مفاتيح النصر (1)

منذ 2014-07-23

أرسل عمرُ إلى سعدٍ، وأمّره على العراق وقال له: "يا سعد: لا يغرنّك من الله أن قيل خالُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحِبُهُ فإن الله لا يمحو السيىء بالسيىء، ولكن يمحو السيىء بالحسَن، وإن الله ليس بينه وبين أحدٍ نسبٌ إلاّ بطاعة، فلناُ شرٌّ شريفهم ووضيعهم في ذات الله سواءٌ، الله ربهم وهم عباده، يُدركون ما عند الله بطاعته، فانظر الأمر الذي رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه فالزمْه، فإنه الأمرُ، هذه عِظتي إيّاكَ، إن تركتها ورغبتَ عنها حبطَ عملُك، وكنتَ من الخاسرين".

بسم الله والحمد لله، الحمد لله الذي منح المتقين من طيب محبته نسيماً، وأذاقهم حلاوة الإيمان، وهداهُم صرطاً مستقيما، وطمأنهم يوم لقائِه بقوله: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا} [الأحزاب:44]، نحمده سبحانه، ونشكره على إحسانه الذي لم يزل عمياً، وصلّى الله وسلم على محمدٍ عبده ورسوله الذي كان بالمؤمنين رحيمًا وعلى آله وصحبه الذين نصروا دعوة الله ودينه نصراً عظيما. أما بعد:

أيها الإخوة:
من عادتنا أن نفصل بين سيرة رسولٍ ورسول آخر بموعظة، وأحببتُ بعد أن انتهينا من قصة هود، أن أُذكِّر نفسي وإياكم بموعظة، ولكن ما مرّ بهذه الأُمّة في فلسطين، وعلى الخصوص في غزة حرّك مشاعر الدنيا، وأظهر كوامن الخير في هذه الأُمّة، التي بدأت تحنُّ إلى ماضيها المجيد، وتتلمسُ طُرق العودة لتحقيق النصر على الطغاة أعداء الإسلام، وعلى رأسهم اليهود الذين قال الله عز وجل فيهم: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِين آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} [المائدة:82].

انتبه يا عبد الله..
فقد ذكر الله المشركين مع اليهود لمناسبة اجتماع الفريقين على عدواة المسلمين، فقد ألّف بين اليهود والمشركين بُغضُ المسلمين حسداً لمجيء النبوةِ في غيرهم، وخوفاً من ذهابِ سلطانهم ومكانتهم.
تتلمّسُ أُمتنا الآن طريق النصر والعزة، وهو بين يديها:
 

كالعيس في البيداء يقتلها الظما *** والماء فوق ظهورها محمولُ


ودرسنا اليوم يدور حول هذا الموضوع، وإليكم البيان..
المقدمة:
يروي المؤرخون: أن قائد جيش الفرس في معركة القادسية كان (رستم بن فرخزاد) وهو أرمنيّ الأصل، وكان قائد جيش المسلمين (سعد بن مالك الزهري)، وقبل المعركة بشهور حيث الجيشان يستعدان للمعركة الفاصلة كانت بين القائدين رسلٌ متبادلةٌ، وكان رستم عندما يلتقي برسلِ سعدٍ ينظرُ إليهم، ويتفحّص صفاتهم، ويرى تواضعهم وتصميمهم، فقال عبارة بعدها وصف حال المسلمين، أثارت غضب كبار الفرس حوله، قال: "لقد ملك هؤلاء مفاتيح النصر"، فمتى قال ذلك؟

قال المؤرخون:
في أواخر السنة الثالثة عشرة للهجرة، وفي أواخر أيام خلافة الصديق، وجه جيشاً إلى أطراف العراق بقيادة (خالد بن الوليد والمثنى بن حارثة الشيباني)، أخضع هذان القائدان قبائل العرب، وانتصروا على الفرس في الحيرة والأنبار، ثم تحول خالد إلى الشام لقتل الروم، وتوفى المثنى في أوائل السنة الرابعة عشرة للهجرة قبل معركة القادسية من جُرحٍ سابقٍ أصابه يوم معركة الجسر.

كان يحكم أيّامها (بوران بنت كسرى) جعلوها ملكة عليهم فلما استولى المسلمون على (الحيرة والأنبار)؛ اجتمع الفرس وعزلوا (بوران)، وملّكوا عليهم (يزدجرد بن شهريار بن كسرى) وهو الوحيد الباقي من نسلِ كسرى بعد أن هرّبته أُمّه إلى أخواله وهو صغير، هرّبته من مجزرة قام بها (شيرين) لكل ذكور آل كسرى في القصر الأبيض بعد وليمة دعا إليها كل الذكور ثم قتلهم، ونجا يزدجرد حيث هرّبته أُمُّه وهو صغير إلى أخواله.

كان عمر يزدجرد حينها إحدى وعشرين سنةً، اجتمع الفرس عليه وأيدوه وقويت شوكته، فنقض العهود التي كانت بين بوران الملكة السابقة وبين المسلمين، واشتد في أذى المسلمين.

قال المؤرخون:
"دخلت السنة الرابعة عشرة للهجرة وعمر بن الخطاب هو الخليفة بعد الصديق، ودخلت الأخبار لعمر بما فعل (يزدجرد) من نقضِ العهود، وإِذاء المسلمين".

قال المؤرخون: "فركب عمرُ في أول شهر المحرّم في هذه السنة من المدينة واستخلف عليها عليّاً، وتهيأ عمرُ للقاء يزدجرد، ومشى حتى وصل إلى ماءٍ يُقال له (صِرَار)"، قال الخطّابيُّ: "هو موضعٌ على ثلاثة أميال من المدينة على طريق العراق، وهو بئرٌ قديمة محتفرٌ في الجاهلية"، وفي حديث جابرٍ بن عبد الله في البخاري قال: "اشترى منّي صلى الله عليه وسلم بعيراً بأُوقيتين ودرهم أو درهمين. فلما قدِمَ (صِراراً) أمر ببقرة فذُبِحَت فأكلوا منها"، وهي عينُ ماء، قال الشاعر: 
 

لعل صِراراً أن تجيش بيارُها


جمع عمرُ كبار الصحابة، واستدعى عليّاً من المدينة، وشاورهم فيما عزم عليه من الخروج بنفسه لمُلاقاة يزدجرد، فانبرى عبد الرحمن بن عوف، وعارضَ فكرة قيادة عمرَ للجيش وهو أميرُ المؤمنين وقال: "أخشى إن كُسِرتَ أن يضعفَ المسلمون في سائر أقطار الأرض"، واقترح عبد الرحمن بن عوف إرسال رجلٍ مُحنّكٍ خبيرٍ.
قال عبد الرحمن: "وجدته، إنه الأسدُ في براثِنِه كالأصابع (سعد بن مالك الزهري)، ومال أبو وقاص بن أُهيب بن عبد مناف". 

أرسل عمرُ إلى سعدٍ، وأمّره على العراق وقال له: "يا سعد: لا يغرنّك من الله أن قيل خالُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحِبُهُ فإن الله لا يمحو السيء بالسيء، ولكن يمحو السيء بالحسَن، وإن الله ليس بينه وبين أحدٍ نسبٌ إلاّ بطاعة، فلناُ شرٌّ شريفهم ووضيعهم في ذات الله سواءٌ، الله ربهم وهم عباده، يُدركون ما عند الله بطاعته، فانظر الأمر الذي رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه فالزمْه، فإنه الأمرُ، هذه عِظتي إيّاكَ، إن تركتها ورغبتَ عنها حبطَ عملُك، وكنتَ من الخاسرين".

هذه وصية عمر الأولى لسعد، ومن سعدُ؟ أحد العشرةِ المبشرين بالجنّة، وهو الذي تولّى فتح القادسية.
قال سفيان بن عيينه: "تولّى سعدٌ أمر الناس بالقادسية وأصابه جراح قبلها، فلم يشهدْ فتحها"، فقال رجلٌ من بُجَيْلة بعد النصر:
 

ألم ترَ أن الله أظهر دينه *** وسعد بباب القادسية معصم
فأبنا وقد آمت نساء كثيرة *** ونسوة سعد ليس فيهن أيم


فبلغت الأبياتُ سعداً فقال: "اللهم إن قال الذي قال رياءً وسُمعة فاقطعْ لسانه عنّي ويده".
قال قبيصة: "فوالله إني لواقفٌ بين الصفين يومئذٍ إذ أقبلتْ نشَّابةٌ بدعوةِ سعدٍ حتى وقعت في لسانهِ، ويبسَ شِقَّه فما تكلّم كلمةً حتى لحق بالله".

أمطى عمر سعداً، ثم ودَّعه وعند الوداع قال له: "هذه الثانية من الوصايا:
إنِّي قد وليتُكَ حرب العراق، فاحفظ وصيتي، فإنك ستقدُمُ على أمرٍ شديد لا يُخلِّصُ منه إلاّ الحق فالصبر الصبر على ما أصابك ونابك يجتمع لك خشية الله، واعلم أن خشية الله تجتمع في أمرين: في طاعته، واجتناب معصيته وإنما أطاعَهُ من أطاعه ببغض الدنيا وحُبُّ الآخرة، وعصاه من عصاه بحُبِّ الدنيا وبُغضِ الآخرة وللقلوب حقائق يُنْشِئُها الله إنشاءً، منها الُّسر والعلانيةُ، فأما العلانية: فأن يكون حامده وذامه في الحق سواء، وأما السر: فيعرف بظهور الحكمة من قلبه على لسانه، وبمحبة الناس؛ فلا تزهد في التحبب، فإن النبيين قد سألوا محبتهم، وإن الله إذا أحب عبدا حببه؛ وإذا أبغض عبدا بغّضه، فاعتبر منزلتك عند الله سبحانه وتعالى بمنزلتك عند الناس".

قال المؤرخون: "ثم سرحهم وسار معهم إلى مكانٍ اسمه (الأعوصُ) على بُعد أميالٍ من المدينة".
قال الشيخ حسن أيوب في كتابه (الخلفاء الراشدون): "كان سعد يتحرك في الأرض التي بين الحجاز والكوفة، يستمع الأخبار، ورسل عمر تأتيه، وكتبه عليه تتوالى تمُدُّه بالجندِ وتُشير عليه كيف يتحرك، وكان من بعض وصايا عمر الكتابية لسعدٍ: أكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، واكتب لي بجميع أحوالكم وتفاصيلها، وكيف تنزلون، وأين يكون منكم عدوكم، واجعلني بكتُبِك كأني أنظر إليكم".

ثم كتب سعدٌ إلى عمر يُخبرهُ بأمر الفرس وأنهم قد جردوا لحربِهِ (رستم بن فرخزاد) وأمثاله، ثم قال: "فهم يطلبوننا، ونحن نطلبُهم، وأمر الله بعد ماضٍ إلى ما قدّر لنا وعلينا، فنسألُ الله خيرَ القضاءِ، وخير القدرِ في عافيةٍ".

قال المؤرخون: "قصَد سعد القادسية وكانت باب العراق، والتقى الجيشان وترددت الرسل بين القائدين، كان ملك الفرس (يزدجرد) وقحاً سيءَ الخُلُق، وهو الذي أسند إلى رستم الأمر بقتل المسلمين، ويدُلّ على وقاحته؛ أن أوّل لقاءٍ حصل بينه وبين (النعمان بن مقرن) أحدِ أبطال المسلمين وأحدِ رسُلِ سعدٍ، قال يزدجرد للنعمان: أمرتُ رستم أن يدفنكم وصاحبكم في خندق القادسية".

قال العلماء:
لما انتدب يزدجرد رستم لحرب المسلمين، استعفى رستم وطلب اعفاءه من ذلك وقال يزدجرد: "إن هذا ليس برأي -أن إرسال جيشٍ واحد جرارٍ لقتل العرب- في الحرب، إن إرسال الجيوش بعد الجيوش أشدُّ على العرب من أن يكسروا جيشاً كثيفاً مرة واحدة"، رفض يزدجرد هذا الكلام، ورفض إعفاء رستم، فخرج رستم للمهمة مُكرهاً.

جلس رستم ذات ليلة في مقرِّ قيادته الضخم، وقد ركبهُ همٌّ كبير بعد لقاءٍ ضمّه مع سبعةٍ من رُسُلِ سعد إليه، وكان من بين هؤلاء السبعة (النعمان بن مقرن، والأشعث ابن قيس، والمُغيرة بن شعبة، وعَمرو بن يكرب، وغيرهم..)، وكان رستم قد سألهم في اللقاء سؤالاً: "ما الذي جاء بكم؟".

ويأتيه الجواب: "جئنا لموعودِ الله إيانا أخذ بلادكم وأموالكم فنحن على يقين من ذلك".
قال المؤرخون: "وزادَ همّه همّاً، أنه رأى في منا?ه كأن مَلَكاً نزل من السماء فختمَ على سلاح الفرس كله، ثم دفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم دفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمر بن الخطاب".

خاف رستم، فحاول أن يُطاول سعداً في اللقاء، روى ذلك أحدُ المؤرخين المسلمين وهو (سيفُ بن عمر) حيث قال: "إن رستم طاول سعداً في اللقاء حتى كان بين خروج رستم من المدائن، وبين لقائه بسعدٍ أربعة أشهر".
كان هدف رستم من ذلك أن يُضجر سعداً ومن معه من المسلمين حتى يتراجعوا، ولكن ضغط يزدجرد على رستم دفعه إلى المعركة، ولولا ذلك لما التقى سعداً، لأنه وقع في قلبه أن المسلمين سينتصرون لِما توسّمه فيهم، ولِما سمِعه عنهم من جنده ولِما رأى في منامه.

جلس رستم في مقر قيادته الضخم بعد هزيمٍ من الليل، وبعد أن نام الجند، واستدعى بعض خاصته من القُواد، والحكماء، وأصحاب الرأي وانفرد بهم، وكان من بينهم (الهرمزان)، قائد ميمنة جيش رستم، و(مهران) قائد الميسرة، و(جالينوس) الحكيم وهو على مقدمة جيش الفرس.

التفت رستم إلى من حوله وقال: "لولا أن الملك يزدجرد أمرني بقتل هؤلاء البداة المسلمين لكفيت الفرس مؤنة الحرب"! فالتفت الهرمزان وقال: "وهل عندك من طريقة غير القتل لهؤلاء المسلمين؟"، قال رستم بعد أن سكت لحظات يتصنع الحكمة والتبصّر فيها: "إن حكماء فارس من أباءنا وأجدادنا علّمونا أن الشجاعة نوعان: الأولى: شجاعة الجاهل بضعفه المغتر بطول ظله، وتلك شجاعة العنز إذ تتصدى للفيل، الثانية: شجاعة المتمكن من نفسه، الخبير بعزمه وقوته، فتلك شجاعة الفيل إذا تمرُّ بجانب خرطومه العنز.

ولقد كان البداة قبل خروج ذلك الرجل فيهم، -ويعني محمداً صلى الله عليه وسلم- عارفين بفقرهم وضعفهم وذلهم، لا تمتدُّ أعينهم إلى ما وراء خيامهم، حتى إذا خرج ذلك الرجل فأسكرهم بسحر بلاغته، وخدعهم بزخرف قوله، نسوا فقرهم وضعفهم، وصار حالهم كحال العنز قامت لتُناطح الفيل، ثم سكت".

فانبرى الهرمزان قائلاً: "هذا صحيح ياسيدي، ولكن هل من طريقة إلى إضعاف حماسهم بغير القتل؟!".
قال رستم: "نعم، أن نُريهم صورة الغنى والترف والسلطان، فإذا فتحوا أعينهم على ما اعتدنا من نعيمٍ، وعلى ما نسبح فيه من ثرواتٍ وبذخ، فإنهم يُدركون أن مدينة الذهب والديباج لا تُقاوم بحجارة الصحراء وخيامها، وإنّي مرسلٌ إلى قائد المسلمين ليبعث لنا وفداً منهم نباحثهم في شأن الحرب، وكل هدفي أن أُطلعهم على ما يُبهر عيونهم من عظمة فارس وثرائها وقوتها؛ ليكون ما رأوه كافياً في ردّهم خائفين خائبين.

فقال الهرمزان: "هذا عين الصواب". وقال جالينوس الحكيم: "إنها عين الحكمة".
قال المؤرخون: "ومع بزوغ شمس اليوم الثاني كان يقف أمام سعدٍ بن أبي وقاص -داحر رستم في القادسية- رسولٌ كبيرٌ ذو رتبةٍ عسكرية عالية أوفده رستم طالباً من سعدٍ أن يرسل إليهم من يُكلمهم في شأن الحرب.

فأرسل سعد المغيرة بن شعبة ثم ربعيَّ بن عامر بعده حين طلب رستم رسولاً آخر من المسلمين بعد المغيرة، قال للمغيرة: "إنكم جيرانُنا وكُنّا نُحسِنُ إليكم، فارجعوا إلى بلادكم ولا نمنع تجارتكم من الدخول إلى بلادنا"، فقال المغيرة: "ليس طلبنا الدنيا، وإنما همُّنا الآخرة".

فقال رستم: "وما هو؟"، قال المغيرة: "أما عموده الذي لا يصلحُ شيءٌ إلاّ به، فشهادة أن لا إله إلاّ الله، وأن محمداً رسول الله، والإقرار بما جاء من عند الله"، فقال رستم: "ما أحسن هذا؟! وأيُّ شيءٍ أيضاً؟" قال المغيرة: "وإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله تعالى"، قال: "وهذا حسنٌ أيضاً، وأيُّ شيءٍ كذلك؟" قال المغيرة: "والناس بنوا آدم وحواء فهم إخوةٌ لأبٍّ وأُمّ"، قال رستم: "وهذا حسنٌ أيضاً، أرأيت إن دخلنا بدينكم أترجعون عن بلادنا؟".

قال المغيرة: "إيْ والله لا نقرب بلادكم إلاّ في تجارة أو حاجة"، قال: "وحسنُ أيضاً"، فلما خرج المغيرة ناقشهم رستم في الإسلام فأنفُوا وأَبْوَ، قبحهم الله وأخزاهم وقد فعل سبحانه.

قال ابن كثير قي تاريخه: "ثم بعث إليهم سعد بن أبي وقاص رسولاً آخر بطلب من رستم وهو ربعي بن عامر، وقبل وصول ربعي هيؤوا مجلس رستم باليواقيت، واللآلئ الثمينة والزينة الفاخرة، وجلس رستم على سريرٍ من ذهب وعليه تاجُهُ، ودخل ربعي في ثيابٍ صفيقةٍ متواضعه رثةٍ، وسيفٍ وترس، وفرسٍ قصيرة قد ركبها ودخل عليها حتى داس على طرفِ البساط وعليه سلاحُهُ وبيضته، قال الجند لربعي: ضع سلاحك، قال: لم أتكلم من نفسي وأضع سلاحي، وإنما دعوتموني وإلاّ رجعتُ، قال رستم: اسمحوا له، فأقبل يتوكأ على رمحه فوق النمارق فخرقها، سأله رستم: ما جاء بكم؟ قال: الله ابتعثنا لنُخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان عدل الإسلام، فمن قبل قبلنا منه ورجعنا عنه، ومن أبىَ قاتلناه حتى نُفضي إلى موعود الله، قال رستم: وما موعود الله؟ قال ربعي: الجنة لمن مات والظفر لمن بقي"، وطالت المحاورة، ثم انصرف ربعي.

قال المؤرخون: "التفت رستم إلى رؤساء قومه وقال: هل رأيتم قطُّ أعزُّ وأرجح من كلام هذا الرجل؟ قال الملأ: معاذ الله يا مولانا أن تميل إلى شيءٍ من هذا وتدع دينك لهذا الكلب، أما ترى إلى ثيابه؟ فقال رستم: ويلكم لاتنظروا إلى الثياب، وانظروا إلى الرأي والكلام والسيرة، إن العرب يستخفُّون بالثياب والمأكل، ويصونون الأحساب، الأعمال الطيبة والسمعة".

قال المؤرخون: "ثم بعث رستم يطلب رسلاً آخرين يُكلمهم، فبعث سعدٌ له (حذيفة بن محصّن) فتكلم بكلام يُشبه كلام الربعي، ثم في اليوم الذي يليه وهو الثالث أرسل سعد بن المغيرة بن شعبة فتكلم بكلامٍ طويل حسن، ثم قال رستم له: إنما مثلكم في دخولكم أرضنا كمثل الذباب رأى العسل، فقال من يوصلني إليه وله درهمان؟ فلما سقط عليه غرق فيه، فجعل يطلب الخلاص فلا يجده فقال: من يُخلصني وله أربعة دراهم، ومثلكم كمثل جرذان ألفت جرّة فيها طبٌّ، وفي الجرة ثقب فدخل الأول فأقام فيها، ودخل آخر وخرج، وكلموا الأول في الخروج فلم يرضَ. فسَمِنَ فأراد بعد فترة أن يعود إلى أهله ليُريهُم سِمنَهُ فضاق عليه الثقب، فاستشار رفاقه فقالوا: انتظر حتى تعود إلى هزالك، ثم أدركه صاحب الجرة فقتله، ومثلكم كمثل ثعلبٍ ضعيفٍ دخل جحراً في كرْمٍ فلما رآه صاحب الكرم ضعيفاً رحمه فتركه، فلما سمن أفسد شيئاً كثيراً، فلما رآه صاحب الكْرم استعان بغلمانه وحاول الثعلب الخروج فلم يستطع لسُمنه فقُتِل. وهكذا تخرجون من ديارنا".

فأجابه المغيرة: "ستعلمُ غداً".
هنا استشاط رستم غضباً، ثم أقسم بالشمس قائلاً: "سأقتلكم غداً"، قال بعض أهل العلم معلقاً على مقابلة ربعي بن عامر لرستم وماذا قال له ربعي، قال: "لقد كان تصرّف ربعي بن عامر ردّاً فعلياً سجّله التاريخ، وهو ردٌّ فيه استعلاءٌ على بريق الذهب، والمعادن والإستبرق، إنه ردُّ حضارة إلهية فتح الله بابها للمسلمين ليدخلوا إلى عُروش الدنيا من بابٍ أوسعَ من الأبواب المادية"، ثم يقول: "ونحمد الله أن كان ربعي من طرازٍ غير طراز شباب اليوم من المسلمين الذين نظروا إلى بهرج الحضارة الغربية فقط، وعكفوا على تقديسها، ولا يستطيعون انفلاتاً من تقليدها، ولو كان ربعي من طراز شباب اليوم لما كان للتاريخ الإسلامي في ذلك الشأن، إذ كان ربعي عندها سيتصاغر ويعودُ أدراجه، ويقدّم الولاء لرستم، ويرجع ليقول للمسلمين كما يقول الكثيرون اليوم: "لانستطيع أن نقف في وجه التيار الفارسي الذي يعيشُ وسط الذهب والإستبرق".

لا، لم يقل ربعي هذا، وإنما قال ما سمعتموه قبل قليل، وما تعلمونه من كتب التاريخ، عندما قال رستم كلمته المشهورة: "هؤلاء والله يستخفُّون بالزينة والمال، والله سيَبْلُغُون ما أرادوا ولن يقف أمامهم شيءٌ"، ثم ختم كلمتَه بقوله: "إنهم ملكوا مفاتيح النصر"؛ فما هيَ هذه المفاتيح؟