إنه ربي

منذ 2014-09-21

لو عرفته حق المعرفة لأحببته، ولامتلأ قلبك بالشوق إليه، ولامتلأت نفسك بخشيته وإجلاله وتعظيم أمره، ولتاق فؤادك إلى قربه والأنس بلقائه، ولزهدت روحك في كل شيء إلا قربه، ولهان عليك كل شيء في سبيل إرضائه، فقط لو.. عرفته وعاملته.

أم تلقي وليدها في بحر متلاطم الأمواج! رجل يرحب بالسجن والأسر إن كان في غير معصية الله!
شيخ هرم واهن العظم مشتعل الرأس يطلب الذرية! والد يمسك سكينًا ويقدم على ذبح ولده والولد يرحب!
شاب يقف وحده في مواجهة أعتى دولة على الأرض، ويقول كيدوني جميعًا ثم لا تنظرون!
رجل مسن يبني سفينة في عرض الصحراء، دون أن يأبه بسخرية الساخرين أو تعجب لفعلهم!

أفتستغرب لقولهم؟! أتتساءل عن أحوالهم؟! أتتوق لمآلهم وتستفسر عن سبيلهم؟!
إنهم ببساطة أناس قد عرفوا ربهم.. لكنها ليست معرفة سطحية أو عادية..
ليست مجرد علم نظرى جامد، إنها حياة كاملة متكاملة مع الله، حياة ازدهرت بها واحات قلوبهم، وأينعت فيها ثمرات يقينهم، ودنت عليها ظلال توكلهم، فكانت تلك الأعاجيب، وكان ربهم بهم حفيًا، وما كان أحدهم بدعائه شقيًا، وكذلك معرفة الله إذا خالطت بشاشتها القلوب، وعاينت بهجتها النفوس، ولاطفت نسماتها الأرواح..

فمن عرف الله حق المعرفة وأحصى أسماءه وصفاته ومننه وألاءه، وأحبه وامتلأت نفسه بتعظيمه وإجلاله، فإن قلبه يفيض بتلك المعرفة والمحبة والتعظيم، وإن المحب إذا سُئل عن حبيبه فإنه يبدع في الكلام عنه، حتى وإن كان اللسان معقودًا والبيان كليلاً، فإن محبته تظهر وصدقه يصل، ورسالته تجد طريقها إلى القلوب، وما كان من القلب وصل إلى القلب، وليست النائحة الثكلى أبدًا كتلك المستأجرة..

وإن أقوامًا عرفوا أعراضًا من الدنيا وزينتها، وأحبوها فأجادوا الكلام عنها، وبرعوا في تعريف الخلائق بها، وعظموا شأنها رغم هوان قدرها، فما بالك بمن عرف الله وأحبه؟ كيف يكون شأنه؟ وكيف يكتم خبره ولا يحب لأخيه ما يحب لنفسه؟!


ومن عرف ربه فإنه يتقلب في حدائق الاطمئنان بذكره (ألا بذكر الله تطمئن القلوب) ويستظل بوارف أشجار التوكل عليه وهو يردد: قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا، وهو يتنعم بنسيم اليقين فيما عنده ويثق بـ: {إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوفِي السَّمَاوَاتِ أَوفِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان:16].

وإنه على علمه هذا يخشاه {...إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ...} [فاطر:28]، ويوجل لذكره فهو ممن قيل فيهم: {...إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ...} [الأنفال:2]، لكنه ما إن يتذكر واسع فضله وجنات جوده وغيث إحسانه، حتى يسارع إلى رحابه ويعجل إلى خلوة به مرددًا قول الكليم عليه السلام: {...وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه:48].

لكن البداية أن يعرف..
ومن ذاق عرف، ومن عرف اغترف، وما من قربى ولا مقام من مقامات الدين إلا وينال كمالها بمعرفة الله، والعلم بأسمائه وصفاته، فمن عرف الرقيب الحسيب العليم الخبير حق المعرفة أدرك مقام الإحسان، ومن علم معنى الجبار القهار العزيز ذي انتقام رزق الخشية والخوف والإخبات والوجل، ومن تشرب قلبه معاني الرحمة والمودة، لم يخل ذلك القلب من رجاء ومحبة ومن علم، أنه يقبل التوبة عن عباده ويغفر السيئات، آب وأناب وتاب إليه واستغفره، ومن سمع أنه قريب يجيب دعوة الداع وضراعة المضطر، لم يعجز أن يرفع إليه يديه ويسأله من جوده وفضله، ومن عرف غناه افتقر إليه واستغنى به وطلب منه وحده المثوبة، واستوى عنده مدح الناس وذمهم.

ومن علم بقوته اعتمد وتوكل عليه، ومن ذكر جماله اشتاق للذة النظر إليه..
وإن مقام الشوق إلى لقائه لا يتأتى إلا لمن عرفه حق المعرفة، فلا يعقل أن يشتاق المرء وتهفو نفسه للقاء من لا يعرف عنه شيئًا..

أما من يعرف فإنه يتوق، ومن ثم يسارع وقلبه يصيح بقول الكليم عليه السلام: "وعجلت إليك رب لترضى".
يقول ابن القيم رحمه الله: "من عرف الله اشتاق إليه، وإذا كانت المعرفة لا نهاية لها، فشوق العارف لا نهاية له، وكما أن محبة الله مقترنة بمعرفته ملازمة لها، فإن الغيرة لا تنفك عن المحبة، والمحب يغار وغيرته تلك علامة حبه، وبذلك نفهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن مشاعر المؤمن تجاه حرمات الله: «إن المؤمن يغار والله أشد غيرة» (صحيح ابن حبان:292)، وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم عليه، فهو يحب عبده ويغار أن يلقى عبده بنفسه في حبائل عدوه.

ومن علم أنه الواحد الأحد الصمد، أخلص وجهته له وحده، فلا تأوي النفس إلا إليه، ولا ترغب إلا فيه، ولا ترهب إلا إياه، ولا يكاد القلب يشهد إلا آثار أفعاله وتجليات أسمائه وصفاته، ولعل ذلك الدعاء الجامع للنبى صلى الله عليه وسلم حين تعوذ برضاه من سخطه وبمعافاته من عقوبته، وبه منه يعد تجسيدًا واقعيًا لتلك الحالة من توحيد الوجهة بشكل مطلق.

وكأني به صلوات ربي وسلامه عليه لا يرى في الكون سوى معاملة معه وعلاقة به، أورثت بالقلب واللسان كمال الالتجاء وصدق التعلق، وتمام الرغبة والرهبة، تلاها ذلكم الثناء المهيب: «لا أحصى ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك» (صحيح مسلم:486)، فإن من عرف الله حق المعرفة ينظر إلى كل ما يمر به من أمور الدنيا والدين من خلال منظور المعاملة معه، فالفضل والنعماء منه وإليه، والابتلاء اختبار عليه أن يحسن الأداء فيه ليرى الله منه خيرًا، والأمر والنهي والحلال والحرام هي امتحانات شرعية عملية عليه أن يجتازها، والعارف لا ينسى أو يغفل عن معاملة الله له في أي مقام..

انظر إلى زكريا عليه السلام حين طلب الذرية، وقد وهن العظم واشتعل الرأس شيبًا، وعقمت المرأة! إن ذلك لم يكن بمعزل عن معاملة تعودها زكريا، فقال مسترجعًا إياها: {...وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً} [مريم:4]، وإبراهيم عليه السلام حين جادل أباه وقومه لم ينس المعاملة الربانية، فقال مذكرًا بها: {...إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم:47]، وحين قرر اعتزالهم وهجرانهم لم يغفل عن أمله فيمن كان به حفيًا فقال: {...عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيّاً} [مريم:48].

وكذلك فعلت امرأته حين علمت أن من أمره بتركها ووليدها في الصحراء هو الله جل وعلا، فقالت: "إذًا لا يضيعنا"، وما أحسن قول تلك الفتاة العارفة ابنة حاتم الأصم حين رأت رفع البلاء عنهم وغناهم، بعد فاقة أصابتهم لمجرد أن أميرًا من الأمراء قد مر عليهم فأحسن إليهم وأجزل لهم العطايا، فقالت باكية: "مخلوق نظر إلينا فاستغنينا وشكرنا، فكيف لو نظر إلينا الخالق".

وهكذا يتقلب من عرف ربه في رحاب المعاملة معه، ويتجول بين ربوع ذكره في كل موقف ولا ينشغل إلا بالتماس مرضاته على كل حال، إن معرفة الله إذا استقرت في قلب عبد فإنها تهز -بل تزلزل- كل تصوراته الخاطئة ونظراته القاصرة، فتسقط كافة أوثان النفس لتخر متهدمة على أنقاض سوء الظن والتعلق بالخلق، وكما رجف المنبر برسول الله صلى الله عليه وسلم حينما تحدث عن الملك! حتى قالوا ليخرن به، فإن قلب المؤمن وحياته وتصوراته ونظراته للأمور ترجف وتهتز وتنقلب رأسا على عقب، حين يعرف الله حق المعرفة، فيرى الأمور بقيمتها الحقيقية ويزن الدنيا وما عليها بميزان المعرفة

معرفة الله..
وهذا ما حدث حين عرف السحرة مولاهم الحق، فتكشفت لهم تلك القيمة الحقيقية للأشياء، وبدت لهم المعايير الصحيحة، فما ترددوا في الاختيار بين الدنيا وما عند الله، وقالوا لمن هددهم: {لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَٰذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه:72].

وهذه من أزكى ثمرات المعرفة، وأشهى قطوف العلم بالله، أن يستقيم الميزان، وتبدو الدنيا بزينتها رخيصة إن وضعت في مواجهة مع إرضاء الله وما عنده، حينئذ يرتفع الشعار عاليًا خفاقًا نقيًا رقراقًا يردده العارفون: "والله خير وأبقى"، ويُنظر عندها إلى كل تهديد وتخويف بمنطق: {...لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ} [الشعراء:50].

فمن عرف الله حق المعرفة سهل عليه التعامل مع الخلق، وأضحت صلتهم يسيرة، والصبر على أذاهم هينًا، فإنه يتذكر حين يعاملهم ويحسن إليهم أنه لا يكافئهم فليس الواصل بالمكافىء، ولكنه يعامل ربه وربهم ويتعبد إليه بالإحسان إليهم، والصبر على أذاهم، وحينئذ يكون حرصه الأوحد على أن يُرى الله منه خيرًا في كل حال.

والقلب الذى تشرب العلم بالله ومعرفة أسمائه وصفاته ونعمه وآلائه لا يحتمل أن يمكث طويلاً تحت وطأة المعاصي أو يطول عليه الأمد في رجس الخطيئة، فما أن يُذَكَّر بمولاه حتى يسارع للاستغفار والتوبة والأوبة إلى رحابه، لأنه يعلم جيدًا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده، وأنه لا يغفر الذنوب إلا هو، فيكون ممن قال الله فيهم: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135]. ولربما بلغ درجة أعلى من ذلك كما حدث مع يوسف عليه السلام إذ يقول: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنْ الْجَاهِلِينَ} [يوسف:33]

فحسن أن يتمنى المرء ألا يعصى الله، وأن يبغض المعصية وينفر قلبه منها فذاك أحسن، وأن يتحمل الأذى ويصبر عليه لئلا يقع في الفاحشة فتلك درجة عالية رفيعة، لكن أن يصل به تعظيمه لحرمات مولاه لأن يكون الأذى والعذاب الدنيوي أحب إلى قلبه من المعصية، فهذا مقام من تشرب قلبه بمعرفة ربه، معرفة أسفرت عن محبة صادقة وتعظيم خالص، يجعله لا يطيق إغضابه والتعدى على حرماته..معرفة جعلت أي مكان لا يُعصى فيه الله أهون عليه من محل المعصية، ولو كان قعر سجن بارد مظلم..

ببساطة..
لو عرفته حق المعرفة لأحببته، ولامتلأ قلبك بالشوق إليه، ولامتلأت نفسك بخشيته وإجلاله وتعظيم أمره، ولتاق فؤادك إلى قربه والأنس بلقائه، ولزهدت روحك في كل شيء إلا قربه، ولهان عليك كل شيء في سبيل إرضائه، فقط لو.. عرفته وعاملته. 

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام