قراءة في الفساد

منذ 2014-06-15

لا يوجد الفساد قائمًا بذاته فهناك دومًا سياق ثقافي وسياسي يُتيح له التعايش مع النظام القائم، وينبري للتورية على تجاوزاته عند حدوث رد فعل اجتماعي. ثم هناك بذور تنتعش في مناخ مؤسسي تسيطر عليه القيم المادية، ويعاد فيه توجيه المباديء التي تنهض عليها المصلحة العامة..

يقودنا بيير لاكوم عبر ردهات المحاكم الأوروبية وسجلات الملاحقات القضائية - إلى الإقرار بأن موقفنا إزاء الفساد يفرض اليوم مراجعة وتحيينا للقناعات والمباديء التي تُشكِّل خطوطه العريضة. ليس الفساد ورمًا يخرب التماسك الاجتماعي بقدر ما هو انحراف وظيفي، يخدم بشكلٍ أو بآخر دورة الحياة الاقتصادية والسياسية! إننا أمام سلوك توافقي يتَّحِد بشكلٍ وثيق مع النظام القائم ويتكيء على آلياته وقيمه ذاتها.

أسهم التداول الإعلامي لقضايا الفساد في إضفاء مزيد من الغموض على المصطلح ودلالاته في الحقلين السياسي والاقتصادي.

هل يتعلَّق الأمر بتصرُّفٍ خارج إطار الشرعية تسهُل إدانته وتحريك آليات معالجته؟ من المؤسف القول بأن هذه المقاربة تبسيطية وغير واقعية، لأن لكل ثقافة مجتمعية نسقها الخاص لإضفاء الشرعية على بعض أشكال الفساد التي تحقق النفع ولا تلحق ضررًا ملحوظًا بالقيم الأساسية! وهنا تنتصب السياسة كفضاء رحب للكشف عن المفارقة المحيرة التي تحكم سلوك المواطنين إزاء النخب السياسية المتورِّطة في ملفات الفساد.

فبراعة السياسي في تبديد عوامل الاتهام وتحويل الفضيحة إلى مشكلة، يغذيها رد فعل اجتماعي هش وظرفي، مما يتيح لهذه النخب فرصة العودة إلى مسرح السياسة. ألم يتمكن سيلفيو برلسكوني من استعادة موقعه في المشهد السياسي الإيطالي رغم إدانته بالتهرب الضريبي والتمويل غير المشروع للأحزاب، عقب الهزة السياسية القوية التي أحدثتها عملية "الأيدي النظيفة" مطلع التسعينات؟ من المؤلم إذن الاعتراف بأن تراجع التأييد الشعبي عند تفجر الفضائح لا يعني بالضرورة فقدان الثقة العامة!

إن الفساد بمفهومه الواسع يشير -حسب بيير لا كوم- دائمًا إلى نوعين من الانحراف: أولًا، سلوك صاحب سلطة يستخدم وضعه القوي في إطار وظائفه العامة أو الخاصة، لتجاوز القواعد المقرَّرة إما لصالحه أو لحساب شخص آخر أو منظمة أخرى. ويأتي بعد ذلك مفهوم أوسع يشير إلى كل تحريف أو تحايل على قاعدة مهنية "الصدق التعاقدي" أو مبدأ أخلاقي "المساواة في المعاملة" (بيير لاكوم: الفساد، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 2009م، ص: [32]).

ورغم ما يبدو من تجاور على مستوى الدلالة بين هذين النوعين إلا أن الفرق بينهما يكمن في آلية المعالجة. فإذا كان بالإمكان إخضاع النوع الأول للمسطرة القانونية وتفعيل العقوبات في حق مرتكبيه، فإن النوع الثاني لا يزال قابلًا للمناقشة على المستوى الاجتماعي بالنظر إلى الحاجة إليه في ظل متغيِّرات اقتصادية ومالية تحكمها المصالح لا المباديء! بيد أن المُلفِت للنظر هواصطفاف أخطر أشكال الفساد تحت هذا النوع. أي تلك الممارسات التي تتحوَّل مادتها إلى طاقة -بحسب تعبيرعالِم السياسة الفرنسي إيف ميني- حيث تعتمِد على نظام للتبادل يتم داخل إطار الشرعية، كمنح التراخيص عن طريق عقود لدراسة المشاريع، أو التلاعب بالقيمة الحقيقية للفواتير.

هل الفساد عامل خارجي بالنسبة للعملية السياسية والاقتصادية أم أنه جزء من بنيتها وعلاقاتها الداخلية؟

لا يبدو السؤال اليوم بنفس الحدة التي حملت كلًا من "هنري. ج. فورد" و"لنكولن ستيفنس" على إجراء كم هائل من التحقيقات ونشرها تحت عنوان (عار المدن).

فانضغاط المحلي تحت وطأة الدولي بفعل العولمة أفرز حكومات أقل فاعلية وتأثيرًا أمام الشركات، ومهَّد لتغلغل قيم السوق في النظم السياسية والإدارية، وتحريضها على انتهاك القانون الأخلاقي عند تعارضه مع المصالح. إن السؤال الذي يفرض وجاهته في ظل سعي واضح لـ"تبييض" الفساد والتطبيع مع جرائم "ذوي الياقات البيضاء" هو قدرة الحركة الاحتجاجية العابرة للقارات، والتي بدأت بالتشكل والبروز بعد عجز الحكومات عن الحسم في القضايا الاجتماعية المهمة، على رسم خارطة طريق لفك الشيفرة السوداء للفساد.

فهؤلاء المحتجون -برأي نورينا هيرتس- يؤمنون بأن النظام الدولي الحالي يجامل الشركات المتعدِّدة الجنسية على حساب الفوضى الأهلية، وأن تصدي الحكومات المنتخبة للفساد وأوجه القصور في المجال الاجتماعي ليس سوى عملية استعراضية تُسهِم فيها الشركات للالتفاف على الكلفة الاجتماعية للفساد المتزايد.

إنهم -من خلال المنظمات غير الحكومية- يتكاتفون للوقوف في وجه حكومات لا تستحق الثقة، وشركات تغامر بالطعام والبيئة والعملية الديموقراطية (نورينا هيرتس: السيطرة الصامتة؛ سلسلة عالم المعرفة، عدد: [336]، الكويت 2007م، ص: [224] وما بعدها).

لا يوجد الفساد قائمًا بذاته فهناك دومًا سياق ثقافي وسياسي يُتيح له التعايش مع النظام القائم، وينبري للتورية على تجاوزاته عند حدوث رد فعل اجتماعي. ثم هناك بذور تنتعش في مناخ مؤسسي تسيطر عليه القيم المادية، ويعاد فيه توجيه المباديء التي تنهض عليها المصلحة العامة.

وحين يتماهى الفساد مع النظام القائم يتحوَّل إلى آلية لأسر الفاسدين وتقييدهم. وتُسهِم البيروقراطية والمساطر المعقدة في الإبقاء على مشاريع الإصلاح المؤسسي وتحديث الجهاز الإداري وملفات التتبع الجنائي حبيسة الأدراج، مما يخلق الفرص الهائلة للفساد.

إن أي نظام -يقول إدغار موران- متى أصبح عاجزًا عن معالجة مشكلاته الحيوية، إما أن يتفكَّك، وإما أن يكون قادرًا في تفكُّكه نفسه على أن يتحوَّل إلى نظام مُتحوَّل شديد الغنى وقادر على معالجة مشكلاته (إدغار موران: هل نسير إلى الهاوية؟ أفريقيا الشرق، الدارالبيضاء 2012م، ص: [16]).

وإذا كان السباق الحضاري قد أدخل المجتمعات التقليدية في أزمة، فلأنها مطالبة أولًا بتقويض بِنى تقليدية بالية، والحد من تأثير الفساد على صياغة السياسات العامة. إنه رهانٌ وثيق الصلة باستعادة المواطنة التي تجعل الفرد جزءًا من النظام، لا عبئًا عليه!
 

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام

حميد بن خيبش

كاتب إسلامي