أَعُلماء عَلمانيون؟! - (3) سياسة العَلْمَنَة والسيرة النبوية
أليس النبي صلى الله عليه وسلم هو أتقى الناس وأخوفهم لله أعبدهم وأزهدهم وأورعهم؟! ألم يكن هو السائس الأعظم في تاريخ البشرية لآخر وخير أمة أخرجت للناس؟! أكان يمارس شيئًا ليس من الدين.. يتنزَّه عنه علماء آخر الزمان؟! ألم يكن هو القائد الحاكم؟! أليس من السياسة حكم الناس بشريعة رب الناس؟! فإذا كنت السياسة جرسًا فكيف اقترب منها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!
النموذج الثاني لِتَعَلْمُن العلماء!
محمد حسّان نموذجا
فالنموذج الآخَر وليس الآخِر، ممن كان يُظنُّ بهم خيراً! وفي أيَّامنا هذه من خرج علينا يُصَرِّيح بصوت عالٍ يقول: "فقد ألزمت اليوم أخي (فلانًا) أن ترجع قناة الرحمة إلى قناة الرحمة، وأن تبتعد كل البعد عن كل البرامج السياسية، وإنما ترجع لتعلم الناس دين الله تبارك وتعالى، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الأصل، وهو كذلك، عندنا برنامج ولَّا اتْنِين، يتْلِغِي البرنامج خالص، يتْلِغِي خالص، بقولها بصوت عالٍ، يتْلِغي خالص، أنا عاوز أعلم الناس الدين، واللي عاوز يتعلم سياسة يروح أيِّ مكان يتعلم سياسة، يتعلم سياسة في أي حتة بعيدًا عن الرحمة، الرحمة رحمة...) [فَرَّغتُها بألفاظها، حتى الكلمات العامية، وهي على اليوتيوب لمن أراد] ومقطع الفيديو هــــنا
لقد أحزنني هذا جدَّا، وآسفني، وآلمني.. ولمَّا أردت أن أختصر التعليق عليها؛ ازدحمت الأفكار فلم أدر ما أقدم منها وما أُوَخِّر، فهو تصريح على قِصره عظيم الغلَط شنيع المآل.
فقوله: "وأن تبتعد كل البعد عن كل البرامج السياسية" تأكيد بعد تأكيد.. تبتعد كل البعد وتبدو في الأعراب عن مدينة السياسة! سبحان الله؛ تذكرتُ قول الله تعالى في صنف من الناس، يهلعون ويجزعون عند كل مَسَّة ولمسة، وكل صيحة ولو لم تكن عليهم، قال الله تعالى فيهم: {يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا} [الأحزاب:20]، أي: إذا جاء الجند والأحزاب يودُّون أن لو كانوا في البادية، بعيدًا عن المدينة، و(يتمنون من الخوف والجبن أنهم غيب عنكم في البادية مع الأعراب خوفًا من القتل) [1].
قلتُ: وهي بمعناها تشمل البعد الحسي والبعد المعنوي، أو البداوة المعنوية والحسية، فإذا اشتد الأمر، يودُّون لو أنهم بعيدون عنكم كل البعد، بعيدون عن مدينة السياسة التي تجلب التعب والنصب والوصب! بعيدون عن أيِّ ميدان أنتم فيه، عِلمًا وتعليمًا وعملًا أو اعتصامًا أو احتجاجًا، يودّون لو أنهم ما شاركوكم في كلمة تشهد عليهم، أو يؤاخَذون بها، يتمنون لو يكونون بعيدين عنكم كل البعد، ويسألون عن أخباركم وماذا حدث لكم من بعيد، لكنهم وفي هذه الآيات أنهم إذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد.
بل وشهدت الأيام أنهم لمّا كانوا فيكم ما أعانوكم، بل ما زادوكم إلا خبالًا، بل بعضهم ذُبِح المسلمون بسكين (اجتهادهم)!
في بلدنا السَّليخ! تبدَّلت الأيام يومًا، وجاء الخوف في بلدنا، فلاذ كثيرٌ من الملتزمين بالفرار، وصاروا بادين في بيوتهم.. فلقيت أحدَهم يومًا في دُكَّان يتبضَّع، وحاولت أن أنصحه وأُذكِّره بمن في يده الرزق والأجل، وأن الفرار يكون إلى الله وليس من الله: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات:50]، فقال: أريد لو استطعتُ أن أُنْسِيَ الناس أني كنت يوما ملتزمًا ذا لحية"! أسأل الله العافية، قالها ليبدو باديًا في الأعراب، بعيدًا عن ساحة الملتزمين حتى لا يُتَّهم بهم ولا يؤخذ بمشابهتهم ماضيا وحاضرا مستقبلا!
نعود إلى قول (العالِم!) : "وأن تبتعد كل البعد عن كل البرامج السياسية " مسح كامل لكل ما يمت إلى السياسة بصلة؛ فهو تأكيد لا استثناء فيه!
ثم قال بعدها: "وإنما ترجع لتعلم الناس دين الله تبارك وتعالى، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الأصل.."
ترجع بعد أن ذَهَبَت.. ترجع لتعلم الناس دين الله، يعني أنها ذهبت بعيدًا عن الدين بدخولها مدينة السياسة، ثم رجعت منها إلى الدين، وهذا عين الفصل بين السياسة والدين! فهو جوهر العَلمانية وعمودها.
ترجع من البرامج السياسية أو ترجع من السياسة إلى الدين، وكأنها بيع العينة! وهو نوع من بيوع الربا، فقد قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم» (الألباني؛ سلسلة الأحاديث الصحيحة، رقم:[11]، وقال: صحيح لمجموع طرقه)، فانظر كيف سمَّى النبي صلى الله عليه سلم تَرْكَ الربا الخارج عن معاملات الإسلام وشرائعه رجوعا إلى الدين، وعلى هذا فتعبيرهم بالرجوع من تعليم السياسة إلى تعليم الناس الدين، مما كانت تعلمه إياه من السياسة هو اعتبارٌ للسياسة خارجة عن الدين، كخروج العينة من جملة البيوع الحلال!
يقول: "لتعلم الناس دين الله" وكأن السياسة ليست من دين الله! وكأن دين الله ليس فيه سياسة! أليست هذه هي دعوة العلمانية؟! أليست هذه علمانية يدعو إليها (عالم؟!)
أليس في تعريف السياسة للخلافة والإمامة، أنها: "هي خلافة صاحب الشرع في أمته بشريعته"، وعلى هذا فهُم يعتزلون تعليم الناس كيف يُخلَف النبي صلى الله عليه وسلم في أمته بشريعة الإسلام، وهي ليست من دين الله عندهم!
نعم؛ من دين الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم «صلوا كما رأيتموني أصلي»، ومن دينه: «لتأخذوا عني مناسككم» ، ومن دينه: «كيفية وضوء النبي صلى الله عليه وسلم كأنك تراه»، من سنة النبي صلى الله عليه وسلم: ومن دينه: (آداب التخلي)؛ أحطُّ شيء في حياة الإنسان، فكما في حديث سلمان رضي الله عنه، قال له يهودي: «قد علمكم نبيكم كلَّ شيء حتى الخراءة!" فقال: "أجل! لقد نهانا أن نستقبل القبلة لغائط، أو بول، أو أن نستنجي باليمين، أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجي برجيع أو بعظم» (مسلم؛ صحيح مسلم، رقم:[262]). فكل ذلك من الدين، ليس فيه عندنا حقير ولا قشور.. "أما سوسوا كما رأيتموا النبي أسوس"؛ فليست من الدين عند هؤلاء!
يقول الماوردي رحمه الله: "الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا، وعقدُها لمن يقوم بها في الأمة واجب بالإجماع" [2]. طبعا كل ما يتعلق بالحكم والإمامة والخلافة تحصيلاً وتأصيلاً وتفصيلاً هو سياسة، وهي كما تراها خلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الأوطان على مقتضاه... ألا يكفيها هذا أن تكون من الدين؟!
يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "يجب أن يُعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين بل لا قيام للدين ولا للدنيا إلا بها. فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض، ولا بد لهم عند الاجتماع من رأس، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمّروا أحدهم» (الألباني؛ السلسلة الصحيحة، رقم:[1322ُ])، فأوجب صلى الله عليه وسلم تأميرَ الواحد في الاجتماع القليل العارض في السفر، تنبيهًا بذلك على سائر أنواع الاجتماع. ولأن الله تعالى أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يتم ذلك إلا بقوة وإمارة. وكذلك سائر ما أوجبه من الجهاد والعدل وإقامة الحج والجمع والأعياد ونصر المظلوم، وإقامة الحدود لا تتم إلا بالقوة والإمارة؛ ولهذا روي: «إن السلطان ظل الله في الأرض» (الألباني، ظلال الجنة، برقم: 1024 ، وقال: حسن. [وانظر: ابن تيمية؛ السياسة الشرعية، 168].
فانظر كيف يوجب شيخ الإسلام هذا الأمر، ويوجب السعي إلى تحصيله، ويجعله من الدين، ثم في آخر الزمان يصبح خارج الدين عند بعض، وعلى يد من يُسَمَّوْن علماء! ويدعون إلى الرجوع منه إلى الدين، وإذا لم يتولَّ أهلُ العلم والتقوى هذا المنصب ليأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر ويجاهدوا الأعداء، فلا بد أن يتولاه من يأمر بالمنكر وينهى عن المعروف ويجاهد في سبيل الشيطان.. والواقع ناطق. أليست هذه علمانية يدعو إليها علماء؟!
ثم؛ لماذا أذهب بعيدًا.. لا أذْهَبُ بعيدًا عن السنة والسيرة النبوية، ومن لم تسعه السنة فلا وسَّع الله له.
أليس النبي صلى الله عليه وسلم هو أتقى الناس وأخوفهم لله؟ أليس النبي صلى الله عليه وسلم أعبد الناس وأزهدهم وأورعهم؟! أليس هو صلى الله عليه وسلم أشد الناس دينًا، وأكثرهم تعليمًا للناس دينهم؟!
ألم يكن هو السائس الأعظم في تاريخ البشرية لآخر وخير أمة أخرجت للناس؟! أكان يمارس شيئًا ليس من الدين.. يتنزَّه عنه علماء آخر الزمان؟!
ألم يكن هو القائد الحاكم؟! أليس من السياسة حكم الناس بشريعة رب الناس، وبسياسة ضمَّنَها شريعته؟
إذا كنت السياسة رجسًا ونجسا فكيف اقترب منها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الطاهر المطهَّر المطهِّر يإذن الله تعالى؟
أما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو إلى تحكيم شريعة الله سبحانه، يتلو فيها الآيات ويقول فيها الأحاديث؟
أفيكون غير رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر تديُّنا منه، وأعبد لربه منه وأتقى، وأعلم لحدود ما أنزل الله عليه؟!
هذا من سيرته صلى الله عليه وسلم.
نقول -وبإجماع أهل السنة- أن أفضل البشر بعد الأنبياء هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه، علمًا وخُلُقا ونية... ولم يبغِ الصحابةُ رضي الله عنهم بديلاً عنه في رأس السياسة وقمتها، أما بعضُ علماء هذا الزمان فـ(يتطهَّرون) عنها ويلعنونها، ويُسمون الحرب بين أهل الإسلام وبني عَلمان صراعًا على الكراسي! فما لأبي بكر خاضها، أهم أطهر منه، أعلم منه، أتقى وأنقى منه؟! كــــــــــــلا.
ثم اختاروا أفضل رجل في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذهب بتسعة أعشار العلم، يسلك الشيطانُ غير فَجِّه، يصير كالحلس البالي خشية من الله، تصرعه الآية حتى يُعاد الشهر مريضاً... ثم يمارس السياسة ولا يتطهر عنها كما يفعل بعض علماء الزمان يترفعون! إنه الملهم عُمَر الفاروق رضي الله عنه.
ثم ثالث خير الناس في خير جيل ورعيل في خير أمة أخرجت للناس، عثمان رضي الله عنه يتولى السياسة ولا يتنزَّه ولا يتطهر منها، بل كان موته فيها شهادة، ولم يكن فتنة، وإنما الفتنة على من فَتن، والظلم على من ظَلم! بل إنه رفض أن ينزل من على كرسي السياسة دينا لله تعالى، وقال: لن أنزع قميصا ألبسنيه الله. ولم يعتبر أحد من المسلمين أنه مات يصار على الكرسيّ.
ثم رابعهم الراشد علي بن أبي طالب رضي الله عنه، والذي كانت خلافته أو قل ممارسته لسياسة الحكم، بل وجوده على قمة هرمها، بل وقاتل من خلالها في جوِّ من خلاف المسلمين وتحزبهم، ومع ذلك لم يعتبره أحدُ منازعا في فتنة ولا مصارعا على الكرسي ولا متدنسا بسياسة...
هذا من سيرته وسيرة خلفائه الراشدين المهديين في سياستهم الراشدة..
أما من سنَّته صلى الله عليه وسلم، فيأتيك عجيب خبرها في: الحلقة القادمة
--------------------------
[1] - الطبري، جامع البيان في تأويل القرآن، تحقيق شاكر، 20/ 234.
[2] - أبو الحسن، على بن محمد، الماوردي، (450هـ/1058م)، الأحكام السلطانية، تحقيق أحمد المبارك البغدادي، الكويت، مكتبة دار ابن قتيبة، ط1(1409هـ، 1989م)، 3.
يمكن مراجعة المقالتين السابقتين في تدرج العلمانية وتسللها إلى رحاب العلم والعلماء والشريعة الغراء في:
أَعُلماء عَلمانيون؟! (1) الطريق إلى علمنة العلوم الشرعية
أَعُلماء عَلمانيون؟! (2) تنصير الشريعة وإشراك قيصر
تاريخ النشر: 27 ذو القعدة 1435 (22/9/2014)
أبو محمد بن عبد الله
باحث وكاتب شرعي ماجستير في الدراسات الإسلامية من كلية الإمام الأوزاعي/ بيروت يحضر الدكتوراه بها كذلك. أستاذ مدرس، ويتابع قضايا الأمة، ويعمل على تنوير المسيرة وتصحيح المفاهيم، على منهج وسطي غير متطرف ولا متميع.
- التصنيف:
- المصدر: