مفهوم مظاهرة الكفار في القرآن
الواجب على المسلمين كافة أن يعاون بعضهم بعضًاً، وأن يشد بعضهم من أزر بعض، وأن يكونوا يدًا واحدة على من عادهم، ومن ثم لا يليق بأهل الإسلام أن يخذل بعضهم بعضًاً، ولا أن يكون بعضهم عونًاً للكافرين على إخوانهم.
إذا كان مفهوم (المظاهرة) في الأدبيات السياسية يعني تعبير الجمهور، أو جماعة معينة عن رأيهم أو اعتراضهم أو غضبهم أو فرحهم بشكل جماعي، بقصد إيصال وجهة نظر معينة، أو إبراز موقف محدد، فإن لهذا المفهوم معنى أخر في القرأن، من غير أن يكون مخالفاً له بالضرورة، تسعى السطور التالية إلى بيان حقيقته وتجلية أبعاده..
المظاهرة لغة:
(المظاهرة) لغة: المعاونة، والتظاهر: التعاون، مأخوذ من ظهر الإنسان أو البعير، لأن الظهر به قوة الإنسان في المشي والتغلب، وبه قوة البعير في الرحلة والحمل.
و(الظهير): العون والمعين، الواحد والجمع فيه سواء، يقال: بعير ظهير، أي: قوي على الرحلة، فمُثِّلَ المُعِين لأحدٍ على عمل بحال من يُعطيه ظهره يحمل عليه، فكأنه يعيره ظهره، ويعيره الأخر ظهره، فمن ثَم جاءت صيغة المفاعلة.
قال تعالى: {وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء:88].
وقال أيضًاً: {فلن أكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِين} [القصص:17].
وظاهر عليه: أعان، واستظهر عليه: استعانه.
وظهرتُ عليه: قويت، يقال: ظهر فلان على فلان، أي: قوي عليه
ويجوز أن يكون هذا الفعل (ظهر) مشتقًاً من الظهور، وهو مصدر ضد الخفاء، لأن المرء إذا انتصر على غيره ظهر حاله للناس، فمُثِّل بالشيء الذي ظهر بعد خفاء، وعلى حسب هذا المعنى جاء قوله سبحانه: إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ [الكهف:20]، أي: يعلموا مكانكم وأمركم. وقوله عز وجل: {وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ} [التحريم:3]، أي: أطلعه الله عليه
مفهوم مظاهرة الكفار في القرأن:
مفهوم (المظاهرة) في القرآن الكريم يتحدد على ضوء ثلاث آيات كريمة:
أولها: جاءت في سياق حديث القرأن عن إبرام المعاهدات مع المشركين، يقول سبحانه في ذلك: {إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ } [التوبة:4].
ثانيها: جاءت في سياق الحديث عن غزوة الأحزاب، ومناصرة فريق من أهل الكتاب للمشركين، قال تعالى: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْل الْكِتَاب مِنْ صَيَاصِيهمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبهمُ الرُّعْبَ} [الأحزاب:26].
أما ثالثها: فقد جاءت في سياق الحديث عن مبدأ التعامل مع غير المسلمين، يقول تعالى في هذا الصدد: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة:9].
فقد أبانت الآية الأولى أن الكافرين إذا كانوا في عهد مع المسلمين، ولم يعاونوا على المسلمين أحدًاً من المشركين، فالواجب على المسلمين أحترم العهد الذي بينهم وبين المعاهدين، ولا يجوز لهم نقضه، ما دام المعاهدون ملتزمين بمقتضى هذا العهد.
أما الآية الثانية: فقد قررت مصير من ناصر أهل الكفر، وهم بنو قريظة، الذين عاونوا أبا سفيان ومن معه من الأحزاب على أهل الحق من المسلمين، فنكثوا العهد الذي بينهم وبين نبي الله.
وأما الآية الثالثة فقد أوضحت للمسلمين مبدأ التعامل مع غير المسلمين، ذلك المبدأ الذي يقوم على أساس العدل والبر لأهل السلم من غير المسلمين، ما لم يعاونوا المحاربين لأهل الإسلام، فإن فعلوا فعندئذ لا يجوز برهم، بل يكونون والمحاربين سواء.
ومنطوق هذه الآيات الثلاث يفيد أن (المظاهرة) على المؤمنين إنما تكون من غير المسلمين، ولا تكون من المسلم على المسلم؛ إذ الأصل في المسلم أن يكون عونًا لأخيه المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يكون عليه.
بيد أن المسلم إذا أراد أن ينأى بنفسه عن منهج الشرع، بحيث يكون عوناً للكافرين على المؤمنين، فإنه يدخل في عداد المظاهرين لأعداء هذا الدين، ويكون الموقف منه كالموقف من غير المسلم المظاهر للكافرين على المؤمنين.
ونستطيع أن نقرر على ضوء ما تقدم، أن مفهوم (مظاهرة الكافرين) في القرأن، يُقصد منه معاونة الكافرين على المؤمنين، سواء أكانت هذه المعاونة للكافري? صادرة من غير المسلمين المسالمين، أم كانت صادرة من بعض المسلمين على إخوانهم في العقيدة.
أنواع المظاهرة القرآنية:
ونستطيع أيضًاً أن نقرر على ضوء فهمنا للآيات الثلاث وآيات أُخر، أن (المظاهرة) وفق المنظور القرأني على نوعين:
الأول: مظاهرة سلبية مذمومة، وهي التي سبق الحديث عنها، والتي حاصلها معاونة الكافرين على المسلمين بأي شكل من أشكال التعاون المادي أو المعنوي، وهذا النوع من (المظاهرة) مستفاد من منطوق الآيتين الكريمتين.
الثاني: مظاهرة إيجابية مطلوبة، ويقصد بها نصرة المؤمنين المستضعفين في الأرض، بأي شكل من أشكال النصرة المادية أو المعنوية، وهذا النوع من (المظاهرة) مستفاد من منطوق قوله تعالى: {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم:4].
ومستفاد أيضًا من مفهوم الآيات الثلاث المتقدمة الذكر، ومستفاد كذلك من آيات أُخر..
كقوله تعالى: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:54].
وقوله سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10].
وقوله عز وجل: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة:71].
يقول الشيخ الشنقيطي بصدد هذا النوع من (المظاهرة): "إن العالم الإسلامي يتعاون أولًا مع بعضه، فإذا أعوزه أو بعض دوله حاجة عند غير المسلمين -ممن لم يقاتلوهم، ولم يظاهروا عدواً على قتالهم- فلا مانع من التعاون مع تلك الدولة في ذلك".
ومما يؤيد كل ما تقدم عملياً معاملة النَّبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه من بعده لليهود في خيبر مفاهيم قرأنية أخرى تفيد معنى المظاهرة: ثمة عدد من المفاهيم القرأنية التي تصب في خاتمة المطاف في مضمون ما تقدم من مفهوم (المظاهرة) بنوعيها، من تلك المفاهيم مفهوم: (موالاة) الكافرين، ومفهوم: (البراء) من المشركين.
أما مفهوم (الموالاة): فالمراد منه موالاة الكافرين والسير في ركابهم، وهو أمر نهى القرأن عنه أشد النهي، وحذر منه غاية الحذر، نقرأ في ذلك قوله تعالى: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} [آل عمران:28].
ونقرأ أيضًا في هذا الصدد قوله عز وجل: {أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا} [النساء:44]، والآيات التي تقرر هذا المعنى غير قليلة.
أما مفهوم (البراء) فالمراد منه التبرؤ من أهل الكفر ومواقفهم، وهذا المفهوم أرشدت إليه آيات قرأنية، نحو قوله تعالى: أن الله بريء من المشركين ورسوله [التوبة:3]، وكقوله سبحانه: {وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} [هود:54]. والآيات التي تؤكد على هذا المفهوم كثيرة.
والذي نريد أن نخرج به على ضوء ما تقدم وتقرر: أن الواجب على المسلمين كافة أن يعاون بعضهم بعضًاً، وأن يشد بعضهم من أزر بعض، وأن يكونوا يدًا واحدة على من عادهم، ومن ثم لا يليق بأهل الإسلام أن يخذل بعضهم بعضًاً، ولا أن يكون بعضهم عونًاً للكافرين على إخوانهم.
الشبكة الإسلامية
موقع الشبكة الإسلامية
- التصنيف:
- المصدر: