مُسَيَّر أَمْ مُخيَّر؟! (1)

منذ 2014-07-05

مسألة التخيير والتسيير وموقف الإنسان منها هل هو مُخَيَّر أم مُسَيَّر في هذه الحياة أخذت من العقل الإسلامي حيزًا كبيرًا لا تستحقه، وأضاع الفلاسفة المسلمون وقتًا ثمينًا فيها مع أن المسألة واضح حلُها وضوح الشمس في رائعة النهار إذا تأمَّلنا الواقع وتدبرنا القرآن الكريم..

إن مسألة التخيير والتسيير وموقف الإنسان منها هل هو مُخَيَّر أم مُسَيَّر في هذه الحياة أخذت من العقل الإسلامي حيزًا كبيرًا لا تستحقه، وأضاع الفلاسفة المسلمون وقتًا ثمينًا فيها مع أن المسألة واضح حلُها وضوح الشمس في رائعة النهار إذا تأمَّلنا الواقع وتدبرنا القرآن الكريم:

موقف الإنسان البسيط سليم الفطرة:

إن معرفة موقفه لم يأخذ منه جهدًا عقليًا لأنه تعامل مع الواقع مباشرةً. فهو عندما يريد أن يصلي فإنه يقوم ليتوضأ ويصلي وعندما يريد أن يحصد الزرع فإنه يحصده ببساطة. فاحتمال أنه مُسَيَّر لا نجده يداعب خاطره أبدًا! فالأمر واضح جلي، ولربما اتهم هذا الإنسان المفطور على التفكير البسيط القويم من يقول بالتسيير بالبله وقلة العقل، وذلك لا يتعارض مع إدراكه أنه يُفرض عليه عدة أمور كمكان وزمان ميلاده وأبيه وأُمّه... ولكنه يعلم أن هذه الأمور ليست من أفعاله بل هي من قدره.

شرح القرآن الكريم للمسألة للبسطاء من الناس:

إن القرآن الكريم يعطي حلًا يتناسب مع الإنسان البسيط عقلُه حتى لا يحار في هذا الأمر فيقول الله تعالى مثلًا:
{وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف:29] صدق الله العظيم.

ونلاحظ هنا منهجًا هامًا اتبعه القرآن الكريم في تبسيط المعلومة وهو عدم الإخلال بصحة المعلومة من أجل تبسيطها كما يفعل عكس ذلك الكثير من الآباء - حتى يُبسِّطوا المعلومة لأولادهم الصغار فتراهم يُغيِّرون ويُبدِّلون في المعلومة ليستطيع الطفل أن يتخيلها كأن يسأل "أين الله؟" فنجيبه خطأً "في كل مكان"..!

شرح القرآن الكريم للمسألة لقوم يتفكرون:

ولكن القرآن ذاته يخاطب من هم أكثر تركيبًا في فكرهم مع عدم الإخلال باستثاغة البسطاء في فكرهم لمعنى الآية ككل تدون تحليلها فيقول مثلًا: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الإنسان:30].

وقوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:29].
 
وقول تعالى: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال:17].

وفي الآيات السابقة جمع الله تعالى بين فعلين ومشيئتين؛ فعل الإنسان وفعل الله من جهة ومشيئة الإنسان ومشيئة الله من جهة أخرى. وفي هذا الجمع إثبات للمشيئتين وللفعلين معًا دون تعارض وإن اِلتبس على بعض الأذهان وجود تعارض ظاهري ولم يفقهوا أن حل اللغز (التخيير والتسيير) كله في فهم هذا التعارض الظاهري على حقيقته ليكون توافقًا حقيقيًا.

شرح لهذا التوافق:

إن الله تعالى خلق الإنسان ونفخ فيه من روحه..

قال الله تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر:29].

وقال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85].

ومعنى {مِنْ أَمْرِ رَبِّي} هنا الذي أراه -والله أعلى وأعلم- ليس معناه فقط أن ذاتها خافيةٌ خصائصُها؛ ولكن أن فيها من صفات الله عز وجل وإن كانت صفات ليست كصفاته تعالى في سموها وكمالها. ومن أظهر هذه الصفات الرحمة والرأفة والقدرة على الحب والإرادة الحرة، والصفة الأخيرة هي موضوعنا هاهنا إذ أن الإنسان حُرةٌ إرادتُه تمامًا وذلك هو مناط التكليف.. قال الله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72].

وهنا نجد أمرًا يدعو للتفكر، فإن الإنسان ليس بمالك إلا لإرادته الحرة فهو "يريد" دون قيد عليه ولكن تحول هذه الإرادة إلى واقع هو منوط بسماح الله عز وجل بهذا التحوُّل حتى إن لم يكن راضيًا عن الفعل وذلك ليكون الاختبار حقيقيًا وتزر كل وازرة وِزرها.

وذلك المعنى الذي أراه لــ {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ} و{وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} أي أنه لن تتحوَّل إرادتكم "الحُرّة" إلى واقع إلا بإرادة الله لها هذا التحوّل. فأنت تملك أن تريد تحريك ساعدك ولكنك لا تملك إطلاق إشارة القشرة المُخيَّة المسئولة عن حركة الساعد في مركز الحركة في المخ بل الله تعالى هو الذي يطلقها لك. وبالتالي فأنت تريد والله يخلق لك الفعل المقابل لهذا الإرادة إن شاء.

قال تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96] صدق الله العظيم.

الخلاصة:

أن الله تعالى خلقنا ونفخ فينا من روحه التي تتميز بحرية الإرادة، فنحن نريد والله يخلق لنا أفعالنا المقابلة لإرادتنا إن شاء أن يُحوِّل إرادتنا إلى واقعٍ ملموس. وبهذا فإن الإنسان مُخَيِّر ولكن تخييره لا يتيح له الفعل بل الفعل بيد الله تعالى فهو خالق كل شيء ومن ضمن الأشياء هو أفعالنا.

والله أعلم.
 

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام

أحمد كمال قاسم

كاتب إسلامي