الصوم سباق وأخلاق وأرزاق
الصائم في ديار المسلمين حاليًا في حاجة ماسة لهذه الأخلاق، خاصة بعد انتشار الظلم والقمع، وازدياد الفقر والأذى، وأن يكون العفو في موضعه الصحيح، لا يجرح كرامة مظلوم، ولا يسوغ لظالم، ولا يمهد لطاغية، ولا يمرر لمستبد، وأن يكون الصبر صبر الاستعلاء، لا صبر الاستسلام، صبر النهوض لا صبر القعود، صبر العمل والأمل لا صبر الخمول والكسل، فصوموا واصبروا واصفحوا وتسامحوا وتصالحوا؛ تجبروا وتُنصروا وتفلحوا.
بعد ساعات قليلة تبدأ جامعات الأخلاق في فتح قاعاتها ومدارس الإيمان في فتح أبوابها، ومراتع الذِّكْر في استقبال زُوَّارها، فيدخل العباد الزهاد، الصائمون القائمون، المنفقون القانتون، والرُّكَّع السجود، ليجمعوا أمرهم ويغسلوا ذنوبهم ويطيعوا ربهم ويسعدوا بدينهم في موسم الطاعات ومنهل الخيرات: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة:185].
ها هي الأيام تتوالى والليالي تتسارع، الزمن يدور والحياة تسير، من عام إلى عام تنقل الإنسان وتحمل لنا البشرى بقدوم شهر رمضان، تزيد الصائم من الإيمان وتدفعه إلى البر والإحسان، وتأخذه إلى الرحمة والغفران، وترشده إلى العتق من النيران.
يقول الحسن البصري رحمه الله: "إن الله جعل شهر رمضان مضمارًا لخلقه يستبقون فيه بطاعته إلى مرضاته، فسبق قوم ففازوا، وتخلف آخرون فخابوا! فالعجب من اللاعب الضاحك في اليوم الذي يفوز فيه المحسنون! ويخسر فيه المبطلون!".
نعم؛ فالجنة مفتحة، والنيران مغلقة، والشياطين مصفدة، والحسنات مضاعفة، نفحات يجب أن نستعد لها ورحمات يجب أن نتأهب لها، ليس هناك حدث يقبل على الإنسان -وهو يعلم به- إلا ويستعد له، فالطالب حين يقترب الامتحان تراه يستعد.. والمقبل على زواج تراه يستعد.. والمريد سفرًا تراه يستعد. فالاستعداد أمر فطري، وجميع المسلمين يستعدون لرمضان من عام إلى عام!
كيف؟
إن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانوا يدعون الله عز وجل ستة أشهر: "اللهم بلغنا رمضان"، فإذا جاء رمضان دَعَوا الله تعالى: "اللهم بلغنا ليلة القدر"، فإذا جاءت ليلة القدر سألوا النبي صلى الله عليه وسلم: إذا جاءت ليلة القدر ماذا نقول فيها؟، عن عائشة قالت: قلت: "يا رسول الله؛ أرأيت إن علمت أي ليلة ليلة القدر، ما أقول فيها؟ قال: « »" (قال الترمذي[3513]: حديث حسن صحيح)، كيف لا؟! وهو شهر العفو، والعفو من الأعمال التي أجرها على الله، {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَح َفَأَجْرُهُ عَلَى الله} [الشوري:40].
لم يحدد الأجر، وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « » (رواه ابن ماجه [1381]، وصححه الألباني).
والعفو شيمة الأبرياء الأصفياء الذين كانوا يَصِلون من قطعهم، ويعطون من حرمهم، ويعفون عمن ظلمهم، والله يقول: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجاهلين} [الأعراف:199].
إنه صفة من صفات عباد الرحمن، {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان:63]، إذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلامًا، مع أنهم يقدرون أن يردوا الصاع صاعين واللطمة لطمتين، وإنما يعفون ويصفحون، لا ينطقون إلا حقًّا، ولا يفعلون إلا حقًّا، ولا يقولون إلا سلامًا، {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا}.
عندما دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة منتصرًا، جلس صلى الله عليه وسلم في المسجد، والمشركون ينظرون إليه، وقلوبهم مرتجفة خشية أن ينتقم منهم، أو يأخذ بالثأر قصاصًا عما صنعوا به وبأصحابه. فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: «
» قالوا: خيرًا، أخ كريم، وابن أخ كريم. قال: « » (سيرة ابن هشام).
طلب أحد الصالحين من خادم له أن يحضر له الماء ليتوضأ، فجاء الخادم بماء، وكان الماء ساخنًا جدًّا، فوقع من يد الخادم على الرجل، فقال له الرجل وهو غاضب: "أحرقْتَني"، وأراد أن يعاقبه، فقال الخادم: "يا مُعَلِّم الخير ومؤدب الناس، ارجع إلى ما قال الله تعالى". قال الرجل الصالح: "وماذا قال تعالى؟!" قال الخادم: "لقد قال تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ}"، قال الرجل: "كظمتُ غيظي"، قال الخادم: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ}، قال الرجل: "عفوتُ عنك"، قال الخادم: {وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134]، قال الرجل: "أنت حر لوجه الله".
والصوم نصف الصبر، والصبر نصف الإيمان، والإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل، والصبر من الأعمال التي أجرها بلا حساب، كيف؟ {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10]، قال العلماء: يغرف لهم من الحسنات غرفًا، الصائم يصبر على الجوع والعطش وحقِّه من زوجته في نهار رمضان، يصبر على الطاعة، فيصلي ويزكي، ويقرأ القرآن ويصل الرحم، يصبر على المعصية فلا يرتكبها، والصيام نفسه من الأعمال التي أجرها على الله وحده، كيف؟ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « » (رواه البخاري [5927]، ومسلم [1151])، لم يحدد الأجر، وينادي مُنادٍ يوم البعث: أين الذين أجرهم على الله؟ فيقبل الصابرون والصائمون والعافون عن الناس...
الصوم إذن عفو وصبر، وفوق كل ذلك فالصوم سعة في الأرزاق، حيث قال المصطفى عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم عن شهر رمضان: وفيه يزاد رزق المؤمن، إذن الصوم مضمار سباق: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:183]، وجامعة أخلاق: لا رفث ولا سباب ولا فسوق، فإن سابه أحد أو قاتله؛ فليقل: إني امرئ صائم.
وسعة في الأرزاق.. الخصلة من الخير في رمضان كالفريضة في غيره، والفريضة فيه كسبعين فريضة فيما سواه.. والصائم في ديار المسلمين حاليًا في حاجة ماسة لهذه الأخلاق، خاصة بعد انتشار الظلم والقمع، وازدياد الفقر والأذى، وأن يكون العفو في موضعه الصحيح، لا يجرح كرامة مظلوم، ولا يسوغ لظالم، ولا يمهد لطاغية، ولا يمرر لمستبد، وأن يكون الصبر صبر الاستعلاء، لا صبر الاستسلام، صبر النهوض لا صبر القعود، صبر العمل والأمل لا صبر الخمول والكسل، فصوموا واصبروا واصفحوا وتسامحوا وتصالحوا؛ تجبروا وتُنصروا وتفلحوا.
خميس النقيب
- التصنيف:
- المصدر: