علاقات التعارف قبل الزواج في الميزان
عندها شعرتُ أنني أود أن أصفق بحرارة ليس للحاضرات بل للإعلام العربي الذي نجح وبجدارة في كل ما يقدمه من مسلسلات وأفلام وأغان مصورة وبرامج حوارية تحمل عناوين مثيرة نجحت في قلب الموازين والقيم..
كان الوقت مساءً عندما دخلت إحدى السيدات تحمل للحاضرات نبأ طلاق فلانة من فلان... عمّ الضجيج المكان، وأخذت كل واحدة تدلو بدلوها مقدمة ما لديها من معلومات حول الزوجين المنفصلين، حتى اتفق الجميع على رأي واحد: «إن سبب هذا الطلاق يرجع لكونهما لا يعرفان بعضهما جيداً قبل الزواج، أي لم يكونا على علاقة قبل الزواج!!!».
نظرتُ حولي فشعرت وكأن مركبة فضائية أو آلة الزمن القادمة من أعماق التاريخ قد غادرت لتوها وتركتني وحيدة في عالم لا أعرفه ولا يعرفني...
عندها شعرتُ أنني أود أن أصفق بحرارة ليس للحاضرات بل للإعلام العربي الذي نجح وبجدارة في كل ما يقدمه من مسلسلات وأفلام وأغان مصورة وبرامج حوارية تحمل عناوين مثيرة نجحت في قلب الموازين والقيم... حتى صارت العلاقة بين الجنسين خارج نطاق المظلة الشرعية مطلباً، لا بل حقاً ينادي به المجتمع ويراه أُساً من أسس المدنية والتحضر والثقافة والتطور!!
حسناً لنناقش الأمر، مستقرئين حالات عديدة ونتائج كثيرة لمثل هذه العلاقات...
• أولاً: من المؤكد أن أياً من الطرفين لن يقف على قارعة الطريق يحمل إعلاناً كتب عليه: أنا جاهز الآن لعلاقة تعارف بقصد الزواج... هذا يعني أن كلاً منهما سيمضي في حياته فاتحاً الباب للتعارف عساه يلتقي بمن يرتاح له ويعجب به فتنشأ بينهما علاقة أعمق تكون ممهِّدة للزواج... وإنني أقول: عندما يفتح الشاب أو الفتاة هذا الباب، هل يعرف كم من الأعاصير الهوجاء ستقتحم عليه حياته وتشوّه جمال نفسه وطهارة قلبه؟! ألا يمكن أن تدخل من هذا الباب وحوش ضارية ترتدي أجمل الثياب والألوان وتضع أزكى العطور تدّعي أنها تريد الاستقرار وتبحث أيضاً عن زوج المستقبل!!... عندها ما الخسائر النفسية والاجتماعية التي ستكون ثمناً للتخلص من هذه الوحوش؟!! بل هل سيكون بالمقدور التخلص منها؟!! كم من الفتيات قضت عليهن علاقات ما قبل الزواج بسبب شاب مخادع تظاهر بالرومانسية حتى إذا ما اطمأنت إليه الفتاة ومنَحَتْه نفسها بدافع حبها مضى دون رجعة، أو تمنّعت ورفضت فكشّر عن أنيابه وتركها بعد أن كسر قلبها وعكّر صفو حياتها؟!! وكم من الشباب أصيبوا بصدمات عاطفية ونفسية بسبب فتاة لَعُوب مخادعة اعتادت قضاء الأوقات الجميلة بصحبة الشباب للتمتع بأموالهم وعطاياهم، ورغبة منها في إرضاء غرورها وإثبات قدراتها على الجذب والإغراء؟!! أليست هذه الخسائر في حقيقة الأمر أوجع وأصعب من الطلاق نفسه؟!!
• ثانياً: إذا افترضنا أن علاقة التعارف كانت ناجحة، ونية الارتباط كانت صادقة من الطرفين، هل اللقاءات المزينة بأجمل الثياب وأزكى العطور ستقدّم صورة واقعية عن حقيقة الطرفين؟ هل العلاقة المفرغة من مسؤولية الزوج في الإنفاق والتربية، ومسؤولية الزوجة في الرعاية والتربية ستقدم صورة صادقة عن طباع كل منهما؟!! كم من حالات الطلاق سمعنا عنها بين أزواج جمعتهم قبل الزواج قصص حب اهتزت لها صفحات الجرائد، وتخلى فيها الزوجان أو أحدهما عن أهله وعائلته مقابل أن يحظى بمن أحب؟!! ذلك لأن تلك اللقاءات الرومانسية جعلتهما يبديان أجمل ما لديهما... حتى إذا كان الزواج وظهرت مسؤولية البيت والأولاد اعتقد كل منهما أنه انخدع بشريكه وأنه ليس الشخص الذي أحبَّ وأراد. فالحبُّ الذي يشتعل قبل الزواج سيسكن ويهدأ، والذي يبقى هو الود والسكينة والمرحمة التي يلقيها الله بينهما والتي تزكيها طاعة الله وتقواه، لذلك قال تعالى: {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم:21]، لم يقل الله تعالى: (حُبّاً)، بل قال: (مودة ورحمة) لأن الود والرحمة أكثر ثباتاً واستمراراً في القلب، هما اللذان يضفيان على العلاقة الزوجية الاستقرار، بخلاف الحُبّ الذي يخمد لظاه بعد أن يروي كل منهما حاجة الآخر... ولكن للأسف، فإن وسائل الإعلام تجتهد في تقديم علاقات التعارف المزينة بالحُبِّ والمشاعر، وتقف دوماً عند الزواج على أنه النهاية لهذه العلاقة دون أن تبين ماذا بعد الزواج...
• ثالثاً: على فرض أن علاقة التعارف كانت ناجحة وتكللت بالزواج كيف ستكون علاقتهما بعده؟ هل ستكون مبنية على الثقة والاحترام أم أن الشك والريبة والغيرة ستتسلل إلى قلبيهما وتجد بينهما تربة صالحة للمشاكل؟؟ كم من حالات الطلاق كانت بسبب شك الزوج بزوجته أو غيرة الزوجة على زوجها... هذا الشك وتلك الغيرة المبنيّان على علاقتهما السابقة؟!
• رابعاً: عندما يقضي كل من الزوجين فترة ربما تكون عدة سنوات وقد فتح باب التعارف بقصد الزواج، ألن يصبح هذا أسلوباً عاماً في حياته؟! وخاصة أن مثل هذه العلاقات فيها لمسة من التجدد والحركة تجعل الفرد يتعلق بها، بينما الحياة بعد الزواج يصبح فيها الكثير من الروتين بسبب المسؤولية وهموم الحياة اليومية... كم من الحنين سيشعر به كل منهما لتلك الحياة المليئة بالمشاعر البعيدة عن الهموم؟ الأمر الذي يشكل خطراً على العلاقة الزوجية بلا شك.
ربما يقول قائل الآن: هل المقصود من هذا الكلام ألا يعرف الطرفان بعضهما على الإطلاق ويكون الزواج عن طريق الخطوبة التقليدية؟ وإنني أقول: إن الله تعالى قد وضع لنا أسساً تنظم حياتنا وفق حكمته ووفق ما يصلح لنا... من هذا الإيمان ننطلق لفهم الحياة وللتعامل مع أنفسنا ومع الآخرين، لذا سيكون للكلام بقية في العدد القادم بمشيئة الله تعالى...
سهير علي أومري
- التصنيف: