تزكية النفس في رمضان (1)
نحن نصوم لأن الله فرض علينا الصوم، وما دام الله قد قال فسبب التنفيذ هو أن القول صادر من الله سبحانه، ولا شيء غير ذلك، فإذا ظهرت حكمة التكليف فإنها تزيدنا إيماناً.
إن الحمد لله نحمد ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا إنه من يهده الله فهو المهتد ومن يضلل فلا هادى له.
"إله يثيب عباده ويعاقب ويهب الفضائل ويمنح المناقب، فالفوز للمتقى والعز للمراقب {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46].
أنعم على الأمة بتمام إحسانه وعاد عليها بفضله وامتنانه وجعل شهرها هذا مخصوص بعميم غفرانه {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة من الآية:185].
أحمده على ما خصنا فيه من الصيام والقيام، واشكره على بلوغ الآمال وسبوغ الأنعام، واشهد أنه إله واحد أحد لا شريك له يحيى ويمت وهو على كل شيء قدير وأشهد أن محمد عبده ورسوله أفضل خلقه وبريته المقدم على الأنبياء ببقاء معجزته الذي أنشق ليلة ولادته الإيوان صلى الله عليه وسلم، والسلام على أبى بكر رفيقه في الغار، وعمر فاتح الأمصار، وعثمان شهيد الدار، وعلى على سيد الأبرار.
ثم أم بعد يقول المولى سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا . يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70-71].
معشر المسلمين
أنتم الآن في أيام مباركة، وليال فاضلة تفضل بها الله تعالى عليكم؛ أن بلغكم رمضان، وهيأ لكم أسباب الخير والطاعات، ورتب على ذلك العطاء الجزيل والثواب العظيم، فاشكروا الله على نعمته وسلوه المزيد من فضله؛ فكم من أناس حرموا هذا النعمة المسداة، فمنهم من قضى نحبه نسأل الله لهم الرحمة والمغفرة وأن يتوفنا وهو راض عنا، ومنهم من حاد عن الطريق نسأل الله لهم ولنا الهداية والتسديد.
وقد أظلكم شهر كريم وموسم عظيم يَعْظم فيه الأجر، فقد اختصه الله بعبادة من أجل العبادات. اختصها الله لنفسه يجازى بها ويباهى الملائكة بأهلها، فقد ثبت في الحديث عن أبي هريرة « » (الألباني (صحيح ابن ماجه [1335])).
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « » (رواه مسلم).
نداء حب
يقول المولى سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183].
هذا نداء الله تعالى لعباده المؤمنين وقد تكرر هذا النداء {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} في كتاب الله تسعا وثمانين مرة. نداهم بعنوان الإيمان؛ لأن المؤمن حي بإيمانه يسمع ويعقل ويمتثل إذا أمر، وإنه لتشريف أي تشريف أن يناد المؤمن بصفة محببة إلى نفسه.
أعلم رعاك الله أن هذا النداء الحبيب إذا صدر فإنما يأتي بما يسعدنا في الدنيا والآخرة، أو لينبهنا عما فيه شقاؤنا في الدنيا والآخرة، أو ليعلمنا بما ينفعنا. سأل رجل عبد الله بن مسعود فقال: أعهد إلى يا عبد الله. فقال له: "إذا سمعت الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فأعرها سمعك، فإنه خير تؤمر به، أو شر تنهى عنه". والإيمان لابد أن يصدقه العمل فلا يكون واقع المؤمن كواقع بنى إسرائيل: {قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} [البقرة من الآية:93].
{كُتِبَ عَلَيْكُمْ} أي فرض عليكم.
يقول الأمام الشعراوي وهذه التكليفات {كُتِبَ عَلَيْكُمْ} لمَ تأتِ مبنية للمعلوم، فمن الذي يكتب؟ إنه الحق سبحانه، إنها صيغة مبنية دائماً لما لم يُسَمَّ فاعله، ونقول: صحيح أن الله سبحانه وتعالى هو الذي كتب، فلماذا لم يقل: يأيها الذين آمنوا كتبتُ عليكم. ولماذا يقول: {ياأيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام}؟ ونقول: لأن الله وإن كان قد كتب، إلا أنه لم يكتبها على كل خلقه، بل كتبها على الذين آمنوا به، وأنت بإيمانك أصبحت ملتزماً بعناصر التكليف، فكأن الحق سبحانه لم يكتب ثم يلزمك، ولكن التزامك تم في نفس اللحظة التي دخلت فيها باختيارك في الإيمان.
وبذلك تكون كل هذه الأحكام قد كُتِبتْ علينا باختيار كل منا، فمن لم يَخْتَرْ الإيمان ليس مكتوباً عليه أن ينفذ أحكام الإيمان؛ لأنها لا تُنفذ إلا بالعقد الإيماني بيننا وبين الحق سبحانه؛ وقد احترم سبحانه دخولنا في هذا العقد، فلم ينسبه لذاته العلية فقط، بل شمل أيضاً كل مَنْ دخل في الإيمان. (تفسير الشعراوي [38][8/5419] الموسوعة الشاملة. بتصرف).
وما الحكمة من التكليف في: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ}يقول الأمام الشعراوي: "فإن سأل أحد عن حكمة التكليف من الله، نقول له: إن الحكمة تنبع من أنه سبحانه هو الذي كَلَّف. ثم إن معرفة الحكمة لا تكون إلا من المساوي للمساوي، فإن ذهب المريض إلى الطبيب وكتب له الدواء، وظل المريض يناقش الطبيب في الدواء وفوائده؛ فالطبيب يرفض المناقشة، ويقول للمريض: ادخل كلية الطب واقْضِ فيها سبع سنوات، واحصل على الدرجات العلمية، ثم تَعَالَ وناقشني.
إذن: فأنت تربط علة التكليف بأمر المكلف، مع أن المكلف من البشر قد يخطئ. أما إذا جئنا بمجموعة من الأطباء ليكشفوا على مريض احتار الطب فيه، ثم جلسوا بعد الكشف يتناقشون، فكل منهم يقبل مناقشة الآخر؛ لأنه مُسَاوٍ له في الفكر والثقافة والعلم إلى آخره، لكن إنْ أردتَ أن تسأل عن الحكمة في تكليف من الله فلن تجد مساويًا لله سبحانه وتعالى، وبذلك تكون المناقشة مرفوضة.إذن: فالمكلف لا بد أن تكون له منزلة سابقة على التكليف، ومنزلة الحق أنك آمنت به، ولهذا أرى أن البحث عن أسباب التكليف هو أمر مرفوض إيمانياً، فإذا قيل: إن الله فرض الصوم حتى يشعر الغني بألم الجوع؛ ليعطف على الفقير، نقول: لا، وإلا سقط الصوم عن الفقير؛ لأنه يعرف ألم الجوع جيداً. وإذا قيل لنا: إن الصوم يعالج أمراض كذا وكذا وكذا. نقول: إن هذا غير صحيح، وإلا لما أسقط الله فريضة الصوم عن المريض في قوله تعالى: {وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة من الآية: 185].
فإذا كان الله قد أباح للمريض أن يفطر، فكيف يأتي إنسان ويقول: إن علة فرض الصوم هي شفاء الأمراض؟ كما أن هناك بعض الأمراض لا يُسْمَح معها بالصوم.
إذن: فنحن نصوم لأن الله فرض علينا الصوم، وما دام الله قد قال فسبب التنفيذ هو أن القول صادر من الله سبحانه، ولا شيء غير ذلك، فإذا ظهرت حكمة التكليف فإنها تزيدنا إيماناً، مثلما ثبت ضرر لحم الخنزير بالنسبة للإنسان؛ لأن لحم الخنزير مليء بالميكروبات والجراثيم التي يأكلها مع القمامة، ونحن لا نمتنع عن أكل لحم الخنزير لهذا السبب، بل نمتنع عن أكله لأن الله قد أمرنا بذلك، ولو أن هذه الحكمة لم يكشف عنها الطب ما قَلَّلَ هذا من اقتناعنا بعدم أكل لحم الخنزير؛ لأننا نأخذ التكليف من الله، وليس من أي مصدر آخر.
فيا مَنْ آمن بي رَباً، ورضيتني إلهاً اسمع مِنِّي؛ لأني سأعطيك قانون الصيانة لحياتك، هذا القانون الذي يُسعدك بالمسبِّب في الآخرة بعد أن أسعدك بالأسباب في الدنيا" (الموسوعة الشاملة (تفسير الشعراوي [20] [12/7275]).
{الصِّيَامُ }
أحد أركان الإسلام الخمس وهو في اللغة: الصيام عن الشيء الإمساك عنه. قال تعالى: {فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} [مريم من الآية:26].
وفي الشرع: الإمساك عن الأكل والشرب والجماع، وما هو ملحق بها من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس.
يقول القشيري: الصوم على ضربين:
صوم ظاهر وهو الإمساك عن المفطرات مصحوبا بالنية، وصوم باطن وهو صون القلب عن الآفات، ثم صون الروح عن المساكنات، ثم صون السر عن الملاحظات.
{كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}، يعني فرض عليكم مثل الذي فرض على الذين منْ قبلكم، وفيه تسرية وتيسيرا للنفس ودعوة إلى المنافسة في الطاعة، فهذه العبادة ليست خاصة بالمسلمين دون غيرهم بل هناك من سبقكم إليها {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين من الآية:26].
محسن العزازي
كاتب إسلامي
- التصنيف: