مفاهيم تحت القصف!

منذ 2014-07-20

"لو كسروا عظامي مش خايف *** لو هدوا البيت مش خايف".. كانت تلك الأنشودة الشعبية الفلسطينية هي المفضلة لديه.. هكذا كان يحلو لذلك الطفل دومًا أن يُدندِن.. لم يطُل مفاهيم الأمة الواحدة والجسد الواحد والتعاطف مع المظلوم وبغض المحتل..! لكن يبدو أن الأمور قد اختلفت اليوم كثيرًا..! يبدو أن "فارس" لو بُعِثَ من جديد ووقف أمام الدبابة رافِعًا حجره لناله من ألسنة وأقلام بعضنا قصفًا أشد من قصف الصهاينة..!

لو كسروا عظامي مش خايف *** لو هدوا البيت مش خايف

كانت تلك الأنشودة الشعبية الفلسطينية هي المفضلة لديه..

هكذا كان يحلو لذلك الطفل دومًا أن يُدندِن..

الطفل "فارس عودة"..

ربما لا يتذكَّر هذا الاسم كثير من الناس اليوم..

وربما لا يعرفه أكثر الجيل الحالي من الشباب..

لكن صورته يقينًًا تجد لها مكانًا في الذاكرة محفورًا بعمق.. يصعب محوه من قلب من رآها..

إنه صاحب الصورة الشهيرة للغاية والتي لا تقل شهرة ورمزية عن صورة الطفل "محمد الدرة" الذي قضى نحبه في حضن والده أثناء انتفاضة فلسطين الثانية..

صورة "فارس" تم التقاطها أثناء وقوفه أمام دبابة إسرائيلية بعد أسابيع من اندلاع الانتفاضة عام 2000م..

طفلٌ يقف أمام دبابة حديثة ويحمل في يده حجرًا يرفعه في مواجهتها ويستعد لإلقائه..

لم يستشهد فارس في ذلك اليوم ونجا من تلك المواجهة مع الدبابة..

ثم لم تمرّ أيام حتى نال ما كان دومًا يتمنى كما تروي أُمّه..

استشهد فارس أثناء انحنائه لالتقاط حجر جديد يمارس به هوايته المفضلة في إهانة المحتل الذي قتل ابن خالته شادي منذ أسابيع..

استشهد وترك لينزف أمام معبر كارني لمدة ساعة كاملة حتى قضى نحبه بعد تسعة أيام من التقاط الصورة الشهيرة..

ولقد كانت صورة محرِجة للغاية..

كانت محرِجة للجميع..

والأهم أنها في ذلك الوقت نالت تقدير الجميع الذين احترموا تلك الشجاعة النادرة التي لا يتمتع بمثلها كثير من الرجال ذوي الشوارب والعضلات..

لقد احترم العالم صموده..

ومقاومته..

نعم مقاومته..

هكذا كانت تُسمَّى في الأيام الخوالي: مقاومة صامدة تقف في وجه محتل غاصب..

كانت الخلافات الأيديولوجية موجودة وكذلك الاعتراضات المنهجية والشقاقات السياسية والتقسيمات الفكرية
لكنها لم تنفِ الإنسانية..

ولم تمحُ المفاهيم الطبيعية والمنطقية ولم تنجح قذائف أولياء المحتل الكارهين من قصف تلك المفاهيم..

أو على الأقل لم تنجح في إزالة الحياء عن أقلامٍ وألسنة حداد..

لا أتذكَّر أن أحدًا في تلك الأيام سارع للوم الطفل "فارس" على وقفته أو جلده بسياط النقد السمج من نوعية وماذا تفعل حجارتك وما قيمة وقفتك ثم شهادتك؟!

لم يطلب أحد من الغلام وشعبه أن يموتوا في صمتٍ وأن يستأنسوا ويرضوا بواقع احتلال غاشم ولا يرفعوا حتى حجر يبعثوا من خلاله برسالة أننا لا زلنا أحياء وأننا لم نستسِلم بعد..

الكل فيما أعلم ومن جميع التوجهات والأيديولوجيات المخالف منهم والموافق والكاره منهم والمحب أجمعوا على احترام المشهد..

ربما وُجد من يرفضه أو حتى من يحتقروا بذله لكنهم في الحقيقة كانوا يضعون ألسنتهم الحداد في أفواههم، ويستحيون أن يخرجوا أضغانهم وسط مزاج عام يتعاطف مع المقاوم ويبغض المحتل الغاصب..!

في تلك الأيام لم نكن نُعنى كثيرًا بتفصيص الأيديولوجيات ولا استرجاع الخلافات..

كانت المظاهرات المناصرة للانتفاضة على أشدها في جُلّ العواصم العربية والإسلامية حتى تلك التي لم تعرف التظاهرات طريقًا إلى شوارعها الفاخرة يومًا - خرجت فيها الجماهير متضامنة مع عضو من الجسد الواحد
أو الذي كان واحدًا..!

في تلك الأيام لم نكن نُعنى كثيرًا بتفصيص الأيديولوجيات المتصارعة وتقديم كشوف حسابات فصائل المقاومة أثناء القصف ولم نكن نسكن حرجنا وعجزنا بلوم المظلوم، أو التربص بأشياء ننسبها إليه لنستطيع أن ننام قريري العين وهو يقصف ويقتل فهو يستحق وهو سيئ وهو متهور وهو الذي تسبَّب فيما يحدث له وبالتالي... "وأنا ما لي"..!

ما الذي أوقف "فارس" أمام الدبابة..

لماذا لم يُفسِح لها الطريق ويُحييها ويشكرها أن احتلت بلاده بالمرة؟!

لم نكن نقول ذلك..

ولم نكن لنقوله..

ببساطة.. لأن القصف الذي كان يهوي على رؤوس الفلسطينيين لم يطُل مفاهيمنا..!

لم يطل مفاهيم الأمة الواحدة والجسد الواحد والتعاطف مع المظلوم وبغض المحتل..!

لكن يبدو أن الأمور قد اختلفت اليوم كثيرًا..!

ويبدو أن "فارس" لو بُعِثَ من جديد ووقف أمام الدبابة رافِعًا حجره لناله من ألسنة وأقلام بعضنا قصفًا أشد من قصف الصهاينة..!
 

 

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام