وقفات تدبرية في سورة السجدة - (1-2)
يقول الحسن بن علي رضي الله عنهما: "إن من كان قبلكم رأوا القرآن رسائل من ربهم، فكانوا يتدبرونها بالليل، ويتفقدونها في النهار".
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه، وبعد:
هذه خواطر وتأملات لآياتٍ مباركات، من كلام رب البريات، نتفكر ونتدبر، ونستخرج الفوائد والدرر، والمواعظ والعبر، من كتاب ربنا الذي لا تنقضي عجائبه، ولا تنتهي كنوزه، لتحيا به القلوب، وتزكو به النفوس.
ما أحوجنا لتلك الوقفات؛ في زمن الفتن والملذات، وهجران القرآن والتعلق بالماديات، فكلام الله سبحانه: "لَا يَسْتَقْصِي مَعَانِيَهُ فَهْمُ الْخَلْقِ، وَلَا يُحِيطُ بِوَصْفِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ ذُو اللِّسَانِ الطَّلْقِ، فَالسَّعِيدُ مَنْ صَرَفَ هِمَّتَهُ إِلَيْهِ، وَوَقَفَ فِكْرَهُ وَعَزْمَهُ عَلَيْهِ، وَالْمُوَفَّقُ مَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ لِتَدَبُّرِهِ، وَاصْطَفَاهُ لِلتَّذْكِيرِ بِهِ وَتَذَكُّرِهِ، فَهُوَ يَرْتَعُ مِنْهُ فِي رِيَاضٍ، وَيَكْرَعُ مِنْهُ فِي حِيَاضٍ" (البرهان في علوم القرآن للزركشي:1/5).
يقول الحسن بن علي رضي الله عنهما: "إن من كان قبلكم رأوا القرآن رسائل من ربهم، فكانوا يتدبرونها بالليل، ويتفقدونها في النهار" (التبيان في آداب حملة القرآن للنووي).
موضوع سورة السجدة ونتيجتها والأثر العملي المترتب عليها وخلاصتها؛ الخضوع لله جل وعلا، لأن السجود أعظم صورة عملية للخضوع والانكسار والافتقار والذل بين يدي الله سبحانه، ومن أعظم أسباب ومقدمات الوصول إلى الخضوع: (اليقين الذي لا شك فيه)، وهو قوة الإيمان والثبات، حتى كأن الإنسان يرى بعينه ما أخبر الله به رسوله عليه الصلاة والسلام من شدة يقينه، لذلك يعتبر اليقين مادة هذه السورة، التي يؤكد الله عليها بطرق وأساليب متنوعة كما سيأتي معنا..
قال خالد بن معدان: "تعلموا اليقين كما تعلموا القرآن حتى تعرفوه فإني أتعلمه".
المتأمل في هذه السورة يجد أنها ترسخ وتثبت اليقين بحقائق الدين في قلب المسلم، فينتج عنه الخضوع والسجود لله، فترى فيها اليقين والخضوع مترابطان متلازمان متجانسان منسجمان متعانقان.
قال تعالى: {الم. تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [السجدة:1-2].
افتتحت الآية بالجملة الأسمية لدلالتها على الرسوخ والثبوت والدوام.
{تَنْزِيلُ الْكِتَابِ} {مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} مبتدأ وخبر، لكن جاءت بينهما جملة قبل ذكر الخبر معترضة بين المبتدأ والخبر {لَا رَيْبَ فِيهِ}، لأن هذه الجملة تحمل موضوع ومقصود وخلاصة السورة، وهو الخضوع الذي لا يتحقق إلا بيقين ثابت وإيمان راسخ، فناسب أن تأتي جملة {لَا رَيْبَ فِيهِ} فتأمل!
دل قوله: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} على انفراده بالخلق والتدبير، والنعم، وكمال غناه، وتمام فقر العالمين إليه، بكل وجه واعتبار.
كلمة {رَبِّ}: توحي بالعطف والرحمة، وأنه لن يضرنا بما أنزل إلينا، لأن الناس اعتادوا أن يسموا الإنسان الملاحظ للشيء المعتني به المحافظ عليه ويحب له الخير يسمى رب، كرب الأسرة، وربة منزل، ورب المال.. وهكذا.
وليس ربك فقط بل هو رب العالمين، بمعنى ربوبيته عظيمة!
لطيفة: "فإن قيل لِمَ جمع العالمين جمع قلة، مع أن المقام يستدعي الإتيان بجمع الكثرة؟
أجيب بأن فيه تنبيهاً على أنهم وإن كثروا قليلون في جنب عظمته وكبريائه" (تفسير السراج المنير للشربيني).
اللهم انفعنا بالقرآن، وارفعنا بالقرآن، واجعله شفيعنا يوم نلقاك..
أيمن الشعبان
داعية إسلامي، ومدير جمعية بيت المقدس، وخطيب واعظ في إدارة الأوقاف السنية بمملكة البحرين.
- التصنيف: