سوء الاختيار والثمن الباهظ

منذ 2014-07-09

للطلاق أسبابه المتعددة، فمنها المفهوم الذي يمكن حصره ومناقشته، ومنها الذي يتسم بالهوجائية المتسرعة وهو الذي لا يمكن مناقشته إلا تحت عنوان عدم معرفة قيمة الزواج أو الاستهتار وعدم تحمل مسئولية القرار في إنشائه أو إنهائه، ولكن أبرز الأسباب وأكثرها وجودًا أن يكون الطلاق ناتجًا عن سوء اختيار من كلا الزوجين أو من أحدهما..

للطلاق أسبابه المتعددة، فمنها المفهوم الذي يمكن حصره ومناقشته، ومنها الذي يتسم بالهوجائية المتسرعة وهو الذي لا يمكن مناقشته إلا تحت عنوان عدم معرفة قيمة الزواج أو الاستهتار وعدم تحمل مسئولية القرار في إنشائه أو إنهائه، ولكن أبرز الأسباب وأكثرها وجودًا أن يكون الطلاق ناتجًا عن سوء اختيار من كلا الزوجين أو من أحدهما، وذلك في الوقت الذي ينعدم فيه وجود دور تربوي حقيقي ومؤثر وحكيم للأسرة والأهل في اتخاذ هذا القرار أو ذاك.

 

وهناك ملاحظتان هامتان نستخلصهما من الإحصاءات الرسمية وغير الرسمية التي ترد عن ارتفاع نسب الطلاق في مرحلتين أساسيتين عن باقي المراحل، الأولى مرحلة خاصة بعمر الزواج نفسه إذ ترتفع نسب الطلاق في السنة الأولى منه حتى تصل في بعض البلدان إلى 60 % من حالات الزواج، والثانية خاصة بأعمار المطلقات، إذ كانت أعمار نصف المطلقات تقريبا ما بين سن 18- 30 سنة.

وهناك ارتباط وثيق بين هاتين المرحلتين وبين قضية سوء الاختيار، فيجمع بينهما التعجل في اختيار الزوجين نتيجة عدة عوامل وضغوط وهمية، ونستطيع في هذه النقاط الموجزة أن نبحث عن تفاصيل الأسباب والدوافع لسوء الاختيار من كلا الزوجين:

 

- غلبة النظرة المادية على كثير من القرارات في المجتمع:

لا شك أننا نعيش الآن عصرًا رقميًا، أصبح فيه -عند كثير من الناس- كل شيء خاضعًا للقياس الرقمي، وازداد الاهتمام في علاقات الناس بالكم لا بالكيف، وطغت فيه معايير تقييمية تتسم بالسطحية والمادية للإنسان، لتقيمه بما يملكه لا بما يحمله من دين أو خلق وسمعة وسيرة، فنتج عن هذه النظرة المادية الطاغية كثرة السؤال عند وجود خاطب عن المال ومكان شقة الزوجية وعدد غرفها وتأثيثها وأيضا عن ثراء الخاطب أو أهله وما سيقدمه لعروسه من مهر وذهب وهدايا وأين سيقام حفل العرس، وكذلك عن وسامة الخاطب وهندامه وملابسه، وربما تصل السطحية للسؤال عن نوع سيارته أو حداثة هاتفه، واعتبرت تلك المعايير مُقدمة على المعايير الشرعية والأخلاقية الأخرى التي كان ينبغي لها أن تُقدم.

وكذلك بالنسبة للرجل تأخرت المعايير الصحيحة وتقدمت معايير تقييم مادية لا ينبغي لها أيضا أن تُقدم مثل جمال الخطيبة أو عملها وراتبها ومدى ثراء أهلها أو مكانتهم العائلية ومكان سكنهم وغير ذلك.

وبالنسبة للأهل أيضا قد يُقدمون بنظرة مادية بحتة وسطحية ساذجة، معايير أخرى موروثة مثل المعايير القبلية أو العشائرية التي يولونها اهتمامًا بالغًا قد يجاوز المعايير الشرعية في اختيار الزوجين.

 

- عامل المنافسة:

تتعجل كثير من الأسر -وخاصة النساء- يوم تزويج أبنائهم وبناتهم نتيجة لضغوط وضعوها لأنفسهم وحكموا على أنفسهم بعدم الخروج منها مثل المنافسة بين الأقران من الأقارب والمعارف، فمن المؤلم لديهم جدا أن يروا البنات المحيطات المتقاربات في السن قد بدأن رحلتهن الزوجية ولا يرون أبناءهم وخاصة البنات لم يطرق بابهن أحد، وحينما يأتي الخاطب الغير مناسب يتعجلون في تزويجه دونما تمهل أو سؤال حقيقي أو معرفة دقيقة لصفاته لا لشيء إلا لكي يؤكدوا أن بناتهم ليسوا أقل من غيرهن.

 

وربما تظهر لهم العيوب في دينه أو خلقه وسلوكه أثناء الخطبة أو العقد، ولكن كثيرًا منهم يتغاضون عن كل ما ظهر لهم خشية المنافسة ونظرة الناس وشماتتهم الظنية، ولا يدرون أنهم بذلك يزيدون المشكلة تعقيدًا، فبدلًا من أن تحمل الفتاة وصف خطيبة سبق خطبتها تحمل لقب مطلقة بعد أقل من سنة على الزواج، وربما يكون أعظم آمالهم بعد الزواج أن يحصلوا على ورقة خروج ابنتهم من ذلك السجن المظلم الذي أودعوها فيه تحت ضغط المنافسة والتباهي الكاذب.

 

- الهروب من شبح العنوسة المؤلم:

رغم أن قرار بدء الزواج ليس في يد الفتاة حقيقة، فليست هي من تذهب لتخطب بل يأتيها خطابها إلا أن نظرة كثير من الناس في المجتمع شديدة الإيلام للفتاة التي لم تتزوج وكأنها مقصرة أو مسئولة عن ذلك، وكلما يتقدم بها العمر تقل فرصها في الزواج وتزداد آلامها، وربما ساعتها تفكر هي أو أهلها في قبول خاطب لم يكونوا ليقبلوا به قبل ذلك وربما يتغاضون عن ما يبدو من عيوبه.

 

إن العنوسة التي تضاعفت معدلاتها في بلادنا العربية فبلغت حدودًا غير متصورة لشبح مخيف بالفعل للفتيات، وينبغي على المجتمع كله أن يتعامل معها بصورة غير الصورة التي يتعامل بها الآن حتى لا تقع الفتاة بين مطرقة الظروف وسندان الخاطب غير الكفء وربما تتسرع وتقبل فتتضاعف آلامها إما بالبقاء تحت زوج لا يتقي الله فيها أو بتحول وصفها من اللفظ الممقوت (عانس) إلى اللفظ الأكثر مقتا (مطلقة).

 

- الوهم النظري للحياة الزوجية:

عادة ما يكون لدى الشبان والشابات ضعف في الثقافة الأسرية نتيجة اكتسابهم لعلومهم ومعارفهم من وسائط غير دقيقة أو غير أمينة، فيتركز تصور الشبان عن الزواج في أنه قضاء للوطر الجنسي، وأنه انتقال من مرحلة التبعية للأهل للاستقلالية عنهم، وأنه بعد أن كان فردًا ستكون له زوجة لا يكتمل عملها الصالح إلا بطاعته ولا تكتحل بغمض حتى يرضى، وكثيرا ما يكون تصور الفتيات عن الزواج أنه تحول من وضع هي فيه الأميرة في بيت أبيها لتنتقل لتكون الملكة في بيتها، وأن الزواج فرصة للخروج من أسر الأب وتحكمه وانشغاله إلى حياة رحبة مع زوج محب ودود ينتقي معسول الكلمات ويكثر الهدايا ويطيل السفر والرحلات.

 

وتشتد الأزمة حين لا يتقدم الأهل ولا المخلصون من الأقارب والأصدقاء بصادق التبصرة والنصيحة عن الحياة الزوجية وأنها تحمل بالفعل سعادة كبيرة لكن مع ثمن يدفع لنيلها، فليست سعادة دائمة وخلو ذهن وخروج وسفر للتنزه ولن تكون جميع الأوقات كالفترة الأولى، في حب دائم وكلمات منتقاة وشراء مستلزمات بل هي حياة فيها متاعب أيضًا كثيرة تبدأ من ضرورة تفهم نفسية وسلوك الزوج ومحاولة التأقلم مع عيوبه بجوار مميزاته، وضرورة الاستعداد النفسي لتعديل معظم العادات والثوابت لكي توجد أرضية مشتركة ينطلق منها وعليها الزوجان.

 

إن الوهم النظري عن الزواج وخاصة عن الصفات المرغوبة والمطلوبة في الزوج والزوجة سبب كبير في حدوث الطلاق في الفترة الأولى، لأن كثيرًا من الصفات التي قد يحبها أحدهما في الفترة الأولى قد تكون هي نفسها سببا لانفصالهما، فما يُعجب الزوج فترة من تدلل زوجته قد لا يروقه على الدوام، وما قد يعجب المرأة من تبذير زوجها في إنفاقه عليها وتباهيها بذلك قد يصبح السبب الأول في ضيقها منه وطلبها الانفصال عنه.

 

- عدم التدخل الحقيقي للأهل في قرار الزواج:

مما ابتلينا به في هذه الفترة أن يترك بعض الناس قرار الزواج بيد أبنائهم وبناتهم وحدهم بدعوى عدم إرغامهم أو إرغامهن على أحد وبدعوى الحرية، فيُترك للشاب وحده تحديد من سيقوم بخطبتها، بل ربما لا يسمح لأحد بمشاركته في اختياره، ويكون على الأهل فقط إتمام باقي المراسيم الشكلية الروتينية، وبالنسبة للبنت بعد أن يتقدم لها خاطب تُترك لها حرية الاختيار ويقدم رأيها فيمن سيخطبها.

 

وتغذي وسائل الإعلام هذا الاتجاه ليضعف تأثير الأسرة تدريجيا على هذا القرار حتى أصبح في بعض البلاد العربية ملكا خاصا بالأبناء لا يجوز تدخل الأهل فيه، وأصبح القرار ملكية خاصة لا يجوز مصادرتها أو حتى إبداء الرأي فيه.

 

فماذا يملك أبناء العشرين وما حولها من العلوم والخبرات والتجارب التي تمكنهم -وحدهم ودون مشورة أو نصح- من معرفة كثير من العلامات التي يظهر فيها حسن أو سوء اختيار أي من الزوجين؟! وماذا يملك هؤلاء إلا الانبهار بكل لامع براق حتى لو كان زائفا؟َ فأصحاب الخبرة والتجربة والعلم الذين عركتهم الحياة وعاشوا وتعاملوا مع آلاف الناس أقدر على معرفة كثير من بواطن الأمور، ويدركون جيدا أنه ليس كل ما يلمع ذهبا وليس كل مغموس في التراب لا قيمة له، ويوقنون أن كثيرا من جواهر وكنوز البحر تكمن في أعماقه بينما لا يطفو إلا الزبد الفارغ والشوائب العالقة والحيوانات النافقة.

 

إن أصعب وأهم مرحلة في الزواج هي مرحلة الاختيار ولا بد أن يتشارك فيها الجميع لأن المسئولية تقع عليهم جميعًا، ولو قدر الله بوقوع مشكلة سيتحملونها أيضًا جميعًا فلا يجعلوا عليهم ضغوطًا من خارجهم تجبرهم على قبول ما يمكن القبول به وخاصة أن هذا القرار له ما بعده وربما يمتد أثره لعشرات السنين.

 

يحيى البوليني