قبل أن تحكم: عليك بالنظر إلى المآلات!

منذ 2014-06-18

من الفقه المفقود لدى كثير من المعاصرين -سواءً عوامًا أو متصدِّرين للدعوة- فقه المآلات قبل الحكم على الواقع فقد يكون الحكم الظاهر بالإباحة مع ما تبطنه العواقب والمآلات من مفاسد توجب المنع والعكس بالعكس..

لذا.. قبل أن تتسرَّع في الحكم عليك بفهم المآلات أو سؤال من يفقهها، وقد جاء في بحث عن هذا الموضوع من إصدارات الرئاسة العامة للبحوث والإفتاء بالمملكة العربية السعودية ما يلي:

النظر في المآلات عند تنزيل الأحكام على الوقائع:

النظر في مآلات الأفعال (الوقائع) مأمورًا بها أو منهيًا عنها أمر لا بُدَّ منه عند تنزيل الحكم عليها والفصل فيها، فهو مقصود شرعًا.
 
فإذا كان الفعل يؤدي إلى أمر غير محمود شرعًا منع على المكلف وإن كان في أصله جائزًا أو واجبًا.
 
فقد ترك النبي صلى الله عليه وسلم قتل المنافقين مع علمه بهم، وذلك حتى كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه جابر بن عبد الله رضي الله عنه: «لا يتحدَّث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه» (جزءٌ من حديثٍ رواه البخاري).
 
ومراعاة هذا الأصل -أعني النظر في المآلات- عند تنزيل الأحكام الكلية على الوقائع معدود من صفات أهل الرسوخ في العلم، يقول الشاطبي في بيان صفة العالم الراسخ: "إنه ناظر في المآلات قبل الجواب على السؤالات".

فالقاضي -بل والمفتي- وهو يقوم بتنزيل الحكم على الواقعة لا بُدَّ له من التبصر في ذلك بأن يقدر عواقب ما يُقرِّره ناظرًا إلى أثره أو آثاره، فإن لم يفعل كان عمله خطأً مضيعًا للحقوق، أدخله في الشرع اعتمادًا منه على تأويل ظهر له لم يلتفت فيه إلى عواقبه ومآلاته.
 
يقول ابن القيم [ت: 751هـ]: "فالحاكم إذا لم يكن فقيه النفس في الأمارات، ودلائل الحال، ومعرفة شواهده، وفي القرائن الحالية والمقالية، كفقههٍ في كليات الأحكام - أضاع حقوقًا كثيرة على أصحابها، وحكم بما يعلم الناس بطلانه، لا يشكون فيه اعتمادًا منه على نوع ظاهر لم يلتفت إلى باطنه وقرائن أحواله".
 
فعلى القاضي -وكذا المفتي- وهو يقوم بتنزيل الأوصاف الكائنة في الحكم الكلي عليها أن ينظر نظرًا خاصًا في الحكم الذي حدَّده لتطبيقه على الواقعة، ولا يقطع نظره عن النظر في مآل الواقعة لو طبق عليها ذلك الحكم الكلي، بل عليه مراعاة مآل الواقعة، فإن ظهر له عدم المواءمة بين الحكم الكلي ومآله على الواقعة، أعاد النظر مرةً أخرى في ملاقاة الحكم للواقعة، وطلب غيره مما يكون أقعد بمراعاة مآلها، أو أضاف على الحكم، أو حذف منه من القيود ما يحقق النظر في ذلك المآل طلبًا أو منعًا".
 
وإن رأى المواءمة بينهما طبقة على الواقعة وحكم وألزم، يقول الشاطبي [ت: 790هـ]: "النظر في مآلات الأفعال مُعتبَرٌ مقصود شرعًا كانت الأفعال موافقة أو مخالفة، وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو الإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل مشروعًا لمصلحة فيه تستجلب، أو لمفسدة تُدرأ..

إن على القاضي -وكذا المفتي- وهو يقوم بتنزيل الأحكام الكلية المجردة على الوقائع أن يلحظ ظروف وأحوال وملابسات ومآلات الواقعة وآثارها، فيعمل على المواءمة بين مقتضيات الحكم الكلي مجردًا وبين الواقعة لاحظًا ما ذكرنا.

ومن صور ذلك أن الحكم إذا كان يؤدي في مآله إلى الفتنة والفساد على الدين أو الأمة فإن القاضي يتوقى ذلك المآل بالقيود الدافعة له زيادةً أو نقصًا، أو يعدل عنه إلى حكم آخر".

يقول ابن تيمية [ت: 728هـ] في الرد على الذين أنكروا عليه الفتيا في بعض المسائل وقرَّروا حبسه إذا لم يمتنع عن ذلك: "إن هذه الأحكام مع أنها باطلة بالإجماع فإنها مثيرة للفتن، مفرقة بين قلوب الأمة، متضمنة للعدوان على المسلمين، والحكم بما أنزل الله فيه صلاح الدنيا الآخرة، والحكم بغير ما أنزل الله فيه فساد الدنيا والآخرة، فيجب نقضه بالإجماع".

ولا يعني النظر في المآلات عند الحكم والفتيا أن القاضي أو المفتي يعمل استحسانه العقلي مجردًا من النصوص الشرعية وأصول الشريعة، فمن فعل ذلك فهو متشه قد رد الناس إلى هواه، وجعل طلب غير الشريعة مبتغاه، وكان آثمًا مأزورًا غير مأجور.

يقول ابن تيمية [ت: 728هـ]: "فمن استحل أن يحكم بين الناس بما يراه هو عدلًا من غير اتباع لما أنزل الله فهو كافر، فإنه ما من أمة إلا وهي تأمر بالحكم بالعدل، وقد يكون العدل في دينها ما رآه أكابرها".
 
ويقول الجويني [ت: 478هـ]: "من ظن أن الشريعة تتلقى من استصلاح العقلاء ومقتضى رأي الحكماء، فقد رد الشريعة، واتخذ كلامه هذا إلى رد الشرائع ذريعة، والمعتد به في المآلات ما شهد له الشرع طلبًا أو منعًا بنصوص الشريعة وأصولها حسب المسالك الشرعية".

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام

أبو الهيثم محمد درويش

دكتوراه المناهج وطرق التدريس في تخصص تكنولوجيا التعليم من كلية التربية بجامعة طنطا بمصر.