أحكام المحاصة في الفقه الإسلامي

منذ 2014-07-04

المحاصة باب من الأبواب التي تمكن القاضي من إيصال الحقوق إلى أصحابها، فقد لا يستطيع أصحاب الحقوق أخذ حقوقهم كاملة كنحو غرماء أو تزاحم في الوصية ونحو ذلك، فلأن يأخذ أصحاب الحقوق بعض حقوقهم خير من عدم أخذهم أي شيء من حقوقهم، لذا كان من الواجب معرفة الطريقة المناسبة لإيصال الحقوق إلى أصحابها بالعدل بينهم، فليس كل الناس يتسامحون عن أموالهم.


إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

فإن أحكام المحاصة في الفقه الإسلامي موضوع جدير بالعناية والاهتمام، وقد يتبادر إلى الذهن أن هذا الموضوع ربما يخص شركة المحاصة الحديثة فحسب، لكن المطلع على كتب الفقهاء رحمهم الله والمتصفح لما دونوه وسطروه في كتبهم يجد أن الموضوع يشمل الكثير من أبواب الفقه: من العبادات إلى المعاملات إلى أحكام الأحوال الشخصية إلى الجنايات والقضاء، وما وضعته بين يدي طلاب العلم من مسائل وسطرته بقلمي إنما هو جزء يسير من هذا الموضوع الذي يحتاج لمزيد من العناية والبحث والتعمق في مسائله.

أهمية البحث:
المحاصة باب من الأبواب التي تمكن القاضي من إيصال الحقوق إلى أصحابها، فقد لا يستطيع أصحاب الحقوق أخذ حقوقهم كاملة كنحو غرماء أو تزاحم في الوصية ونحو ذلك، فلأن يأخذ أصحاب الحقوق بعض حقوقهم خير من عدم أخذهم أي شيء من حقوقهم، لذا كان من الواجب معرفة الطريقة المناسبة لإيصال الحقوق إلى أصحابها بالعدل بينهم، فليس كل الناس يتسامحون عن أموالهم.

ولما كانت المحاصة طريقاً لإيصال الحقوق إلى أصحابها كان لزاماً أن يتعرف القاضي على أحكام المحاصة التي بها تؤدى الحقوق دون جور أو ضياع لها.

فالشريعة الإسلامية جاءت وحفظت حقوق الناس، فوضعت أدق الأحكام في سبيل العناية بمصالح الخلق، وهذا مما يدل على شرف وعظم مكانة هذا الدين.

وإن مما لا يخفى أن الإنسان في هذه الحياة لا يدوم على حال، فقد يكون مفلساً بعد أن كان مليئاً، ومريضاً بعد أن كان صحيحاً، وقد ينتقل عن الدنيا في أي وقت فتتعلق حقوق الغير بأمواله كالغرماء، والأوصياء، ونحو ذلك، وحينئذ قد تكون الصورة المثلى لإيصال الحقوق هي المحاصة، ومن هذا المنطلق اخترت هذا البحث، كي أنير الطريق أمام القضاة لدفع عجلة البحث العلمي فيما يخدم الصالح العام، والله الموفق.

تعريف المحاصة:
تبين من خلال البحث أن العلماء اكتفوا في معنى المحاصة بالمعنى اللغوي ألا وهو القسمة أو المقاسمة بالنسبة.
وعرفها بعض المعاصرين بأنها: "إعطاء حصة لكل دائن من تركة المدين بنسبة دينه". وأن المحاصة تقع في كل دين ثابت لازم في الذمة، وهو ما كان من عوض مالي، ولا تدخل الهبة وسائر التبرعات في المحاصة.
وقد دلت الأدلة الشرعية من الكتاب، والسنة والآثار عن السلف الصالح والقواعد على مشروعيتها.

أهم مسائلها:
المساواة بين الغرماء في استيفاء حقوقهم من المدين هو من باب تحقيق العدالة التي جاءت بها الشريعة الإسلامية، وقدم بعض الغرماء على بعض كغريم له رهن ونحوه، نظراً لما تميزوا به مما يجعل لهم أحقية التقديم.

* أنه ينبغي للقاضي أن يسارع في محاصة مال المفلس وإعطاء كل غريم حقه دون إلحاق الضرر بالمفلس.
* أنه يجوز للقاضي أن يجبر المفلس على التكسب حتى يسدد ما بقي من دين بعد المحاصة مراعياً بذلك مكانته ومنصبه.

* كما لا يلزم المفلس قبول التبرعات والصدقات لسداد دينه؛ لما في ذلك من المنة والمعرة.
* أن أهل العلم بينوا أنه يترك للمفلس من ماله حوائجه الأصلية من نفقة، وكسوة له ولزوجته، وكذا من تلزمه نفقته، ويترك له أيضاً آلة حرفته، والدار التي يسكنها ونحوها.

* بين أهل العلم أنه إذا كان على المدين دين فليس للورثة حق في قسمة المال:
فإذا قسمت التركة ثم ظهرت على المدين دين فعلى الراجح من قول أهل العلم أن قسمة التركة صحيحة، ولا تنقض، سواء أكان الدين مستغرقاً بالتركة أم لا، وذلك بناء على أن التركة تنتقل إلى الورثة بموت مورثهم.
إلا أنه لا يصح تصرف الورثة في حصصهم من التركة إذا كان الدين مستغرقاً بالتركة، ويصح تصرفهم إذا لم يكن الدين مستغرقاً بالتركة.

* أن العلماء بينوا الطرق التي يتحاصّ بها الغرماء تركة الميت، وذكروا أن تركة الميت إذا كانت وافية بديون الغرماء، فلا يحتاج إلى محاصة الغرماء تركة الميت.

* أما إذا قلت تركة الميت عن الوفاء بديون الغرماء فحينئذ ينزل الغريم مكان الوارث، ويقتسم الغرماء تركة الميت بالمحاصة.

* أن العلماء ذكروا لمحاصة مال المفلس ثلاث طرق، ولمحاصة تركة الميت ستّ طرق، ثلاث منها هي طرق محاصة مال المفلس، وعند التطبيق فإن هذه الطرق جميعها تصلح لمحاصة مال المفلس وتركة الميت على السواد.

* أن أهل العلم بينوا أيضاً أن المحاصة تقع بين الورثة في تركة مورثهم عند حصول النقص في نصيبهم، وهو ما يعرف بالعول.

* أن الديون تقدم على الوصايا وحقوق الورثة، فإذا ما تزاحم دين الله ودين الآدمي بتركة الميت، فإن حقوق الآدمي تقدم؛ لأن دين الله مبني على المسامحة ودين الآدمي مبني على المشاحة.
* أنه إذا أجر المؤجر داراً أو سيارة أو شيئاً آخر ثم أفلس المؤجر، فلا تخلو الإجارة من حالين:

الحال الأولى، أن يكون الشيء المستأجر معيناً:
فالإجارة حينئذ لا تنفسخ، والمستأجر أحق بالعين المستأجرة، وإذا كان الشيء المستأجر داراً فطلب الغرماء بيعها كان لهم ذلك، وفي حالة انهدام الدار المستأجرة قبل انقضاء مدة الإجارة تنفسخ الإجارة ويحاص المستأجر غرماء المؤجر ببقية الأجرة.

الحال الثانية، أن يكون الشيء المستأجر في الذمة:
فيكون المستأجر أحق بها إن أقبضه المؤجر إياها؛ لأنها بالقبض أصبحت كالمعينة، فإن لم يقبضه المؤجر إياها فهو كالغرماء يتحاص معهم.

* أنه إذا استأجر المستأجر داراً ليسكنها أو دابة ليركبها ثم أفلس المستأجر فلا يخلو الأمر من ثلاث أحوال:
الحالة الأولى، أن يكون الفلس قبل مضي شيء من مدة الإجارة فيكون للمؤجر أحقية الفسخ لعقد الإجارة.
الحالة الثانية، أن يكون الفلس بعد انتهاء مدة الإجارة، فالمستأجر غارم، وعليه الأجرة كاملة يحاص بها المؤجر مع بقية غرماء المستأجر.

الحالة الثالثة، أن يكون الفلس بعد انقضاء بعض مدة الإجارة، فالمؤجر بالخيار بين الفسخ ومحاصة الغرماء ببقية الأجرة، أو البقاء على الإجارة ومحاصة الغرماء بكامل الأجرة إن لم يكن قد دُفع له في بداية عقد الإجارة شيء.

* أن شركة المحاصة:هي إحدى الشركات الحديثة تعقد بين شخصين فأكثر للقيام بعمل واحد أو سلسلة من الأعمال يؤديها أحد الشركاء باسمه على أن يقتسم الربح بينه وبين الشركاء.

وهي من الشركات المشروعة؛ فهي لا تخرج عن شركتي العنان والمضاربة المشروعتين.
* أن الرهن والضمان طريقان لحماية الدائن حقه من المحاصة، وبهما يتقدم على غيره من الغرماء.
* أنه إذا كان للمرتهن دينان أحدهما برهن والآخر بدون رهن فالدين الذي برهن يقدم به على سائر الغرماء.

* أنه إذا ضمن رجل عن رجل مالاً ثم أفلس المضمون عنه فيحق للمضمون له أن يحاص غرماء المضمون عنه، فإن لم يستوف حقه رجع على الضامن بالباقي، فإن اغتنى المضمون عنه، فإن الضامن يحاص غرماء المفلس بقدر ما غرم عنه.

* أنه إذا نقصت غلة الوقف عن الموقوف عليهم قسمت بينهم بالمحاصة.
* أنه إذا أنفقت الزوجة على نفسها، ثم أفلس زوجها أو مات، فلها أن تحاص غرماء زوجها في النفقة، شريطة أن يكون إنفاقها على نفسها حال يسر الزوج لا عسره؛ إذ لا يلزم الزوج النفقة على زوجته حال عسره.

وللزوجة حال عسره الخيارين استمرار الزوجية أو طلب الفسخ من الحاكم، فإذا أنفقت الزوجة على ولد زوجها المفلس فلا تحاص غرماء زوجها إلا بشرطين:
الأول: أن تكون النفقة حال يسر الزوج.

الثاني: أن تكون النفقة بحكم حاكم.
وإذا أنفقت الزوجة على أبوي زوجها المفلس، فلها أن تحاص غرماء زوجها المفلس بالشرطين السابقين الذكر، ويضاف شرط آخر: وهو أن تكون الزوجة قد تسلفت نفقة أبوي الزوج.

* أن الجماعة تقتل بالواحد إذا كان القتل عمداً.
أما في المحاصة فإن القتل إذا كان عمداً وعفا الولي إلى الدية، أو كان القتل خطأ، فعلى الجناة دية واحدة يتحاصون في ذلك على عددهم لا حسب جناياتهم.

فإن عفا عن بعضهم إلى الدية، وكان القتل عمداً اقتص من البعض الآخر وقسطت الدية عليهم، فسقطت حصة من أقيم عليه الحد وأخذ من الآخرين ما بقي من الدية، وإن كان القتل خطأ وعفا عن بعضهم قسطت الدية على من عفا ومن لم يعف فسقطت حصة المعفو عنهم، وأخذ ولي المجني عليه من الآخرين الدية.

خلصت في نهاية البحث إلى أن المحاصة عقد لازم لا يقبل النقض ولا الرجوع خاصة إذا صدر من حاكم إلا إذا كان هناك غبن فاحش أو استحقاق المتحاص فيه للغير فإن المحاصة حينئذ تنقض.

وبناء على ما تقدم يتبين ما يلي:
أولاً: مشروعية مبادرة القاضي ومسارعته في بيع مال المفلس ومحاصته، وقد اختلف الفقهاء رحمهم الله  في المشروعية على قولين، والراجح أن ذلك مشروع، لما روي أن معاذاً ركبته ديون فباع رسول الله صلى الله عليه وسلم ماله، وقسم ثمنه بين غرمائه بالحصص، ولأن في بيع القاضي مال المفلس إيفاءً للدائن ودفعاً للضرر عنه بالتأخير، وترك ذلك مضرة، قال صلى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار» (رواه ابن ماجه، باب من بنى في حقه ما يضر بجاره، كتابا لأحكام، رقم الحديث 2340، 244، سنن ابن ماجه 3/106، ورواه مالك في الموطأ، باب القضاء في المرفق كتاب الأقضية، الحديث 31، ص 414، وصححه الألباني، انظر: إرواء الغليل 3/408).

ثانياً: اختلف الفقهاء رحمهم الله فيمن وجد عين ماله قبل محاصة الغرماء مال المفلس أو تركة الميت هل يشرع ذلك أو لا؟ على ثلاثة أقوال، من قائل بمشروعية ذلك ومن قائل بعدم مشروعية ذلك، والراجح أن ذلك مشروع قبل محاصة الغرماء مال المفلس دون تركة الميت لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أيما رجل باع متاعاً فأفلس الذي ابتاعه، ولم يقبض الذي باعه شيئاً، فوجده بعينه فهو أحق به، وإن مات الذي ابتاعه، فصاحب المتاع أسرة الغرماء»، وفي رواية: «أيما امرئ مات، وعنده مال امرئ بعينه اقتضى من ثمنه شيئاً أو لم يقتض فهو أسوة الغرماء» (رواه مالك، باب إفلاس الغريم، كتاب البيوع، الموطأ ص 377، وابن ماجه، باب من وجد متاعه بعينه عند رجل قد أفلس، من كتاب الأحكام، سنن ابن ماجه، 3/117، وصححه الألباني، انظر الإرواء 5/271-272).

ثالثاً: إذا ضاقت تركة الميت عن الوفاء بدين الله ودين الآدمي فما الحكم؟ اختلف الفقهاء رحمهم الله على أربعة أقوال: فقائل بسقوط دين الله وتقديم دين الآدمي إلا إذا أوصى فتخرج من الثلث وقائل بتقديم دين الله على دين الآدمي، وقائل بالمحاصة، والراجح أن دين الآدمي مقدم؛ لأن حقوق الآدميين مبنية على المشاحة، أما حقوق الله فهي مبنية على المسامحة، ولهذا جعل لها الشارع أبدالاً وأسقطها بالشبهات، كما إن مستحقي حقوق الآدميين متعينون بخلاف حقوق الله فلا يتعين مستحقها، وما تعين مستحقها أوكد.

رابعاً: اختلف الفقهاء رحمهم الله في مقدار الربح في محاصة الشريك لشريكه هل هو بحسب الاشتراط أو على قدر رأس المال؟ على قولين، والراجح: أنه بحسب الاشتراط، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «المسلمون عند شروطهم» (أخرجه البخاري تعليقاً، باب أجر السمسرة، من كتاب الإجارة، صحيح البخاري 3/71).

خامساً: اختلف الفقهاء رحمهم الله في حكم محاصة المطلقة بما يجب لها من المتعة غرماء مطلقها على قولين، من قائل بأن ذلك لا يشرع لها، ومن إن قائل إن ذلك مشروع لها وهو الراجح؛ لأن المتعة واجبة بدلالة قوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة:241] على المطلق، وهي دين في ذمته كسائر ديون الغرماء.

وفي ختام هذه النبذة اليسيرة عن البحث، أوصي القارئ الكريم بالاطلاع على أصل البحث، ففيه فوائد قيمة جديرة بالاهتمام من القاضي والمتقاضي.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. 

 

 سامي بن مسعد المطيري