تشديدات القرآن - أصنام بلا أجسام!
ها قد بلغت البلاغة منتهاها والإعجاز مبلغه، أن في علم الله السابق، أنه يتقلب الليل والنهار، وتذهب الأصنام والأوثان الخشبية والحجرية وغيرها من غير العاقلات.. ويقوم أشخاص يدَّعون الألوهية صراحة كما قال فرعون من قبل: {أنا ربكم الأعلى}، ورغم ذلك: {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى} [طه: 79] لم يهدهم رغم أنه عاقل، لأنه لا يملك الهداية لنفسه، حتى أكله البحر ثم النار! لأنه كما قال تعالى: {لا يَهـدِّي}.
اللطيفة الثانية: أصنام بلا أجسام!
ما زلنا مع لطائف التشديدة: يَهَدِّي (1)؛ نكتنز من كنوزها ونغوص في أعماق معانيها، فإذا بنا أجد أصناما بلا أجسامأ وأوثانا بلا أجرام.
فها قد بلغت البلاغة منتهاها والإعجاز مبلغه، أن في علم الله السابق، أنه يتقلب الليل والنهار، وتذهب الأصنام والأوثان الخشبية والحجرية وغيرها من غير العاقلات.. ويقوم أشخاص يدَّعون الألوهية صراحة كما قال فرعون من قبل: {أنا ربكم الأعلى}، ورغم ذلك: {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى} [طه: 79] لم يهدهم رغم أنه عاقل، لأنه لا يملك الهداية لنفسه، حتى أكله البحر ثم النار! لأنه كما قال تعالى: {لا يَهـدِّي}.
أو أناس يمارسون فعل الله سبحانه بادِّعاء الغيب، أو ادِّعاء امتلاك الضر والنفع كالمشعوذين والبطَّالين من الكهنة والسَّحَّارين، وكلهم آلهة، لا يملكون أن يهتدوا فضلًا عن أن يهدوا غيرهم، (لا يَهـدُّون!)، يمرضون ويموتون ويبأسون وتفاجئهم حوادث الزمان؛ فما يعلمون غيبها حتى ترهقهم أو تقهرهم.. أهؤلاء آلهة؟!
يقال: إن الشيطان قرع الباب على فرعون، فقال فرعون: مَن بالباب؟ فقال إبليس: تَدَّعي أنك إلهٌ، ولا تعلم مَن بالباب؟! وسواء صحّت أو لم تصح، فالعبرة منها واضحة.
فالناس يعرفون هذا (الآلهة) أنه فلان بن فلان، وأنه عاجز عن نفع نفسه أو دفع الضر عنها.. وأنه كما قال تعالى {لا يَهـدِّي}، ومع ذلك يشركون!
ثم في علم الله أيضًا، أنه يتعاقب الليل والنهار، وتتوالى السُّنون والقرون؛ وتأتي (أصنامٌ) عاقلة حقيقة؛ تكون أربابًا على الناس، يتربَّبون عليهم طوعا وكرها..، وإن لم تكن ظاهرة للناس في زمان ما أو مكان ما، فالعيب في الناس، فإذا انحجبوا عن الناس بجهلهم، فلا يعني أنهم غير موجودون، كالشمس يحجب السحاب.
فيمكن أن يتخذ الناس أناسًا شركاء لله سبحانه؛ أرباب يعبدونهم معه سبحانه أو مِن دونه، وقد قال الله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}[آل عمران:64]، وقال: {وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:80]، فهذا من قبيل اتِّخاذ الأحبار والرهبان أربابًا.
إنّ الأحبار والرهبان عقلاء من أصحاب "مــــن" وليسوا أحجارًا من أصحاب "مــــا"، واتخذهم الناسُ أربابًا من دون الله سبحانه، ألم يقل ربنا سبحانه: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}[التوبة:31]! أما المسيح بن مريم عليه الصلاة والسلام فبريء، ولا يتحمل مسؤولية مشرك، فقد تبرأ منهم وأعلن عبوديته لله تعالى من أول يوم لما أنطقه الله سبحانه في المهد: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا، قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} [مريم:29-30].
أما الأحبار والرهبان فكلٌّ بِحَسبِهِ، فمنهم من تبرأ فبرئ، ومنهم من استزله الشيطان، فرضي بتأليه الناس له؛ فهَوى بهم ومعهم! وينطبق عليهم موصول العاقل وموصوفه: {أفمن يهدي للحق أحق أن يتبع أمَّن لا يهدِّي.}.
ثم يتضح الأمر أكثر في زماننا هذا، وأن التعبير بموصول العاقل "مـــن" مقصود مِن أول يوم، وأنه حقيقة وليس مجازا، وأنه لا يقتصر على أصنام الحجر والشجر.. بل يشمل البشر المتألهين والمُأَلَّهين أيضاً، بل بالدرجة الأُولى والأَوْلى، وأن القرآن كتاب الحياة الدنيا كلها إلى أن تنتهي بقيام الساعة!
لقد جاءت أصنامٌ جديدة وأوثان عديدة، يجلس البشر وراءها، فيشرعون للناس دينًا تُمليه أهواؤهم، ثم يقولون هذا مراد الآلة، أو دين الآلة، كما كان سلفهم الطالح من المشركين القدامى يجلسون وراء الصنم، أو يُجْلِسون وراءه كاهنا أو سادناً يتمتم حولها بالتعاويذ والرقى، وينطق بمرادهم على (لسان) الآلة والصنم وباسمها لتعبيد الجماهير وتذليلها!
ومن تلك الأصنام؛ الأصنام المعنوية؛ التي لا أجسام وأجرام، من أمثال القومية والديمقراطية والوطن والوطنية والمواطنة والمساواة والدستور والقانون... حين تأتي بما لم يأذن بالله سبحانه ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، بل حين تقوم على أنقاض الدين وفي مناقضته!
يُقيمون كهنتهم فيشرعون من القوانين ما شاءوا، ثم يقيمون لها قداسة الآلة، ثم يقولون:
الدستور يقول ويأمر وينهى ويبيح ويمنع ويمنح ويرتضي، ويفرض ويرفض؛ فمن خالفه فقد خَالف مُقدَّسًا، بينما لا مقدس إلا الله وما قدَّسه الله سبحانه.
ويقولون: الديمقراطية لا تقبل هذا ولا تجيز ذاك، وهي تقتضي هؤلاء، وتفرض أولئك، كأنها قُدُّوس!
والمواطنة تقتضي هذا وتتناقض مع ذاك، وترفض ذلك.. يُقدِّسونها!
وهو تقديسٌ لاستعباد الناس وليس حقيقيًّا، على طريقة المشركين الأولين؛ يعبدون الصنم من التمر وإذا جاعوا أكلوا، وكم من ديمقراطية أُكِلَت عندما جاءت بالإسلاميين!
وطبعا الديمقراطية والوطنية والمواطنة والدستور من موصول غير العاقل "مـــا"، لكن الذي ينطق من ورائها من موصولات العاقل"مـــن" إنهم كهنة الحكم ومجالس التشريع.. {وكلهم أمَّــن لا يهدِّي إلا أن يُهدى}.
وإنك لتعجب حين ترى هذا الأمر واضحًا عند باحثين غير مسلمين، في حين يغيب عن بعض دعاة المسلمين، فضلا عن عوامهم، يقول المؤرخ اليهودي، الذي لا يمكن أن يتطرف للإسلام: "كل باحث في التاريخ الإسلامي يعرف قصة الإسلام الرائعة في محاربته لعبادة الأوثان منذ بدء دعوة النبي وكيف انتصر النبي، وأقاموا عبادة الإله الواحد التي حلت محل الديانات الوثنية لعرب الجاهلية، وفي أيامنا هذه تقوم معركة مماثلة أخرى، ولكنها ليست ضد اللات والعزى وبقية آلهة الجاهليين، بل ضد مجموعة جديدة من الأصنام اسمها: الدولة والعنصر والقومية، وفي هذه المرة يظهر أن النصر حتى الآن هو حليف الأصنام؛ فإدخال هرطقة القومية العَلمانية أو عبادة الذات الجماعية كان أرسخ المظالم التي أوقعها الغرب على الشرق الأوسط، ولكنها مع كل ذلك كانت أقل المظالم ذكراً وإعلاناً.."(1)، ويقصد بالغرب أوروبا، ويقصد بالشرق أهل الإسلام وأرضه! ولا تنسوْا حكاية "الشرق الأوسط!"
وأذكر هنا أن أهل اللغة قالوا: الصنم هو كل ما تخذوه من آلهة؛ وأن الصنم ما كان له جسم وصورة، أما ما لا صورة له فهو وثن، وأما من الناحية الشرعية فلا فرق في تشريك من ألَّه صنمًا أو وثنًا بلا جسم ولا صورة، ولو كان شيئا معنويًّا كالهوى، وقد جعل الله الهوى إله يُعبد من دون الله، كما قال تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} [الفرقان: 43]، وقال: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية:23]، وهل هذه الأفكار الآلة، والمذاهب الأرضية الآلة إلا أهواء آلهة؟!
هذه اللطيفة تابعة إلى المقال الأم في التشديدة: يَهَدِّي (1)
واللطيفة الأولى: الأوثان الحيَّة والأصنام العاقلة.
ويُتبع إن شاء الله باللطيفة الثالثة: أوثان آخر الزمان.
أبو محمد بن عبد الله
باحث وكاتب شرعي ماجستير في الدراسات الإسلامية من كلية الإمام الأوزاعي/ بيروت يحضر الدكتوراه بها كذلك. أستاذ مدرس، ويتابع قضايا الأمة، ويعمل على تنوير المسيرة وتصحيح المفاهيم، على منهج وسطي غير متطرف ولا متميع.
- التصنيف:
- المصدر: