اللي يعيش يا ما يشوف

منذ 2014-09-02

إنها تهون الدينا في عينك، وأنت تذكر الأيام الأول التي قضيت كثيرًا منها لا قوت لك إلا تمرات وشربات ماء، أو بضعة أرغفة تغمسها في زيت الزيتون.. فلا تغضب على زوجتك الآن إن نست صنفًا وسط أطايب كثيرة!

قال: "اللي يمشي يشوف أكتر"!
جلسة مع عاقل تغرّب، وأخرى مع حكيم مجرّب لم يبرح موطن مولده، تؤكدان لك صحة معنى ذلك المثل الشعبي الجميل.. الغربة مدرسة متكاملة المناهج، تصوغ شخصيتك، وتعمل في نفسك عملها..
إنها تعلمك أول ما تعلمك ألا تتعلق إلا بالله؛ فالأمر كله بيده وحده..

ذاك الصديق الذي زين الوعود ومدّ في الأماني ثم كان أول من تخلى عنك..
وهذا الذي أكرمك الله به فاختصر لك مسافات من حياتك كنت تحسب لها سنين عدة بالورقة والقلم..
قد تخسر فيها من ظننتهم خلّان صدق، وتكسب فيها إخوانًا لم تلدهم أمك، وتكرم فيها بآباء لم تأت من أصلابهم!

إنها تهون الدينا في عينك، وأنت تذكر الأيام الأول التي قضيت كثيرًا منها لا قوت لك إلا تمرات وشربات ماء، أو بضعة أرغفة تغمسها في زيت الزيتون.. فلا تغضب على زوجتك الآن إن نست صنفًا وسط أطايب كثيرة!

إنها توقفك على مواضع لطف ربك، وأنت تذكر أيام الحنين وقد سافرت حديث عهد بزواج..
تقلب وجهك في السماء باكيًا حين ترى أحدهم في سيارته مع زوجته وأولاده..
ترجو له البركة، وتطمع في كرم ربك، هل سيأتي علي مثل هذا يوما؟!

فلا تنس كل محروم وتعطف ما استطعت على مشتاق لضمة صغيره..
وأنت ترى ولدك بجانبك في سيارتك الآن، رب اجمع شمل كل مغترب بمن يحب..
وكل محروم بما يشتاق إليه..

الغربة: دموع أمك في صباح عيد لست بجوارها فيه.
الغربة: حشرجة صوت أبيك يوم تتصل به مهنئًا في زواج أخيك، الذي لم تستطع حضوره، يبتلع كلمة لا يريد نطقها: "كنت محتاجك جنبي"!

الغربة: ليل الشتاء الذي يتضاعف طوله بالأرق، ونهار الصيف الذي تزداد حرارته بمكالمة افتقاد.
الغربة: حقائب تجرها في المطار عليها آثار من دموع الوداع.

وهي أيضًا:
- نظرة السعد التي لا يضاهيها من أمر الدنيا شيء في عيون والديك، وقد جعلك الله سببًا في دخولهما الحرم أول مرة..

- رابطة الود، وميثاق النبل الذي يتنامى بينك وبين من آثرتك على أهلها، وأرضها التي تحبها..
جاوزت حدود الأمان الفطري لكل أنثى، وقطعت بالشوق مسافات البعد فقط لتكون معك..

- فرحة اللقاء بعد الغياب، وقفزات القلب مع صغير يستقبل بالأشواق الطاهرة، وجمال رائحة هواء الوطن..

الوطن..!
يا للغربة حين تهز معنى الوطن في النفس هزا عنيفا..كم هو ملتبس هذا المعنى في نفوس المغتربين !!
أهو أرض المولد والطفولة، وبقايا همس الذكريات في زوايا بيت العائلة الكبير، وآثار وثبات الصبا لم يمحها الزمان من الشارع العتيق..حكايا الصباح، وطريق المدرسة، ورائحة الندى في (الغيطان)..
وإن صرت تعيش على هذه الأرض ك(ضيف) تُسأل من أول يوم في إجازتك: متى الرحيل؟!

أم هو أرض الرزق واستقرار العيش وجمع شتات النفس، والبيت الصغير المملوء دفئًا بأنفاس طفولة أغلى عندك وأحلى من طفولتك، ونبض حب ترجوه أنسًا في دنياك وآخرتك..
وإن كنت تعيش على هذه الأرض كـ(وافد) قد يعود لبلده في طرفة عين؟!

اللي يمشي يشوف أكتر..
يا دنيا! كوني مزرعة للآخرة حيثما كنت، وكيفما بلغت..
يا قلب! لا تتعلق إلا بالله، وطنك حيثما استطعت أن تعبد الله.. 

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام

محمد عطية

كاتب مصري