زاد المعاد - هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصلاة (2)

منذ 2014-09-22

كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرفع رأسه مكبِّرًا غيرَ رافعٍ يديه، ويرفع من السجود رأسه قبل يديه، ثم يجلِس مفترِشًا، يفرِشُ رجلَه اليُسرى، ويجلس عليها، وَيَنْصِبُ اليمنى.

فصل: هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصلاة


ثم كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرفع رأسه مكبِّرًا غيرَ رافعٍ يديه، ويرفع من السجود رأسه قبل يديه، ثم يجلِس مفترِشًا، يفرِشُ رجلَه اليُسرى، ويجلس عليها، وَيَنْصِبُ اليمنى.

وذكر النَّسائي عن ابن عمر قال: مِن سنة الصلاة أن ينصِب القدم اليمنى، واستقبالُه بأصابعها القبلة، والجلوسُ على اليسرى ولم يحفظ عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا الموضع جلسة غير هذه.

وكان يضع يديه على فخذيه، ويجعل مِرفقه على فخذه، وطرف يده على رُكبته، ويقبض ثنتين من أصابعه، ويحلِّق حلقة، ثم يرفع أصبعه يدعو بها ويُحرِّكها، هكذا قال وائل بن حُجر عنه.

وأما حديث أبي داود عَنْ عبد الله بن الزبير أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يُشير بأصبعه إذا دعا ولا يُحركها فهذه الزيادة في صحتها نظر، وقد ذكر مسلم الحديث بطوله في (صحيحه) عنه، ولم يذكر هذه الزيادة، بل قال: كان رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا قَعَدَ في الصلاة، جعل قدمَه اليسرى بين فخذه وساقه، وفرش قدمه اليُمْنى، ووضع يَدَه اليُسرى على رُكبته اليسرى، ووضع يده اليمنى على فخذه اليمنى، وأشار بأصبعه [1/238].

وأيضًا فليس في حديث أبي داود عنه أن هذا كان في الصلاة.
وأيضًا لو كان في الصلاة، لكان نافيًا، وحديث وائل بن حُجر مثبتًا،وهو مقدَّم، وهو حديث صحيح، ذكره أبو حاتم في (صحيحه).

ثم كان يقول: (بين السجدتين): «اللهُمَّ اغفِرْ لِي وَارْحَمْنِي واجْبُرني وَاهْدِني، وَارْزُقْنِي» هكذا ذكره ابن عباس رضي الله عنهما عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وذكر حذيفة أنه كان يقول: «رَبِّ اغْفِرْ لي، رَبِّ اغفِرْ لِي».

وكان هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إطالةَ هذا الركن بقدر السجود، وهكذا الثابتُ عنه في جميع الأحاديث، وفي (الصحيح) عن أنس رضي الله عنه: كانَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقعُد بين السجدتين حتى نقول: قَدْ أَوْهَمَ وهذه السنةُ تركها أكثرُ الناس مِن بعد انقراض عصر الصحابة، ولهذا قال ثابت: وكان أنس يصنع شيئًا لا أراكم تصنعونه، يمكُث بين السجدتين حتى نقول: قد نسي، أوقد أوهم [1/239].

وأما من حكَّم السنة ولم يلتفت إلى ما خالفها، فإنه لا يعبأ بما خالف هذا الهديَ.


ثم كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينهض على صدور قدميه وركبتيه معتمِدًا على فخذيه كما ذكر عنه: وائل وأبو هريرة، ولا يعتمِد على الأرض بيديه وقد ذكر عنه مالك بن الحُويرث أنه كان لا ينهضُ حتى يستوي جالسًا. وهذه هي التي تُسمى جلسة الاستراحة [1/240].

واختلف الفقهاء فيها هل هي من سنن الصلاة، فيستحب لكل أحد أن يفعلها، أو ليست من السنن، وإنما يفعلُها من احتاج إليها؟ على قولين هما روايتان عن أحمد رحمه الله. قال الخلال: رجع أحمد إلى حديث مالك بن الحويرث في جلسة الاستراحة، وقال: أخبرني يُوسف بن موسى، أن أبا أُمامة سئلَ عن النهوض، فقال: على صُدور القدمين على حديث رفاعة.

وفي حديث ابن عجلان ما يدلُّ على أنه كان ينهض على صدور قدميه، وقد روي عن عدة من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وسائر من وصف صلاته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يذكر هذه الجلسة، وإنما ذكرت في حديث أبي حُميد، ومالك بن الحويرث. ولو كان هديُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعلَها دائماً، لذكرها كلُّ من وصف صلاته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومجردُ فعله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لها لا يدلُّ على أنها من سنن الصلاة، إلا إذا علِمَ أنه فعلها على أنها سنَّة يُقتدى به فيها، وأما إذا قُدِّر أنه فعلها للحاجة، لم يدل على كونها سنة من سنن الصلاة، فهذا من تحقيق المَنَاط في هذه المسألة.

وكان إذا نهض، افتتح القراءة، ولم يسكت كما كان يسكُت عند افتتاح الصلاة، فاختلف الفقهاء: هل هذا موضع استعاذة أم لا بعد اتفاقهم على أنه ليس موضعَ استفتاح؟ وفي ذلك قولان هما روايتان عن أحمد، وقد بناهما بعض أصحابه على أن قراءة الصلاة هل هي قراءة واحدة؟ فيكفي فيها استعاذة واحدة، أو قراءةُ كلِّ ركعة مستقلة برأسها [1/241].

ولا نزاع بينهم أن الاستفتاح لمجموع الصلاة، والاكتفاء باستعاذة واحدة أظهر، للحديث الصحيح عن أبي هريرة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا نهض من الركعة الثانية استفتح القراءة ب {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِين} ولم يسكت وإنما يكفي استعاذة واحدة، لأنه لم يتخلل القراءتين سكوتٌ، بل تخللهما ذكر، فهي كالقراءة الواحدة إذا تخللها حمدُ اللهِ، أو تسبيح، أو تهليل، أو صلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونحو ذلك.

وكان النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يصلي الثانية كالأولى سواء، إلا في أربعة أشياء: السكوت، والاستفتاح، وتكبيرة الإِحرام، وتطويلها كالأولى، فإنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان لا يستفتحُ، ولا يسكتُ، ولا يُكبر للإِحرام فيها، ويقصرها عن الأولى، فتكون الأولى أطولَ منها في كل صلاة كما تقدم.

فإذا جلس للتشهد، وضع يده اليسرى على فخذه اليسرى، ووضع يده اليمنى على فخذه اليمنى، وأشار بأصبعه السبابة، وكان لا ينصِبُها نصبًا، ولا يُنيمها، بل يَحنيها شيئًا، ويحركها شيئًا، كما تقدم في حديث وائل بن حُجر، وكان يقبِض أصبعين وهما الخِنصر والبِنصر، ويُحلِّق حلقة وهي الوسطى مع الإِبهام ويرفع السبابة يدعو بها، ويرمي ببصره إليها، ويبسُط الكف اليسرى على الفخذ اليسرى، ويتحامل عليها.

وأما صفة جلوسه، فكما تقدم بين السجدتين سواء، يجلس على رجله اليُسرى، وينصِب اليمنى. ولم يُرو عنه في هذه الجلسة غير هذه الصفة [1/242].

وأما حديثُ عبد الله بن الزبير رضي الله عنه الذي رواه مسلم (صحيحه) أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كان إذا قَعَد في الصلاة، جعل قَدَمَه اليُسرى بين فخذه وساقه، وفرش قدمه اليمنى فهذا في التَّشهد الأخير كما يأتي، وهو أحدُ الصفتين اللتين رُويتا عنه، ففي (الصحيحين) مِن حديث أبي حُميد في صفة صلاته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فإذَا جلس في الركعتين، جَلَس على رِجله اليُسرى، ونصَب الأخرى، وإذا جلس في الركعة الأخيرة، قدَّم رجله اليسرى، وَنصبَ اليمنى، وَقَعَد على مقعدته" فذكر أبو حُميد أنه كان ينصِب اليمنى. وذكر ابن الزبير أنه كان يفرشها، ولم يقل أحد عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن هذه صفة جلوسه في التشهد الأول، ولا أعلم أحدًا قال به، بل مِن الناس من قال: يتورَّك في التشهدين، وهذا مذهب مالك رحمه الله،ومِنهم من قال: يفترش فيهما، فينصب اليمنى، ويفترش اليُسرى، ويجلس عليها، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله، ومنهم من قال يتورَّك في كل تشهد يليه السلام، ويفترش في غيره، وهو قول الشافعي رحمه الله، ومنهم من قال يتورَّك في كلِّ صلاة فيها تشهدان في الأخير منهما، فرقًا بين الجلوسين، وهو قول الإِمام أحمد رحمه الله. ومعنى حديث ابن الزبير رضي الله عنه أنه فرش قدمه اليمنى: أنه كان يجلس في هذا الجلوس على مقعدته، فتكون قدمه اليمنى مفروشةً، وقدمُه اليُسرى بين فخذه وساقه، ومقعدته على الأرض، فوقع الاختلاف في قدمه اليمنى في هذا الجلوس: هل كانت مفروشة أو منصوبة؟ وهذا والله أعلم ليس اختلافًا في الحقيقة، فإنه كان لا يجلس على قدمه، بل يخرجها عن يمينه، فتكون بين المنصوبة والمفروشة، فإنها تكون على باطنها الأيمن، فهي مفروشة بمعنى أنه ليس ناصبًا لها، جالسًا على عقبه، ومنصوبة بمعنى أنه ليس جالسًا على باطنها وظهرها إلى الأرض، فصح قول أبي حُميد ومن معه، وقول عبد الله بن الزبير، أو يقال: إنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يَفْعَلُ هذا وهذا، فكان ينصِبُ قدمَه، وربما فرشها أحيانًا، وهذا أروحُ لها [1/243]. والله أعلم.


ثم كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتشهد دائماً في هذه الجلسة، وَيُعَلِّم أصحابه أن يقولوا: "التَّحِيَّاتُ للَّهِ وَالصلَواتُ وَالطَّيِّبَاتُ، السَّلاَمُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه، السَّلاَمُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللهِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ، وَأَشْهَد أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُه".

وقد ذكر النسائي من حديث أبي الزبير عن جابر قال: كان رسُول اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعلِّمنا التشهد، كما يُعلمنا السورةَ من القرآن: "بِسْمِ اللهِ، وَبِاللهِ، التَّحِيَّاتُ لِلهِ، وَالصلَواتُ، وَالطَّيِّبَاتُ، السلاَمُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النبَّيُّ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه، السَّلاَمُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللهِ الصَّالِحِيْنَ، أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِله إِلاَّ اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُه، أَسْأَلُ اللهَ الجَنَّةَ، وَأَعُوذُ بِاللهِ مِنْ النَّار".

ولم تجىء التسميةُ في أول التشهد إلا في هذا الحديث، وله علة غيرُ عنعنة أبي الزبير [1/244].

وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخفِّف هذا التشهد جدًا حتى كأنه على الرَّضْفِ -وهي الحجارة المحماة- ولم يُنقل عنه في حديث قطُّ أنه صلى عليه وعلى آله في هذا التشهد، ولا كان أيضًا يستعيذُ فيه مِن عذاب القبر وعذابِ النَّار، وفِتنة المحيا والممات، وفِتنةِ المسيح الدَّجال، ومن استحبَّ ذلك، فإنما فهمه من عمومات وإطلاقات قد صح تبيينُ موضعها، وتقييدُها بالتشهد الأخير.

ثم كان ينهض مكبِّرًا على صدور قدميه وعلى ركبتيه معتمدًا على فخذه كما تقدم، وقد ذكر مسلم في (صحيحه) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه كان يرفَع يديه في هذا الموضع، وهي في بعض طرق البخاري أيضاً، على أنَّ هذه الزيادة ليست متفقًا عليها في حديث عبد الله بن عمر، فأكثر رواته لا يذكُرونها، وقد جاءَ ذِكرها مصرحًا به في حديث أبي حُميد الساعدي قال: كان رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا قام إلى الصلاة، كبَّر، ثُمَّ رفع يَدَيْهِ حتى يُحاذِيَ بهما مَنْكِبَيْهِ، وَيُقِيمُ كُلَّ عُضوٍ في موضعه، ثم يَقْرَأ، ثم يرفع يديه حتى يُحاذِيَ بهما مَنْكِبَيْهِ، ثم يركعُ ويضَعُ راحتيه على رُكبتيه معتدِلًا لا يُصوِّبُ رأسه ولا يُقْنعُ به، ثُمَّ يقولُ: سَمعَ اللهُ لِمنْ حَمِدَهُ، وَيَرفَعُ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ بهما مَنْكِبَيْهِ، حتَّى يَقَرَّ كُلُّ عَظمٍ إلى مَوْضِعِه، ثم يَهْوي إلى الأرْض، وَيُجَافي يَدَيْهِ عَنْ جَنْبيْهِ ثم يَرْفَعُ رَأْسَهُ، وَيَثْنِي رِجْلَه، فَيَقْعُدُ عَلَيْهَا، ويَفتَحُ أَصَابع رِجْلَيْهِ إذا سَجَد، ثم يُكَبِّرُ، وَيَجْلِسُ عَلَى رِجْلِهِ اليُسرى حتى يَريِحَ كُلُّ عظمٍ إلى مَوضِعِه، ثُمَّ يقُومُ فيصنَعُ في الأخرى مِثْلَ ذَلِكَ، ثم إذَا قَامَ مِنَ الرَّكَعَتيْنِ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى يُحاذِيَ بِهِمَا مَنْكِبَيْهِ كما يَصْنَعُ عِنْدَ افتتاحِ الصلاة، ثم يُصَلِّي بَقيةَ صَلاَتِه هَكَذَا، حتى إذا كَانَتِ السَّجْدَةُ التي فيها التسليمُ، أخرج رِجليه، وَجَلَسَ عَلَى شِقِّه الأيْسَرِ مُتَورِّكًا [1/245].

هذا سياق أبي حاتم في (صحيحه) وهو في (صحيح مسلم) أيضًا، وقد ذكره الترمذي مصححًا له من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كانَ يرفع يديه في هذه المواطن أيضًا.

ثم كان يقرأ الفاتحة وحدها، ولم يثبت عنه أنه قرأ في الركعتين الأخريين بعد الفاتحة شيئًا، وقد ذهب الشافعي في أحد قوليه وغيره إلى استحباب القراءة بما زاد على الفاتحة في الأخريين، واحتج لهذا القولِ بحديث أبي سعيد الذي في (الصحيح): حزرْنَا قيامَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الظهر في الركعتين الأوليين قَدْر قِراءة (ألم تنزيلَ السَّجدة)، وحزرنا قيامَه في الركعتين الأخريين قَدْرَ النصف مِن ذلك، وحزرنا قيامَه في الركعتين الأوليين من العصر على قدر قيامه في الركعتين الأُخْرَيَيْنِ من الظهر، وفي الأُخريين من العصر على النصف من ذلك [1/246].


وحديث أبي قتادة المتفق عليه ظاهرٌ في الاقتصار على فاتحة الكتاب في الركعتين الأُخريين.

قال أبو قتادة رضي الله عنه: وكانَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصلي بنا، فيقرأ في الظُّهر والعصر في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسُورتين، ويُسمعنا الآية أحيانًا.

زاد مسلم: ويقرأُ في الأُخريين بفاتحة الكتاب، والحديثان غير صريحين في محل النزاع.

وأما حديث أبي سعيد، فإنما هو حَزر منهم وتخمين، ليس إخبارًا عن تفسير نفسِ فعله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وأما حديث أبي قتادة، فيمكن أن يُراد به أنه كان يقتصر على الفاتحة، وأن يُراد به أنه لم يكن يُخِلُّ بها في الركعتين الأُخريين، بل كان يقرؤها فيهما، كما كان يقرؤها في الأوليين، فكان يقرأ الفاتحة في كل ركعة، وإن كان حديث أبي قتادة في الاقتصار أظهر، فإنه في معرض التقسيم، فإذا قال: كان يقرأ في الأوليين بالفاتحة والسورة، وفي الأُخريين بالفاتحة، كان كالتصريح في اختصاص كل قسم بما ذكر فيه، وعلى هذا، فيمكن أن يُقال: إن هذا أكثر فعله، وربما قرأ في الركعتين الأُخريين بشيء فوق الفاتحة، كما دل عليه حديثُ أبي سعيد، وهذا كما أن هديَه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان تطويلَ القراءة في الفجر، وكان يخففها أحيانًا، وتخفيف القراءة في المغرب، وكان يُطيلها أحيانًا، وترك القنوت في الفجر، وكان يقنت فيها أحيانًا، والإِسرار في الظهر والعصر بالقراءة، وكان يُسمع الصحابة الآية فيها أحيانًا،وترك الجهر بالبسملة، وكان يجهر بها أحيانًا [1/247].

والمقصود أنه كان يفعل في الصلاة شيئًا أحيانًا لِعارض لم يكن من فعله الراتب، ومن هذا لما بعث صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فارسًا طليعة، ثم قام إلى الصلاة، وجعل يلتفِتُ في الصلاة إلى الشِّعْب الذي يجيء منه الطليعة، ولم يكن من هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الالتفاتُ في الصلاة، وفي (صحيح البخاريَ) عن عائشة رضي الله عنها قالت سألتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الالتفاتِ في الصلاة؟ فقال: «هُوَ اخْتِلاَسٌ يَخْتَلِسُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ صلاَةِ الْعَبْدِ».

وفي الترمذي من حديث سعيد بن المسيب عن أنس رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا بُنَيَّ إِيَّاكَ وَالالْتِفَاتَ في الصَّلاَة، فَإِنَّ الالتفاتَ في الصَّلاةِ هَلَكَةٌ، فإن كان وَلا بُدَّ ففي التطوُّعِ، لا في الفرض» ولكن للحديث علتان:
إحداهما: إن رواية سعيد عن أنس لا تعرف.
الثانية: إن في طريقه علي بن زيد بن جدعان، وقد ذكر البزار في مسنده من حديث يُوسف بن عبد الله بن سلام عن أبي الدرداء عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا صَلاة لِلملتفت». فأما حديث ابن عباس: "إن رسُولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يلحظ في الصلاة يمينًا وشمالًا، ولا يلوي عنقه خلف ظهره" فهذا حديث لا يثبُت قال الترمذي فيه: حديث غريب. ولم يزد [1/248].

وقال الخلال: أخبرني الميموني أن أبا عبد الله قيل له: إن بعض الناس أسند أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. كان يلاحظ في الصلاة. فأنكر ذلك إنكارًا شديدًا، حتى تغير وجهُه، وتغير لونُه، وتحرك بدنُه، ورأيتُه في حال ما رأيتُه في حالٍ قطُّ أسوأ منها، وقال. النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. كان يُلاحظ في الصلاة؟! يعني أنه أنكر ذلك، وأحسبه قال: ليس له إسناد، وقال: من روى هذا؟! إنما هذا من سعيد بن المسيب، ثم قال لي بعض أصحابنا: إن أبا عبد الله وَهَّنَ حديثَ سعيد هذا، وضعف إسناده، وقال: إنما هو عن رجل عن سعيد، وقال عبد الله بن أحمد: حدثت أبي بحديث حسان بن إبراهيم عن عبد الملك الكوفي قال: سمعت العلاء قال: سمعت مكحولًا يحدِّث عن أبي أمامة وواثلة: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إذا قام إلى الصلاة لم يلتفت يمينًا ولا شمالًا، ورَمَى ببصره في موضع سجوده، فأنكره جدًا، وقال: اضِرب عليه. فأحمد رحمه الله أنكر هذا وهذا، وكان إنكارُه للأول أشد، لأنه باطل سندًا ومتنًا [1/249].

والثاني: إنما أنكر سنده، وإلا فمتنه غير منكر، والله أعلم.

ولو ثبت الأول، لكان حكاية فعل فَعَلَهُ، لعله كان لمصلحة تتعلق بالصلاة ككلامه عليه السلام هو وأبو بكر وعمر، وذو اليدين في الصلاة لمصلحتها، أو لمصلحة المسلمين، كالحديث الذي رواه أبو داود عن أبي كبشة السَّلُولي عن سَهْلِ بن الحنظلية قال: ثُوبَ بالصلاة يعني صلاةَ الصبح، فجعل رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يصلي وهو يلتفِتُ إلى الشِّعبِ. قال أبو داود: يعني وكان أرسل فارسًا إلى الشِّعب من الليل يَحْرُسُ فهذا الالتفات من الاشتغال بالجهاد في الصلاة وهو يدخل في مداخل العبادات، كصلاة الخوف، وقريبٌ منه قولُ عمر: إني لأجهِّز جيشي وأنا في الصلاة. فهذا جمع بين الجهاد والصلاة. ونظيره التفكر في معاني القرآن، واستخراجُ كنوز العلم منه في الصلاة، فهذا جمعٌ بين الصلاة والعلم، فهذا لون، والتفاتُ الغافلين الَّلاهين وأفكارهم لون آَخر، وبالله التوفيق.

فهديه الراتب صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إطالةُ الركعتين الأوليين من الرُّباعية على الأُخريين، وإطالة الأولى من الأوليين على الثانية، ولهذا قال سعد لعمر: أما أنا فأطيلُ في الأوليين، وأحذف في الأُخريين، ولا آلُو أن أقتديَ بصلاة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [1/250].

وكذلك كان هديُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. إطالَة صلاة الفجر على سائر الصلوات، كما تقدم. قالت عائشة رضي الله عنها: فرض اللهُ الصلاة ركعتين ركعتين، فلما هاجر رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،زِيد في صلاة الحضر، إلا الفجر، فإنها أُقِرَّت على حالها من أجل طول القراءة، والمغرب، لأنها وتر النهار.

رواه أبو حاتم بن حبان في (صحيحه) وأصله في (صحيح البخاري)، وهذا كان هديَه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سائر صلاته إطالةُ أولها على آخرها، كما فعل في الكسوف، وفي قيام الليل لما صلَّى ركعتين طويلتين، ثم ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثم ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، حتى أتم صلاته. ولا يُناقض هذا افتتاحَه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلاة الليل بركعتين خفيفتين، وأمره بذلك، لأن هاتين الركعتين مفتاحُ قيام الليل، فهما بمنزلة سنة الفجر وغيرها.

وكذلك الركعتان اللتان كان يُصليهما أحيانًا بعد وتره، تارة جالِسًا، وتارة قائمًا، مع قوله: «اجْعَلُوا آخرَ صَلاَتِكُمْ بِاللَّيْلِ وِتْرًا» فإن هاتين الركعتين لا تُنافيان هذا الأمر، كما أن المغرب وترُ للنهار، وصلاةُ السنة شفعًا بعدها لا يُخرجها عن كونها وترًا للنهار، وكذلك الوترُ لمَا كان عبادة مستقلة، وهو وتر الليل، كانت الركعتان بعده جاريتين مجرى سنة المغرب، من المغرب، ولما كان المغرب فرضًا، كانت محافظته عليه السلام على سنتها أكثر من محافظته على سنة الوتر، وهذا على أصل من يقول بوجوب الوتر ظاهرٌ جدًا، وسيأتي مزيد كلام في هاتين الركعتين إن شاء الله تعالى، وهي مسألة شريفة لعلك لا تراها في مصنف، وبالله التوفيق [1/251].


وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا جلس في التشهد الأخيرِ، جلس متورِّكًا، وكان يُفضي بوركه إلى الأرض، ويُخرج قدمه من ناحية واحدة.

فهذا أحد الوجوه الثلاثة التي رُويت عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في التورُّكِ. ذكره أبو داود في حديث أبي حُميد الساعدي من طريق عبد الله بن لهيعة وقد ذكر أبو حاتم في (صحيحه) هذه الصفة من حديث أبي حميد الساعدي من غير طريق ابن لهيعة، وقد تقدم حديثه [1/252].

الوجه الثاني: ذكره البخاري في (صحيحه) من حديث أبي حميد أيضًا قال: وإذا جلس في الرَّكعة الآخرة، قَدَّم رجله اليُسرى ونصب اليمنى، وقعد على مقعدته فهذا هو الموافق الأول في الجلوس على الوَرِك، وفيه زيادة وصف في هيئة القَدَمَين لم تتعرض الرواية الأولى لها.

الوجه الثالث: ما ذكره مسلم في (صحيحه) من حديث عبد الله بن الزبير: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يجعل قدمه اليُسرى بين فخذه وساقه، ويفرشُ قدمه اليمنى، وهذه هي الصفة التي اختارها أبو القاسم الخِرَقِي في (مختصره) وهذا مخالف للصفتين الأوليين في إخراج اليسرى من جانبه الأيمن، وفي نصب اليُمنى، ولعله كان يفعل هذا تارة، وهذا تارة، وهذا أظهر [1/253].

ويحتمِل أن يكون من اختلاف الرواة، ولم يُذكر عنه عليه السلام هذا التوركُ إلا في التشهد الذي يليه السلام. قال الإِمام أحمد ومن وافقه: هذا مخصوصٌ بالصلاة التي فيها تشهدان، وهذا التورك فيها جُعِل فرقًا بين الجلوس في التشهد الأول الذي يُسن تخفيفه، فيكون الجالس فيه متهيئًا للقيام، وبين الجلوس في التشهد الثاني الذي يكون الجالس فيه مُطمئنًا.

وأيضًا فتكونُ هيئة الجلوسين فارقة بين التشهدين،مذكرة للمصلي حاله. فيهما.
وأيضًا فإن أبا حُميد إنما ذكر هذه الصفة عنه في الجلسة التي في التشهد الثاني، فإنه ذكر صفة جلوسه في التشهد الأول، وأنه كان يجلس مفترشًا، ثم قال: «وإذا جلس في الركعة الآخرة» وفي لفظ: «فإذا جلس في الركعة الرابعة».

وأما قوله في بعض ألفاظه: حتى إذا كانت الجلسة التي فيها التسليمُ، أخرج رجله اليُسرى، وجلس على شقه متورِّكًا، فهذا قد يحتج به من يرى التورك يُشرع في كل تشهد يليه السلام، فيتورك في الثانية، وهو قول الشافعي رحمه الله، وليس بصريح في الدِّلالة، بل سياقُ الحديث يدل على أن ذلك إنما كان في التشهد،الذي يليه السلام من الرباعية والثلاثية، فإنه ذكر صفة جلوسه في التشهد الأول وقيامه منه، ثم قال: "حتى إذا كانت السجدة التي فيها التسليمُ، جلس متورِّكًا" فهذا السياق ظاهر في اختصاص هذا الجلوس بالتشهد الثاني [1/254].


وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا جَلَس في التشهُد، وضع يدَه اليمنى على فخذِه اليمنى، وضمَ أصابعه الثلاث، ونصَب السبابة. وفي لفظ: وقبض أصابعه الثلاث، ووضع يده اليسرى على فخذه اليسرى. ذكره مسلم عن ابن عمر.

وقال وائِل بن حُجر: "جعل حَدَّ مِرْفَقِه الأيمن على فَخذِه اليمنى، ثم قبض ثنتين من أصابعه، وحلَّق حلقة، ثم رفع أصبعه فرأيته يُحركها يدعُو بها" وهو في (السنن).

وفي حديث ابن عمر في (صحيح مسلم) "عَقَدَ ثَلاثَةَ وَخَمسِينَ".

وهذه الرواياتُ كلُّها واحدة، فإن من قال: قبض أصابعه الثلاث، أراد به: أن الوسطى كانت مضمومة لم تكن منشورة كالسبابة، ومن قال: قبض ثنتين من أصابعه، أراد: أن الوسطى لم تكن مقبوضة مع البنصر، بل الخنصر والبنصر متساويتان في القبض دون الوسطى، وقد صرَّح بذلك من قال: وعقد ثلاثة وخمسين، فإن الوسطى في هذا العقد تكونُ مضمومة، ولا تكون مقبوضة مع البنصر [1/255].

وقد استشكل كثير من الفضلاء هذا، إذ عقدُ ثلاث وخمسين لا يُلائِم واحدة من الصفتين المذكورتين، فإن الخنصر لا بد أن تركب البنصر في هذا العقد.

وقد أجاب عن هذا بعضُ الفضلاء، بأن الثلاثة لها صفتان في هذا العقد: قديمة، وهي التي ذكرت في حديث ابن عمر: تكون فيها الأصابع الثلاث مضمومة مع تحليق الإِبهام مع الوسطى، وحديثة، وهي المعروفة اليوم بين أهل الحساب، والله أعلم.

وكان يبسُط ذراعه على فخذه ولا يجافيها، فيكون حد مرفقه عند آخر فخذه، وأما اليُسرى، فممدودة الأصابع على الفخذ اليُسرى.

وكان يستقبل بأصابعه القبلة في رفع يديه، في ركوعه، وفي سجوده، وفي تشهده، ويستقبل أيضًا بأصابع رجليه القبلة في سجوده. وكان يقول في كل ركعتين: التحيات.

وأما المواضع التي كان يدعو فيها في الصلاة، فسبعة مواطن.

أحدُها: بعد تكبيرة الإِحرام في محل الاستفتاح.
الثاني: قبل الركوع وبعد الفراغ من القراءة في الوتر والقنوت العارض في الصبح قبل الركوع إن صح ذلك، فإن فيه نظرًا.

الثالث: بعد الاعتدال من الركوع، كما ثبت ذلك في (صحيح مسلم) من حديث عبد الله بن أبي أوفى: كان رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا رفع رأسه من الركوع قال: «سَمعَ الله لمِنْ حَمِدَهُ، اللهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، مِلْءَ السَّمَاوَاتِ، وَمِلْءَ الأَرْضِ، وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيءٍ بَعْدُ، اللهُمَّ طَهِّرنِي بِالثَّلجِ وَالبَرَدِ، وَالمَاءِ البَارِدِ، اللهُمَّ طَهِّرْنِي مِنَ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأَبْيَضُ مِنَ الْوَسَخ» [1/256].
الرَّابع: في ركوعه كان يقول: «سُبْحَانَكَ اللهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ، اللهمَّ اغْفِرْ لِي».
الخامس: في سجوده، وكان فيه غالب دعائه.
السادس: بين السجدتين.
السابع: بعد التشهد وقبل السلام، وبذلك أمر في حديث أبي هريرة، وحديث فَضَالة بن عبيد وأمر أيضًا بالدعاء في السجود.

وأما الدعاء بعد السلام من الصلاة مستقبل القبلة أو المأمومين، فلم يكن ذلك مِن هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصلاً، ولا روي عنه بإسناد صحيح، ولا حسن.

وأما تخصيص ذلك بصلاتي الفجر والعصر، فلم يفعل ذلك هو ولا أحدٌ من خلفائه، ولا أرشد إليه أُمّته، وإنما هو استحسان رآه من رآه عوضًا من السنَّة بعدهما، والله أعلم. وعامة الأدعية المتعلقة بالصلاة إنما فعلَها فيها، وأمر بها فيها، وهذا هو اللائق بحال المصلي، فإنه مقبل على ربه، يناجيه ما دام في الصلاة، فإذا سلَّم منها، انقطعت تلك المناجاة، وزال ذلك الموقف بين يديه والقرب منه، فكيف يترك سؤاله في حال مناجاته والقرب منه، والإِقبال عليه، ثم يسأله إذا انصرف عنه؟! ولا ريب أن عكس هذا الحال هو الأولى بالمصلي، إلا أن ها هنا نكتة لطيفة، وهو أن المصلي إذا فرغ من صلاته، وذكر الله وهلَّله وسبَّحه وَحَمِدَه وكبَّره بالأذكار المشروعة عقيب الصلاة، استحب له أن يُصلي على النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد ذلك، ويدعو بما شاء، ويكون دعاؤه عقيبَ هذه العبادة الثانية، لا لكونه دبر الصلاة، فإن كل من ذكر الله، وَحَمِدَه، وأثنى عليه، وصلى على، رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استحب له الدعاءُ عقيبَ ذلك، كما في حديث فَضالة بن عبيد "إِذا صَلَّى أَحَدُكُمْ، فَلْيَبدأْ بِحَمْدِ اللهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، ثُمَّ لِيصلِّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ لِيَدْعُ بِمَا شَاءَ" قال الترمذي: حديث صحيح [1/257].


ثم كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسلم عن يمينه: السلامُ عَلَيكُمْ وَرَحْمَةُ الله، وَعَنْ يساره كذلك. هذا كَانَ فِعله الراتب رواه عنه خمسةَ عشر صحابيًا، وهم: عبد الله بن مسعود، وسعدُ بن أبي وقاص، وسهلُ بن سعد الساعدي، ووائل بن حُجر، وأبو موسى الأشعري، وحُذيفة بن اليمان، وعمَّار بن ياسر، وعبد الله بن عمر، وجابر بن سمرة، والبراء بن عازب، وأبو مالك الأشعري، وطلق بن علي، وأوس بن أوس،وأبو رمثة، وعدي بن عميرة،رضي الله عنهم [1/258].

وقد روى عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يُسلِّم تسليمة واحدة تلقاء وجهه ولكن لم يثبت عنه ذلك مِن وجه صحيح، وأجودُ ما فيه حديثُ عائشة رضي الله عنها أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كان يُسلم تسليمةً واحدة: السلامُ عليكم يرفع بها صوته حتى يُوقِظَنا، هو حديث معلول، وهو في السنن، لكنه كان في قيام الليل والذين رَوَوا عنه التسليمتين رَوَوْا ما شاهدوه في الفرض والنفل،على أن حديثَ عائشة ليس صريحًا في الاقتصار على التسليمة الواحدة، بل أخبرت أنه كان يسلم تسليمة واحدة يُوقظهم بها، ولم تنف الأخرى، بل سكتت عنها، وليس سكوتُها عنها مقدمًا على رواية من حفظها وضبطها، وهم أكثر عدداً، وأحاديثهم أصحُّ، وكثير من أحاديثهم صحيح، والباقي حسان.

قال أبو عمر بن عبد البر: روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يُسلم تسليمة واحدة مِن حديث سعد بن أبي وقاص، ومن حديث عائشة، ومن حديث أنس، إلا أنها معلولة، ولا يصححها أهلُ العلم بالحديث، ثم ذكر علة حديث سعد: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يُسلم في الصلاة تسليمة واحدة. قال: وهذا وهم وغلط، وإنما الحديث: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسلم عن يمينه وعنْ يساره،ثم ساق الحديثَ مِن طريق ابن المبارك، عن مصعب بن ثابت، عن إسماعيل بن محمد بن سعد، عن عامر بن سعد، عن أبيه قال: رأيتُ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسلم عن يمينه وعن شِماله حتى كأَنِّي أنظر إلى صفحة خده، فقال الزهريُّ: ما سمِعنا هذا من حديثِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال له إسماعيل بن محمد: أكُلَّ حديثِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد سمعتَه؟ قال: لا، قال: فنِصفَه؟ قال: لا، قال: فاجْعَلَ هذا مِن النصف الذي لم تَسْمَعْ [1/259].

قال: وأما حديثُ عائشة رضي الله عنها: عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،: كانِّ يسلم تسليمةً واحدة، فلم يرفعه أحد إلا زهير بن محمد وحده عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، رواه عنه عمرو بن أبي سلمة وغيره، وزهير بن محمد عند الجميع، كثير الخطأ لا يحتج به، وذكر ليحيى بن معين هذا الحديث، فقال: حديث عمرو بن أبي سلمة وزهير ضعيفان، لا حجة فيهما قال: وأما حديث أنس، فلم يأت إلا من طريق أيوب السختياني عن أنس، ولم يسمع أيوب من أنس عندهم شيئًا، قال: وقد روي مرسلًا عن الحسن أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانوا يُسلمون تسلمية واحدة، وليس مع القائلين بالتسليمة غير عمل أهل المدينة، قالوا: وهو عمل قد توارثوه كابرًا عن كابر، ومثله يصح الاحتجاجُ به، لأنه لا يخفى لوقوعه في كل يوم مرارًا، وهذه طريقةٌ قد خالفهم فيها سائرُ الفقهاءِ، والصوابُ معهم، والسننُ الثابتة عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا تُدفع ولا تُرد بعمل أهل بلد كائنًا من كان، وقد أحدث الأُمراءُ بالمدينة وغيرِها في الصلاة أمورًا استمر عليها العملُ، ولم يُلْتَفَتْ إلى استمراره وعملُ أهل المدينة الذي يحتج به مَا كان في زمن الخلفاء الراشدين، وأما عملُهم بعد موتهم، وبعد انقراض عصر مَنْ كان بها في الصحابة، فلا فرق بينهم وبين عمل غيرهم، والسنة تحكُم بين الناسِ، لا عملُ أحد بعد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وخلفائه، وبالله التوفيق [1/260].


وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعو في صلاته فيقول: «اللهُمَّ إنِّي أَعوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ، وَأَعُوذُ بكَ مِنْ فِتْنَةِ المَسِيحِ الدَّجَّالِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْةَ المَحْيَا وَالمَمَاتِ، اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ المَأْثَمِ وَالمَغْرَمِ» [1/261].

وكان يقول في صلاتِه أيضًا: «اللهُمَّ اغْفِرْ لي ذَنْبي، وَوَسِّعْ لِي فِي دَارِي، وَبَارِكْ لِي فِيمَا رَزَقْتَنِي».
وكان يقول: «اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الأَمرِ، وَالعَزِيمَةَ عَلَى الرُّشْدِ، وَأَسْأَلُكَ شُكْرَ نِعْمَتِكَ، وَحُسْنَ عِبَادَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ قَلْبًا سَلِيمًا، وَلِسَانًا صَادِقًا، وَأَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا تَعلَمُ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا تَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا تَعْلَمُ»[1/262].

وكان يقول في سجوده «رَبِّ أعْطِ نَفْسِي تَقْوَاهَا، وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا، أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلاَهَا». وقد تقدم ذِكر بعض ما كان يقول في ركوعه وسجوده وجلوسه واعتداله في الركوع.

والمحفوظ في أدعيته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصلاة كلِّها بلفظ الإِفراد، كقوله: «رَبِّ اغْفِر لِي وَارْحَمْنِي وَاهْدِنِي»، وسائر الأدعية المحفوظة عنه، ومنها قولُه في دعاء الاستفتاح: «اللهُمَّ اغْسِلْنِي مِنْ خَطَايَايَ بِالثَّلْجِ وَالماءِ وَالبَرَدِ، اللهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ» [1/263] الحديث.

وروى الإِمام أحمد رحمه الله وأهل (السنن) من حديث ثوبان عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لاَ يَؤُمُّ عَبْدٌ قَوْمًا فَيَخُصُّ نَفْسَهُ بِدَعْوَةٍ دونهم، فَإِنْ فَعَل، فَقَدْ خَانَهُم» قال ابن خزيمة في (صحيحه): وقد ذكر حديث «اللهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبين. خَطَايَايَ»... الحديث قال: في هذا دليلٌ على رد الحديث الموضوع «لاَ يؤم عَبْدٌ قَوْمًا فَيَخصُّ نَفْسَه بِدَعْوَةٍ دُونَهُم، فَإنْ فَعَلَ فَقَد خَانَهُمْ» وسمعتُ شيخ الإِسلام ابن تيمية يقول: هذا الحديثُ عندي في الدعاء الذي يدعو به الإِمامُ وللمأمومين، ويشترِكون فيه كدعاء القنوت ونحوه والله أعلم [1/264].


وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا قام في الصلاة، طأطأ رأسَه، ذكره الإِمام أحمد رحمه الله وكان في التشهد لا يُجاوز بَصَرُهُ إشارتَه، وقد تقدم. وكان قد جعل الله تعالى عينه ونعيمَه وسرورَه وروحَه في الصلاة. وكان يقول: «يا بِلاَلُ أرحناِْ بِالصلاَةِ».

وكان يقول: «وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلاَةِ». ومع هذا لم يكن يشغَلُه ما هو فيه من ذلك عن مراعاة أحوال المأمومين وغيرهم مع كمال إقباله. وقربه من الله تعالى وحضورِ قلبه بين يديه واجتماعِه عليه.

وكان يدخل في الصلاة وهو يُريد إطالتها، فيسمع بكاءَ الصبي، فيخففها مخافةَ أن يَشُقَّ على أمِّه، وأرسل مرة فارسًا طَليعةً له، فقام يصلي، وجعل يلتفِت إلى الشِّعب الذي يجيء منه الفارس، ولم يشْغَلْه ما هو فيه عن مراعاة حال فارسه.

كذلك كان يُصلي الفرض وهو حاملٌ أمامة بنت أبي العاص بن الربيع ابنةَ بنته زينب على عاتقه، إذا قام، حملها، وإذا ركع وسجد، وضعها [1/265].

وكان يصلي فيجيء الحسنُ أو الحسين فيركبُ ظهره فيُطيل السجدة، كَراهية أن يُلقيَه عن ظهره.وكان يُصلي، فتجيء عائشةُ مِن حاجتها والبابُ مُغلَق، فيمشي، فيفتح لها البابَ، ثمَّ يرجِعُ إلى الصلاة.

وكان يَرُدُ السلام بالإِشارة على من يُسلم عليه وهو في الصلاة وقال جابر: بعثني رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لحاجة، ثم أدركتُهُ وهو يصلي، فسلمتُ عليه، فأشار إليَّ. ذكره مسلم في (صحيحه). وقال أنس رضي الله عنه: كان النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُشير في الصلاة، ذكره الإِمام أحمد رحمه الله [1/266].

وقال صُهيب: مررتُ برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يُصلي، فسلمتُ عليه، فرد إشارة، قال الراوي: لا أعلمه، قال: إلا إشارة بأصبعه، وهو في (السنن) و (المسند).

وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: خرج رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى قُباء يُصلي فيه، قال: فجاءته الأنصارُ، فسلَّموا عليه وهو في الصلاة، فقلتُ لبلال: كيف رأيتَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يردُّ عليهم حين كانوا يُسلِّمون عليه وهو يصلِّي؟ قال: يقول: هكذا، وبسط جعفر بن عون كفه، وجعل بطنه أسفل، وجعل ظهره إلى فوق"، وهو في (السنن) و (المسند) وصححه الترمذي،ولفظه: كان يشير بيده.

وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: لما قَدِمتُ من الحبشة أتيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يصلي، فسلَّمت عليه، فأومأ برأسه، ذكره البيهقي.

وأما حديث أبي غطفان عن أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَشَارَ فِي صَلاَتِهِ إِشَارَةً تُفْهَمُ عَنهُ، فَلْيُعِدْ صَلاته» فحديث باطل، ذكره الدارقطني وقال: قال لنا ابن أبي داود: أبو غطفان هذا رجل مجهول، والصحيح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يُشير في صلاته رواه أنس وجابر وغيرهما [1/267].

وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصلي وعائشة معترِضَةً بينَه وبين القبلة، فإذا سجد، غَمَزَهَا بيده، فقبضت رجليها، وإذا قام بسطتهما. كان يُصلي، فجاءه الشيطانُ ليقطع عليه صلاتَه، فأخذه، فخنقه حتى سَالَ لُعابُه عَلَى يَدِه [1/268].

وكان يُصلي على المنبر ويركع عليه، فإذا جاءت السجدة، نزل القَهْقَرى، فَسَجَدَ على الأرض ثم صَعِدَ عليه.

وكان يُصلي إلى جِدار، فجاءت بَهْمَةٌ تمرُّ من بين يديه، فما زال يُدارئها،حتى لَصقَ بطنُه بالجدار، ومرت من ورائه.

يدارئها: يفاعلها من المدارأة وهي المدافعة.

وكان يُصلي، فجاءته جاريتانِ من بني عبد المطلب قد اقتتلتا، فأخذهما بيديه، فَنَزَعَ إحداهما من الأخرى وهو في الصلاة ولفظ أحمد فيه: فأخذتا بركبتي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فنزع بينهما، أو فرَّق بينهما، ولم يَنْصَرِفْ.

وكان يُصلي، فمرَّ بين يديه غلام، فقال بيده هكذا، فرجع، ومرت بين يديه جاريةٌ فقال بيده هكذا، فمضت، فلما صلَّى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «هُنَّ أَغْلَبُ» ذكره الإِمام أحمد، وهو في (السنن) [1/269].

وكان ينفُخ في صلاته، ذكره الإِمام أحمد، وهو في (السنن).

وأمّا حديث: «النَّفْخُ فِي الصَّلاَةِ كَلاَمٌ» فلا أصل له عن رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإنما رواه سعيد في (سننه) عن ابن عباس رضي الله عنهما من قوله إن صح وكان يبكي في صلاته، وكان يَتَنَحْنَحُ في صلاته قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: كان لي من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ساعةٌ آتيه فيها، فإذا أتيتُه استأذنتُ، فإن وجدتُه يُصلي فتنحنح، دخلتُ، وإن وجدته فارغًا، أذن لي، ذكره النسائي. وأحمد، ولفظ أحمد: كان لي مِن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَدخلانِ بالليل والنهار، وكنت إذا دخلتُ عليه وهو يصلي، تنحنح. رواه أحمد، وعمل به، فكان يتنحنحُ في صلاته ولا يرى النحنحة مبطلة للصلاة.

وكان يُصلي حافياً تارةً، ومنتعلاً أخرى، كذلك قال عبد الله بن عمرو عنه: وَأَمَرَ بالصلاة بالنعل مُخالفة لليهود [1/270].

وكان يُصلي في الثوب الواحد تارة، وفي الثوبين تارة، وهو أكثر.

وقنت في الفجر بعد الركوع شهراً، ثم ترك القنوت ولم يكن مِن هديه القنوتُ فيها دائمًا، ومِنْ المحال أن رسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان في كل غداة بعد اعتداله من الركوع يقول: «اللهُمَ اهْدِني فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ وَلَّيْتَ...» الخ ويرفعُ بذلك صوته، ويؤمِّن عليه أصحابُه دائمًا إلى أن فارق الدنيا، ثم لا يكون ذلك معلومًا عند الأمة، بل يُضيعه أكثرُ أمته، وجمهورُ أصحابه، بل كلُهم، حتى يقولَ من يقول منهم: إنه مُحْدَثٌ، كما قال سعد بن طارق الأشجعي: قلتُ لأبي: يا أبتِ إنَّك قد صليتَ خلفَ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، رضي الله عنهم ها هنا، وبالكُوفة منذ خمس سنين، فكانوا يقنتون في الفجر.؟ فقال: أَيْ بُنَيَّ مُحْدَثٌ رواه أهل السنن وأحمد وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. وذكر الدارقطني عن سعيد بن جبير قال: أشهد أني سمعت ابن عباس يقول: إن القنوتَ في صلاة الفجر بِدعة، وذكر البيهقي عن أبي مِجلز قال: صليتُ مع ابن عمر صلاة الصبح، فلم يقنُت، فقلت له لا أراك تقنُت، فقال: لا أحفظُه عن أحد من أصحابنا [1/271].

ومن المعلوم بالضرورة أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لو كان يقنت كلَّ غداة، ويدعو بهذا الدعاء، ويؤمِّن الصحابة، لكان نقلُ الأمة لذلك كُلِّهم كنقلهم لجهره بالقراءة فيها وعددها ووقتها، وإن جاز عليهم تضييعُ أمر القنوت منها، جاز عليهم تضييعُ ذلك، ولا فرق، وبهذا الطريق علمنا أنه لم يكن هديُه الجهرَ بالبسملة كلَّ يوم وليلةٍ خَمسَ مرات دائمًا مستمرًا ثم يُضَيِّعُ أكثر الأمة ذلك، ويخفى عليها، وهذا مِن أمحلِ المحال بل لو كان ذلك واقعاً، لكان نقلُه كنقل عدد الصلوات، وعدد الركعات، والجهر والإِخفات، وعدد السجدات، ومواضع الأركان وترتيبها، والله الموفق.


والإِنصاف الذي يرتضيه العالم المنصف، أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جهر، وأسر، وقنت، وترك، وكان إسرارُه أكثَر من جهره، وتركه القنوتَ أكثر من فعله، فإنه إنما قنت عند النوازل للدعاء لقوم، وللدعاء على آخرين،ثم تركه لما قَدِمَ من دعا لهم، وتخلَّصوا من الأسر، وأسلم من دعا عليهم وجاءوا تائبين، فكان قنوتُه لعارض، فلما زال تَرَك القنوت، ولم يختصَّ بالفجر، بل كان يقنُت في صلاة الفجر والمغرب، ذكره البخاري في (صحيحه) عن أنس
وقد ذكره مسلم عن البراء وذكر الإِمام أحمد عن ابن عباس قال: قنت رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شهرًا متتابعًا في الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، والصُّبح في دُبُرِ كل صلاة إذا قال: سَمعَ اللهُ لِمنْ حَمِدَه من الركعة الأخيرة، يدعو على حيٍّ من بني سليم على رِعل وذَكوان وعُصية، ويؤمِّن من خلفه، ورواه أبو داود [1/272].

وكان هديُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القنوت في النوازل خاصة، وتركَه عند عدمها، ولم يكن يخصه بالفجر، بل كان أكثر قنوته فيها لأجل ما شرع فيها من التطويل، ولاتصالها بصلاة الليل، وقربِها من السَّحَر، وساعةِ الإِجابة، وللتنزل الإِلهى، ولأنها الصلاةُ، المشهودة التي يشهدها الله وملائكتُه، أو ملائكةُ الليل والنهار، كما رُوي هذا، وهذا، في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ قُرْآنَ الفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء:78].

وأما حديثُ ابن أبي فُديك، عن عبد الله بن سعيد بن أبي سعيد المقبُري، عن أبيه، عن أبي هُرَيْرَة قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا رفع رأسَه مِنَ الرُّكُوعِ من صلاة الصُّبح في الرَكعة الثانية، يرفع يديه فيها، فيدعو بهذا الدعاء: «اللهمَّ اهْدِني فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَعَافِني فِيمَنْ عَافَيْتَ، وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ، وَبَارِك لي فِيمَا أَعْطَيْتَ، وَقِني شَرَّ مَا قَضَيْتَ، إِنَّكَ تَقْضِي وَلاَ يُقْضى عَلَيْكَ، إِنَّهُ لاَ يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ، تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتعالَيْتَ» فما أبين الاحتجاج به لو كان صحيحًا أو حسنًا، ولكن لا يحتج بعبد الله هذا وإن كان الحاكم صحح حديثه في القنوت عن أحمد بن عبد الله المزني: حدثنا يوسف بن موسى، حدثنا أحمد بن صالح، حدثنا ابن أبي فديك فذكره نعم صحَّ عن أبي هُرَيرَة أنه قال: والله لأنا أقربُكم صلاةً برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكان أبو هريرة يقنُت في الركعة الأخيرة مِن صلاة الصبح بعدما يقول: سَمعَ اللهُ لِمَنْ حَمِده، فيدعو للمؤمنين، ويلعنُ الكُفَّار ولا ريب أن رسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعل ذلك، ثمَّ تركه، فأحبَّ أبو هريرة أن يُعلِّمهم أن مِثلَ هذا القنوتِ سنة، وأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعله، وهذا رد على أهل الكوفة الذين يكرهون القنوت في الفجر مطلقًا عند النوازل وغيرها [1/273].

ويقولون: هو منسوخ، وفعله بدعة، فأهلُ الحديث متوسطون بين هؤلاء وبين من استحبه عند النوازل وغيرها، وهم أسعدُ بالحديث من الطائفتين، فإنهم يقنُتون حيثُ قنت رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويتركُونه حيث تركه، فيقتدون به في فعله وتركه،ويقولون: فِعله سنة، وتركُه لسنة، ومع هذا فلا يُنكرون على من داوم عليه، ولا يكرهون فعله، ولا يرونه بدعة، ولا فاعِلَه مخالفًا للسنة، كما لا يُنكِرون على من أنكره عند النوازل، ولا يرون تركه بدعة، ولا تارِكه مخالفًا للسنة، بل من قنت، فقد أحسن، ومن تركه فقد أحسن، وركن الاعتدال محل الدعاء والثناء، وقد جمعهما النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيه، ودعاء القنوت دعاء وثناء، فهو أولى بهذا المحل، وإذا جهر به الإِمام أحيانًا لِيعلِّم المأمومين، فلا بأس بذلك، فقد جهر عمر بالاستفتاح ليعلم المأمومين، وجهر ابن عباس بقراءة الفاتحة في صلاة الجنازة ليعلمهم أنها سنة، ومن هذا أيضًا جهر الإِمام بالتأمين، وهذا من الاختلاف المباح الذي لا يُعنَّف فيه من فعله، ولا مَنْ تَركه، وهذا كرفع اليدين في الصلاة وتركه، وكالخلاف في أنواع التشهدات، وأنواع الأذان والإِقامة، وأنواع النسك من الإِفراد والقِران والتمتع، وليس مقصودُنا إلا ذكر هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي كان يفعله هو، فإنه قِبلَةُ القصد، وإليه التوجُّه في هذا الكتاب، وعليه مدارُ التفتيش والطلب، وهذا شيء، والجائز الذي لا يُنكر فعلُه وتركُه شيء، فنحن لم نتعرض في هذا الكتاب لما يجوز، ولما لا يجوز، وإنما مقصودُنا فيه هديُ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي كان يختاره لنفسه، فإنه أكملُ الهدي وأفضلُه، فإذا قلنا: لم يكن مِن هديه المداومةُ على القنوت في الفجر، ولا الجهرُ بالبسملة، لم يدلَّ ذلك على كراهية غيره، ولا أنه بدعة، ولكن هديُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكملُ الهدي وأفضلُه، والله المستعان [1/274].

وأما حديث أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس، عن أنس قال: ما زالَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا وهو في (المسند) والترمذي وغيرهما، فأبو جعفر قد ضعفه أحمد وغيره وقال ابن المديني: كان يخلط وقال أبو زرعة: كان يهم كثيرًا [1/275]. وقال ابن حبان: كان ينفرد بالمناكير عن المشاهير.

وقال لي شيخنا ابن تيمية قدَّس الله روحه: وهذا الإِسناد نفسه هو إسناد حديث {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَم مِنْ ظُهُورِهِمْ} [الأعراف:172].

حديث أبي بن كعب الطويل، وفيه: وكان روحُ عيسى عليه السلام من تلك الأرواح التي أخذ عليها العهدَ والميثاقَ في زمن آدم، فأَرسلَ تلك الروحَ إلى مريم عليها السلام حين انتبذت من أهلها مكانًا شرقيًا، فأرسله الله في صورة بشر فتمثل لها بشرًا سويًا، قال: فحملت الذي يخاطبها، فدخل مِن فيها، وهذا غلط محض، فإن الذي أرسل إليها الملك الذي قال لها؟ {إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأهَبَ لَكِ غُلاَمًا زَكِيًا} [مريم:19] ولم يكن الذي خاطبها بهذا هو عيسى بن مريم، هذا محال.

والمقصود أن أبا جعفر الرازي صاحبُ مناكير،لا يَحتج بما تفرد به أحدٌ من أهل الحديث البتة، ولو صح، لم يكن فيه دليل على هذا القنوت المعين البتة، فإنه ليس فيه أن القنوتَ هذا الدعاءُ، فإن القنوتَ يُطلق على القيام، والسكوت، ودوام العبادة، والدعاء، والتسبيح، والخشوع، كما قال تعالى: {وَلَهُ مَنْ في السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلُّ لَهُ قَانِتُون} [الروم:26]، وقال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحمَةَ رَبِّه} [الزمر:9]، وقال تعالى: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ القَانِتِينَ} [التحريم:12] وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم «أَفْضَلُ الصلاةِ طُولُ القُنُوت» [1/276].

وقال زيد بن أرقم: لما نزل قوله تعالى: {وَقُومُوا للَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238] أمرنا بالسُّكُوتِ، ونُهينا عَنِ الكَلامِ. وأنس رضي الله عنه لم يقل: لم يزل يقنُت بعد الركوع رافعًا صوته "اللهُمَّ اهدني فيمن هديت.." إلى آخره ويؤمِّن من خلفه، ولا ريب أن قوله: ربَّنا ولكَ الحمدُ، مِلءَ السماواتِ، وَمِلءَ الأرضِ، ومِلءَ ما شئت من شيء بعدُ، أهلَ الثناء والمجد، أحقُّ ما قال العبدُ... إلى آخر الدعاء والثناء الذي كان يقوله، قنوتٌ، وتطويلُ هذا الركن قنوتٌ، وتطويلُ القراءة قنوت، وهذا الدعاءُ المعيَّن قنوت، فمن أين لكم أن أنسًا إِنما أراد هذا الدعاء المعين دون سائر أقسام القنوت؟!

ولا يقال: تخصيصُه القنوتَ بالفجر دونَ غيرها مِن الصلواتِ دليل على إرادة الدعاء المعين، إذ سائر ما ذكرتم من أقسام القنوت مشترَك بين الفجر وغيرها، وأنس خصَّ الفجر دون سائر الصلوات بالقنوت، ولا يمكن أن يُقال: إنه الدعاء على الكفار، ولا الدعاء للمستضعفين من المؤمنين، لأن أنساً قد أخبر أنه كان قنت شهرًا ثم تركَه، فتعيَّن أن يكون هذا الدعاء الذي داوم عليه هو القنوتَ المعروف، وقد قنت أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، والبراء بن عازب، وأبو هريرة، وعبد الله بن عباس، وأبو موسى الأشعري، وأنس بن مالك وغيرهم [1/277].

 

والجواب من وجوه. أحدُها: أن أنساً قد أخبر أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقنُت في الفجر والمغرب كما ذكره البخاري، فلم يخصص القنوت بالفجر، وكذلك ذكر البراء بن عازب سواء، فما بالُ القنوت أخص بالفجر؟!

فإن قلتم: قنوتُ المغرب منسوخ، قال لكم منازعوكم من أهل الكوفة: وكذلك قنوتُ الفجر سواء، ولا تأتون بحجة على نسخ قنوت المغرب إلا كانت دليلًا على نسخ قنوت الفجر سواء، ولا يُمكنكم أبدًا أن تُقيموا دليلًا على نسخ قنوت المغرب وإحكام قنوتِ الفجر. فإن قلتم: قُنوتُ المغرب كان قنوتًا للنوازل، لا قنوتًا راتبًا، قال منازعوكم من أهل الحديث: نعم كذلك هو، وكذلك قنوتُ الفجر سواء.

وما الفرق؟ قالوا: ويدل على أن قنوت الفجر كان قنوتَ نازلة، لا قنوتًا راتبًا أن أنسًا نفسه أخبر بذلك، وَعُمدَتكم في القنوت الراتب إنما هو أنس، وأنس أخبر أنه كان قنوتَ نازلة ثم تركه، ففي ( الصحيحين) عن أنس قال: قنَتَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شهرًا يدعو على حي مِن أحياءِ العرب، ثم تركه.

الثاني: أن شَبابة روى عن قيس بن الربيع، عن عاصم بن سليمان قال: قلنا لأنس بن مالك: إن قومًا يزعمُون أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يزل يقنُت بالفجر، قال: كذبوا، وإنما قَنتَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شهرًا واحدًا يدعو على حيٍّ من أحياء العرب، وقيس بن الربيع وإن كان يحيى بن معين ضعفه، فقد وثقه غيره، وليس بدون أبي جعفر الرازي، فكيف يكون أبو جعفر حجة في قوله: لم يزل يقنت حتى فارق الدنيا وقيس ليس بحجة في هذا الحديث، وهو أوثقُ منه أو مثلُه، والذين ضعفوا أبا جعفر أكثرُ من الذين ضعفوا قيسًا، فإنما يعرف تضعيفُ قيس عن يحيى، وذكر سببَ تضعيفه، فقال أحمد بن سعيد بن أبي مريم: سألت يحيى عن قيس بن الربيع، فقال: ضعيف لا يُكتب حديثه، كان يحدِّث بالحديث عن عبيدة،وهو عنده عن منصور، ومثل هذا لا يوجب رد حديث الراوي، لأن غاية ذلك أن يكون غلط ووهم في ذكر عبيدة بدل منصور، ومن الذي يسلم من هذا من المحدثين؟ [1/278].

الثالث: أن أنسًا أخبر أنهم لم يكونوا يقنُتون، وأن بدء القنوت هو قنوتُ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعو على رِعل وذَكوان، ففي (الصحيحين) من حديث عبد العزيز بن صهيب،عن أنس قال: بعثَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سبعين رجلًا لحاجة، يقال لهم: القُرَّاءُ، فعرض لهم حَيَّانِ من بني سليم رِعل وذَكوان عند بئر يقال له: بئر مَعونة، فقال القوم: والله ما إياكم أردنا، وإنما نحن مجتازون في حاجة لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقتلوهم، فدعا رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليهم شهرًا في صلاة الغداة، فذلك بدءُ القنوت، وما كنا نقنُت.

فهذا يدل على أنه لم يكن من هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القنوت دائماً، وقول أنس: فذلك بدءُ القنوتُ، مع قوله: قنت شهرًا، ثم تركه، دليل على أنه أراد بما أثبته من القنوت قنوتَ النوازل، وهو الذي وقَّته بشهر، وهذا كما قنت في صلاة العتمة شهرًا، كما في (الصحيحين) عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قنت في صلاة العَتَمَة شهرًا يقول في قنوته: «اللهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ، اللهُمَّ أَنْجِ سَلَمَةَ بْنَ هِشَام، اللهُمَّ أَنْجِ عَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ، اللهُمَّ أَنْجِ المُسْتَضعفِينَ مِنْ المُؤْمِنِينَ، اللهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضرَ، اللهُمَّ اجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِني يُوسُف». قال أبو هريرة: وأصبح ذاتَ يوم فلم يدعُ لهم، فذكرتُ ذلك له، فقال: أو ما تراهم قد قَدِمُوا، فقنوتُه في الفجر كان هكذا سواء لأجل أمر عارض ونازلة، ولذلك وقَّته أنس بشهر [1/279].


وقد روي عن أبي هريرة أنه قنت لهم أيضًا في الفجر شهرًا، وكلاهما صحيح، وقد تقدم ذكر حديث عكرمة عن ابن عباس: قنت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: شهرًا متتابعًا في الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، والصبح، ورواه أبو داود وغيره، وهو حديث صحيح.

وقد ذكر الطبراني في (معجمه) من حديث محمد بن أنس: حدثنا مُطرِّف بن طريف، عن أبي الجهم، عن البراء بن عازب، أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان لا يُصليِّ صلاةً مكتوبة إلا قنت فيها.

قال الطبراني: لم يروه عن مطرِّف إلا محمد بن أنس. انتهى.

هذا الإِسناد وإن كان لا تقوم به حُجة، فالحديث صحيح من جهة المعنى، لأن القنوت هو الدعاء، ومعلوم أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يُصل صلاة مكتوبة إلا دعا فيها، كما تقدم، وهذا هو الذي أراده أنس في حديث أبي جعفر الرازي إن صح أنه لم يزل يقنت حتى فارق الدنيا، ونحن لا نشك ولا نرتاب في صحة ذلك، وأن دعاءه استمر في الفجر إلى أن فارق الدنيا [1/280].

الوجه الرابع: أن طرق أحاديث أنس تُبين المراد، ويصدق بعضها بعضًا، ولا تتناقض. وفي (الصحيحين) من حديث عاصم الأحول قال: سألت أنس بن مالك عن القنوت في الصلاة؟ فقال: قد كان القنوت، فقلت: كان قبلَ الركوع أو بعده؟ قال: قبله؟ قلتُ: وإن فلانًا أخبرني عنك أنك قلت: قنت بعدَه. قال: كذب، إنما قلت: قنتَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد الركوع شهرًا.

وقد ظن طائفة أن هذا الحديث معلول تفرد به عاصم، وسائر الرواة.

عن أنس خالفوه، فقالوا: عاصم ثقة جدًا، غيرَ أنه خالف أصحابَ أنس موضع القنوتين، والحافظ قد يهم، والجواد قد يعثُر، وحكوا عن الإِمام أحمد تعليله، فقال الأثرم: قلتُ لأبي عبد الله -يعني أحمد بن حنبل-: أيقول أحد في حديث أنس: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قنت قبل الركوع غيرَ عاصم الأحول؟ فقال: ما علمتُ أحدًا يقوله غيرُه. قال أبو عبد الله: خالفهم عاصم كُلَّهم، هشام عن قتادة عن أنس، والتيمي، عن أبي مجلز، عن أنس، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قنت بعد الركوع، وأيوبُ عن محمد بن سيرين قال: سألت أنسا. وحنظلة السدوسي عن أنس أربعة وجوه.

وأما عاصم فقال: قلت له؟ فقال: كذبوا، إنما قنتَ بعد الركوع شهرًا. قيل له: من ذكره عن عاصم؟ قال: أبو معاوية وغيره، قيل لأبي عبد الله: وسائر الأحاديث أليس إنما هي الركوع؟ فقال: بلى كلها عن خُفاف بن إيماء بنِ رَحْضَة، وأبي هريرة [1/281].

قلت لأبي عبد الله: فلم ترخص إذًا في القنوت قبل الركوع، وإنما صح الحديثُ بعد الركوع؟ فقال: القنوت في الفجر بعد الركوع، وفي الوتر يُختار بعد الركوع، ومن قنت قبل الركوع، فلا بأس، لفعل أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واختلافهم، فأما في الفجر، فبعد الركوع.

فيقال: من العجب تعليلُ هذا الحديث الصحيح المتفق على صحته، ورواه أئمة ثقات أثبات حفاظ، والاحتجاج بمثل حديث أبي جعفر الرازي، وقيس بن الربيع، وعمرو بن أيوب، وعمرو بن عبيد، ودينار، وجابر الجعفي، وقل من تحمَّل مذهبًا، وانتصر له في كل شيء إلا اضطر إلى هذا المسلك.

فنقول وبالله التوفيق: أحاديث أنس كلها صحاح، يُصدِّق بعضُها بعضًا، ولا تتناقضُ، والقنوت الذي ذكره قبل الركوع غيرُ القنوت الذي ذكره بعده، والذي وقته غير الذي أطلقه، فالذي ذكره قبل الركوع هو إطالةُ القيام للقراءة، وهو الذي قال فيه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَفْضلُ الصَّلاَةِ طُولُ القنُوتِ» والذي ذكره بعده، هو إطالةُ القيام للدعاء، فعله شهرًا يدعو على قوم، ويدعو لقوم، ثم استمرَّ يُطيل هذا الركنَ للدعاء والثناء، إلى أن فارق الدنيا، كما في (الصحيحين) عن ثابت، عن أنس قال: إني لا أزال أُصلي بكم كما كان رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصلي بنا، قال: وكان أنس يصنع شيئًا لا أراكم تصنعونه، كان إذا رفع رأسه من الركوع انتصب قائماً، حتى يقول القائلُ: قد نسي، وإذا رفع رأسه من السجدة يمكُث، حتى يقول القائلُ: قد نسي. فهذا هو القنوتُ الذي ما زال عليه حتى فارق الدنيا [1/282].

ومعلوم أنه لم يكن يسكُت في مثل هذا الوقوف الطويل، بلَ كان يثني على ربه، ويُمجِّده، ويدعوه، وهذا غيرُ القنوتِ الموقَّت بشهر، فإن ذلك دعاء على رِعل وذَكوان وعُصيَّة وبني لِحيان، ودُعاء للمستضعفين الذين كانوا بمكة.

وأما تخصيصُ هذا بالفجر، فبحسب سؤال السائل، فإنما سأله عن قنوت الفجر، فأجابه عما سأله عنه.

وأيضًا، فإنه كان يطيل صلاة الفجر دون سائر الصلوات، ويقرأ فيها بالستين إلى المائة، وكان كما قال البراء بن عازب: ركُوعُه، واعتداله، وسجودُه، وقيامُه متقاربًا. وكان يظهرُ مِن تطويله بعد الركوع في صلاة الفجر ما لا يظهر في سائر الصلوات بذلك.

ومعلوم أنه كان يدعو ربه، ويثني عليه، ويمجده في هذا الاعتدال، كما تقدمت الأحاديث بذلك، وهذا قنوتٌ منه لا ريبَ، فنحن لا نشكُّ ولا نرتابُ أنه يزل يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا.

ولما صار القنوتُ في لِسان الفقهاء وأكثرِ الناس، هو هذا الدعاء المعروف: اللهم اهدني فيمن هديت... إلى آخره، وسمعوا أنه لم يزل يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا، وكذلك الخلفاءُ الراشدون وغيرهم من الصحابة، حملوا القنوت في لفظ الصحابة على القنوت في اصطلاحهم، ونشأ مَن لا يعرف غيرَ ذلك، فلم يشك أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابَه كانوا مداومين عليه كلَّ غداة، وهذا هو الذي نازعهم فيه جمهورُ العلماء، وقالوا: لم يكن هذا من فِعله الراتب، بل ولا يثبُت عنه أنه فعله.

وغاية ما رُوي عنه في هذا القنوت، أنه علمه للحسن بن علي، كما في (المسند) و (السنن) الأربع عنه قال: علَّمني رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلماتٍ أقولهن في قُنوت الوترِ: "اللهُمّ اهْدِني فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَعَافِنِي فِيمَنْ عَافَيْتَ، وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ، وَبَارِك لِي فِيمَا أَعْطيْتَ، وَقِني شَرَّ مَا قَضَيْتَ، فَإنَكَ تَقْضِي، وَلاَ يُقْضَى عَلَيْكَ، إِنَّه لاَ يَذِلُّ مَنْ وَالَيتَ، تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ" قال الترمذي: حديث حسن، ولا نعرف في القنوت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيئًا أحسنَ من هذا، وزاد البيهقي بعد "وَلاَ يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ"، "وَلاَ يَعِزُّ مَن عَادَيْتَ" [1/283].


وممّا يدل على أن مراد أنس بالقنوت بعد الركوع هو القيامُ للدعاء والثناء ما رواه سليمان بن حرب: حدثنا أبو هلال، حدثنا حنظلة إمامُ مسجد قتادة، قلت: هو السدوسي، قال: اختلفت أنا وقتادة في القنوت في صلاة الصبح، فقال قتادة: قبل الركوع، وقلت، أنا: بعد الركوع، فأتينا أنس بن مالك، فذكرنا له ذلك، فقال: أتيتُ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صلاة الفجر، فكبر، وركع، ورفع رأسه، ثم سجد، ثم قام في الثانية، فكبر، وركع، ثم رفع رأسه، فقام ساعة ثم وقع ساجداً. وهذا مثل حديث ثابت عنه سواء، وهو يُبين مراد أنس بالقنوت، فإنه ذكره دليلًا لمن قال: إنه قنت بعد الركوع، فهذا القيام والتطويل هو كان مرادَ أنس، فاتفقت أحاديثُه كلُها، وبالله التوفيق [1/284].

وأما المروي عن الصحابة، فنوعان:
أحدُهما: قنوت عند النوازل، كقنوتِ الصديق رضي الله عنه في محاربه الصحابة لمسيلِمة، وعِند محاربة أهل الكتاب، وكذلك قنوتُ عمر، وقنوت علي عند محاربته لمعاوية وأهل الشام.
الثاني: مطلَق، مرادُ من حكاه عنهم به تطويلُ هذا الركن للدعاء والثناء، والله أعلم [1/285].

أبو الهيثم محمد درويش

دكتوراه المناهج وطرق التدريس في تخصص تكنولوجيا التعليم من كلية التربية بجامعة طنطا بمصر.

المقال السابق
هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصلاة (1)
المقال التالي
هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في السنن الرواتب