ماذا يريد أصحاب الشهوات؟
من الآيات التي تقرر المباينة بين دعوة الحق التي يدعو إليها سبحانه وتعالى -وقد بيَّن سُبُلَها- ودعوة أولياء الشيطان الذين يدعون الناس إلى اتباع الشهوات، فيحلون ما حرم الله، ويحرمون ما أحل الله ما جاء في قوله سبحانه: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا}.
من الآيات التي تقرر المباينة بين دعوة الحق التي يدعو إليها سبحانه وتعالى -وقد بيَّن سُبُلَها- ودعوة أولياء الشيطان الذين يدعون الناس إلى اتباع الشهوات، فيحلون ما حرم الله، ويحرمون ما أحل الله ما جاء في قوله سبحانه: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} [النساء:27]، الحديث عن هذه الآية تنظمه الوقفات التالية:
الوقفة الأولى: جاءت الآية الكريمة في سياق الحديث عن المحرمات من النساء والحلائل منهن، وبيان أن الله سبحانه أحل لعباده منهن ما فيه صلاحهم في الدين والدنيا، وحرم عليهم منهن ما لا خير لهم فيه، وختم سبحانه هذا البيان بقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النساء:26]، ثم أردف هذه الآية بآية تبين ما يحبه أصحاب الشهوات، ويسعون إليه، بقوله تعالى: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا}.
الوقفة الثانية: ذكر المفسرون أن المراد بمن وصفهم الله: {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ} أربعة أقوال: فقيل: "هم الزناة"، وقيل: "هم اليهود والنصارى"، وقيل: "هم اليهود خاصة"، وكانت إرادتهم من المسلمين اتباع شهواتهم في نكاح الأخوات من الأب، وذلك أنهم يحلون نكاحهن..
والقول الرابع أن الآية عامة تشمل أهل الباطل وأهل الشهوات في دينهم، ويكون المراد من {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ} الذين تغلبهم شهواتهم على مخالفة ما شرعه الله لهم من الذين لا دين لهم، وهم الذين لا ينظرون في عواقب الذنوب ومفاسدها وعقوبتها، ولكنهم يُرْضون شهواتهم الداعية إليها، وهذا القول الأخير هو المعول عليه في المراد من هذه الآية، وهو الذي ينبغي أن تُحمل عليه الآية، وهو الذي اختاره الطبري، وصححه القرطبي.
الوقفة الثالثة: (الميل) هو العدول عن طريق الاستواء، وأصله الانحراف من الوسط إلى جانب من الجوانب، ولما كان الاعتدال فيه العدل، أطلق الميل على الجور والاعتداء، و(الميل العظيم) هو البعد عن أحكام الشرع، والطعن فيها.
الوقفة الرابعة: قال ابن عاشور: "المقصد من التعرض لإرادة الذين يتبعون الشهوات تنبيه المسلمين إلى دخائل أعدائهم؛ ليعلموا الفرق بين مراد الله من الخلق، ومراد أعوان الشياطين، وهم الذين يتبعون الشهوات"، فـ{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ} يريدون من المؤمنين الانصراف عن الحق، والميل عنه إلى المعاصي والشهوات، وهذا دأبهم، وشأنهم، وديدنهم؛ إذ لا يروق لهم بحال أن يرووا المؤمنين قائمين على منهج الله؛ لأن ذلك يعكر على نهجهم الباطل، ويفسد عليهم مخططاتهم الشيطانية.
الوقفة الخامسة: إطلاق (الإرادة) في قوله تعالى: {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ} على رغبة أصحاب الشهوات في ميل المسلمين عن الحق هو من باب المشاكلة للآية السابقة، وهي قوله عز وجل: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ}، والمقصود كما ذكر ابن عاشور: "ويحب الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا.. ولما كانت رغبتهم في ميل المسلمين عن الحق رغبة لا تخلو عن سعيهم لحصول ذلك، أشبهت رغبتهم إرادة المريد للفعل، ونظير هذا قوله تعالى: {وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ} [النساء من الآية:44]".
الوقفة السادسة: أفادت الآية الكريمة أن هدي الله تعالى هو هدي الفطرة السليمة، التي لم تنحرف عما فطرها الله عليه، ولم تخرج عن النهج السوي، ليس فيها تحريم للطيبات ومتع الحياة، وليس فيها انطلاق إلى الأهواء والشهوات، والخروج عن سنن الفطرة المستقيمة، وأن دعوة أولياء الشيطان،وأعوان إبليس دعوة إلى الانحراف، والميل إلى جانب الشهوة ميلاً عظيماً ينحرف بالعبد عن سبيل الفطرة السوية.
الوقفة السابعة: دلت الآية الكريمة على أن الناس في كل عصر ومصر يوجد فيهم صنفان من الدعاة: (دعاة الإيمان) يدعونهم إلى الحق والاعتدال بدعاية الرحمن وهداية الأديان، لا يحرمون ما أحل الله من طيبات، ولا يحللون ما حرم الله من الخبائث والمنكرات.
والثاني: (دعاة الشيطان)، يدعونهم إلى الانحراف، وسلوك سبل الرذيلة والفاحشة، ويأمرونهم بالفاحشة، وينهونهم عن المعروف، ويحلون ما حرم الله، ويحرمون ما أحلَّ الله، وهم يريدون من الناس -كل الناس- أن يكونوا على شاكلتهم من الانحراف، فهم لا يكتفون منهم بمجرد الميل عن الطريق السوي، بل يريدون منهم أن يميلوا ميلاً عظيمًا، وأن ينحرفوا انحرافاً مطلقاً، فيبتعدوا عن الوسط والاعتدال إلى أقصى الانحراف.
الوقفة الثامنة: المتأمل اليوم في أنشطة الناس كافة: (التربوية، والتعليمية، والاجتماعية، والإعلامية، والاقتصادية، والسياسية)، وغيرها من الأنشطة الإنسانية لا يعجزه أن يقف على ما يقوم به أصحاب الشهوات لثني الناس -والمسلمين خاصة- عن طريق الرشد والهداية، والدفع بهم إلى طرق الباطل والضلال، وهم قد أفلحوا في ذلك فلاحاً ليس بالقليل..
فعلى المؤمن أن يحترس لدينه، ويحتاط لأمره، ولا يدع لأصحاب الشهوات أن يميلوا به عن طريق الرشد والصواب إلى ذات اليمين وذات الشمال، ومما ينبغي أن يُستحضر في هذا الصدد قول الله تبارك وتعالى: {وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة من الآية:168و208]، وقوله عز وجل: {لَا تَتَّبِعُوا خُطْوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطْوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [النور من الآية:21]، وأصحاب الشهوات هم شياطين الأنس، الذين يتلقون الأمور والتوجيهات من شياطين الجن.
- التصنيف:
- المصدر: