَّ طول حياته في بيته أو مكتبه أو مكتبته يتعلم، ويُعلم من (يرث) عليه كيف يُعلم، دون أن يتحول هذا التعلم والتعليم إلى جهاد بهذا القرآن في الواقع، يجابه الباطل، في كل معركة بما يناسبه، فإنما مزية العلم أن يكون" فقه عمل وحركة" لا أن يكون فقه "قرطاس وأوراق".
ومقتضى الأمر الرباني {كونوا ربانيين}، أن الربانية واجبة، أي يجب علينا أن نكون ربّانيين ما استطعنا إلى ذلك سبيلًا، ويجب علينا أن نتقي الله ما نستطيع لكي نكون ربانيين.، وليس الأمر نفلًا تفعله حين يروق لك، وتعتزله حين لا تريد، كما شاع عن بعض الناس اليوم، وظاهرهم من طلاب العلم.
فاللهم أكثر من الربانيين في أمة سيد الربانيين-صلى الله عليه وسلم-، واجعلنا اللهم من الربانيين.
أبو محمد بن عبد الله
باحث وكاتب شرعي ماجستير في الدراسات الإسلامية من كلية الإمام الأوزاعي/ بيروت يحضر الدكتوراه بها كذلك. أستاذ مدرس، ويتابع قضايا الأمة، ويعمل على تنوير المسيرة وتصحيح المفاهيم، على منهج وسطي غير متطرف ولا متميع.
- التصنيف:
- المصدر: