الأحكام السلطانية للماوردي - (51) زكاة الثمار: (3)

منذ 2014-09-23

فَالْوَصِيَّةُ مَا يُوصِي بِهَا أَرْبَابُهَا بَعْدَ الْوَفَاةِ، وَالْعَرِيَّةُ: مَا يُعْرَى لِلصِّلَاتِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ، وَالْوَاطِئَةُ مَا تَأْكُلُهُ السَّابِلَةُ مِنْهُمْ، وَسَمُّوهَا وَاطِئَةً لِوَطْئِهِمْ الْأَرْضَ، وَالنَّائِبَةُ: مَا يَنُوبُ الثِّمَارَ مِنَ الْجَوَائِحِ.

"زكاة الثمار": (3)

 

وَالْمَالُ الثَّانِي مِنْ أَمْوَالِ الزَّكَاةِ: ثِمَارُ النَّخْلِ وَالشَّجَرِ، فَأَوْجَبَ أَبُو حَنِيفَةَ الزَّكَاةَ فِي جَمِيعِهَا، وَأَوْجَبَهَا الشَّافِعِيُّ فِي ثِمَارِ النَّخْلِ وَالْكَرْمِ خَاصَّةً، وَلَمْ يُوجِبْ فِي غَيْرِهِمَا مِنْ جَمِيعِ الْفَوَاكِهِ وَالثِّمَارِ زَكَاةً، وَزَكَاتُهَا تَجِبُ بِشَرْطَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: بُدُوُّ صَلَاحِهَا وَاسْتِطَابَةُ أَكْلِهَا، وَلَيْسَ عَلَى مَنْ قَطَعَهَا قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ زَكَاةٌ، وَيُكْرَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ فِرَارًا مِنَ الزَّكَاةِ، وَلَا يُكْرَهُ إنْ فَعَلَهُ لِحَاجَةٍ.

وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ تَبْلُغَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ، فَلَا زَكَاةَ فِيهَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ إنْ كَانَتْ أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ، وَالْوَسْقُ سِتُّونَ صَاعًا، وَالصَّاعُ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثٌ بِالْعِرَاقِيِّ، وَأَوْجَبَهَا أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ[1].

وَمَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ خَرْصِ الثِّمَارِ عَلَى أَهْلِهَا؛ وَجَوَّزَهُ الشَّافِعِيُّ تَقْدِيرًا لِلزَّكَاةِ وَاسْتِظْهَارًا لِأَهْلِ السَّهْمَانِ؛ فَقَدْ وَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى خَرْصِ الثِّمَارِ عُمَّالًا وَقَالَ لَهُمْ: «خَفِّفُوا الْخَرْصَ فَإِنَّ فِي الْمَالِ الْوَصِيَّةَ وَالْعَرِيَّةَ وَالْوَاطِئَةَ وَالنَّائِبَةَ» .

فَالْوَصِيَّةُ مَا يُوصِي بِهَا أَرْبَابُهَا بَعْدَ الْوَفَاةِ، وَالْعَرِيَّةُ: مَا يُعْرَى لِلصِّلَاتِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ، وَالْوَاطِئَةُ مَا تَأْكُلُهُ السَّابِلَةُ مِنْهُمْ، وَسَمُّوهَا وَاطِئَةً لِوَطْئِهِمْ الْأَرْضَ، وَالنَّائِبَةُ: مَا يَنُوبُ الثِّمَارَ مِنَ الْجَوَائِحِ.

فَأَمَّا ثِمَارُ الْبَصْرَةِ فَيُخْرَصُ كُرُومُهَا وَهُمْ فِي خَرْصِهَا كَغَيْرِهِمْ، وَلَا يُخْرَصُ عَلَيْهِمْ نَخْلُهَا لِكَثْرَتِهِ وَلُحُوقِ الْمَشَقَّةِ فِي خَرْصِهِ، فَإِنَّهُمْ يُبِيحُونَ فِي التَّعَاوُنِ أَكْلَ الْمَارَّةِ مِنْهَا، وَإِنَّمَا مَا قَدَّرَ لَهُمْ الصَّدْرُ الْأَوَّلُ مِنْ ثَنَايَاهَا فِي يَوْمَيِ الْجُمُعَةِ وَالثُّلَاثَاءِ يُصْرَفُ مُعْظَمُهُ فِي أَهْلِ الصَّدَقَاتِ، وَجُعِلَ لَهُمْ فِي عِوَضِ الثَّنَايَا كِبَارُ الثِّمَارِ، وَحَمْلُهَا إلَى كُرْسِيِّ الْبَصْرَةِ لِيُسْتَوْفَى أَعْشَارُهَا مِنْهُمْ هُنَاكَ، وَلَيْسَ يَلْزَمُ هَذَا غَيْرَهُمْ، فَصَارُوا بِذَلِكَ مُخَالِفِينَ لِمَنْ سِوَاهُمْ.

وَلَا يَجُوزُ خَرْصُ الْكَرْمِ وَالنَّخْلِ إلَّا بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ، فَيُخْرَصَانِ بُسْرًا وَعِنَبًا، وَيُنْظَرُ مَا يَرْجِعَانِ إلَيْهِ تَمْرًا وَزَبِيبًا، ثُمَّ يُخَيَّرُ أَرْبَابُهَا إذَا كَانُوا أُمَنَاءَ بَيْنَ ضَمَانِهَا بِمَبْلَغِ خَرْصِهَا لِيَتَصَرَّفُوا فِيهَا وَيَضْمَنُوا قَدْرَ زَكَاتِهَا؛ وَبَيْنَ أَنْ تَكُونَ فِي أَيْدِيهِمْ أَمَانَةٌ يُمْنَعُونَ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهَا حَتَّى تَتَنَاهَى، فَتُؤْخَذُ زَكَاتُهَا إذَا بَلَغَتْ.

وَقُدِّرَ لِلزَّكَاةِ الْعُشْرُ إنْ سُقِيَتْ عَذْبًا أَوْ سَيْحًا، وَنِصْفُ الْعُشْرِ إنْ سُقِيَتْ غَرْبًا أَوْ نَضْحًا؛ فَإِنْ سُقِيَتْ بِهِمَا فَقَدْ قِيلَ: يُعْتَبَرُ أَعْلَاهُمَا، وَقِيلَ: يُؤْخَذُ بِقِسْطِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَإِذَا اخْتَلَفَ رَبُّ الْمَالِ وَالْعَامِلُ فِيمَا سُقِيَتْ بِهِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ رَبِّهَا، وَأَحْلَفَهُ الْعَامِلُ اسْتِظْهَارًا، فَإِنْ نَكَلَ لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا مَا اعْتَرَفَ بِهِ، وَيَضُمُّ أَنْوَاعَ النَّخْلِ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ، وَكَذَلِكَ أَنْوَاعُ الْكَرْمِ؛ لِأَنَّ جَمِيعَهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَلَا يُضَمُّ النَّخْلُ إلَى الْكَرْمِ لِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْجِنْسِ.

وَإِذَا كَانَتْ ثِمَارُ النَّخْلِ وَالْكَرْمِ تَصِيرُ تَمْرًا وَزَبِيبًا لَمْ تُؤْخَذْ زَكَاتُهُمَا إلَّا بَعْدَ تَنَاهِي جَفَافُهُمَا تَمْرًا أَوْ زَبِيبًا، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا لَا يُؤْخَذُ إلَّا رُطَبًا أَوْ عِنَبًا أُخِذَ عُشْرُ ثَمَنِهِمَا إذَا بِيعَا، فَإِنِ احْتَاجَ أَهْلُ السَّهْمَانِ إلَى حَقِّهِمْ مِنْهُمَا رُطَبًا أَوْ عِنَبًا جَازَ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ إذَا قِيلَ: إنَّ الْقِسْمَةَ تَمْيِيزُ نَصِيبٍ، وَلَمْ يَجُزْ فِي الْقَوْلِ الثَّانِي إذَا قِيلَ: إنَّ الْقِسْمَةَ بَيْعٌ، وَإِذَا هَلَكَتْ الثِّمَارُ بَعْدَ خَرْصِهَا بِجَائِحَةٍ مِنْ أَرْضٍ أَوْ سَمَاءٍ قَبْلَ إمْكَانِ أَدَاءِ الزَّكَاةِ مِنْهَا سَقَطَتْ، وَإِنْ هَلَكَتْ بَعْدَ إمْكَانِ أَدَائِهَا أُخِذَتْ.
__________
(1) قال ابن قدامة من الحنابلة: قال مالك والشافعي: لا زكاة في ثمر إلَّا التمر والزبيب، ولا في حبٍّ إلّا مال كان قوتًا في حالة الاختيار لذلك، إلّا في الزيتون على اختلافٍ، وحكي عن أحمد إلّا في الحنطة والشعير والتمر والزبيب، وهذا قول ابن عمر وموسى بن طلحة والحسن وابن سيرين والشعبي والحسن بن صالح وابن أبي ليلى وابن المبارك وأبي عبيد، والسلت: نوع من الشعير، ووافقهم إبراهيم وزاد الذرة، ووافقهم ابن عباس وزاد الزيتون؛ لأن ما عدا هذا لا نصَّ فيه ولا إجماع، ولا هو في معنى المنصوص عليه ولا المجمع عليه، فيبقى على الأصل. وقد روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو أنه قال: إنما سنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة في الحنطة والشعير والتمر والزبيب.

وقال أبو حنيفة: تجب الزكاة في كل ما يقصد بزراعته نماء الأرض إلّا الحطب والقصب والحشيش؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "فيما سقت السماء العشر" وهذا عام؛ ولأن هذا يقصد بزراعته نماء الأرض فأشبه الحب.
ووجه قول الخرقي: إنَّ عموم قوله صلى الله عليه وسلم: "فيما سقت السماء العشر" وقوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ: "خذ الحب من الحب" يقتضي وجوب الزكاة في جميع ما تناوله خرج منه ما لا يكال وما ليس بحب، بمفهوم قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس في حبٍّ ولا تمر صدقة حتى يبلغ خمسة أوسق" رواه مسلم والنسائي، فدل هذا الحديث على انتفاء الزكاة مما لا توسيق فيه وهو مكيال، ففيما هو مكيل يبقى على العموم، والدليل على انتفاء الزكاة مما سوى ذلك ما ذكرنا من اعتبار التوسيق (المغني: [2/ 294]).

الكتاب: الأحكام السلطانية
المؤلف: أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي، الشهير بالماوردي (المتوفى: 450هـ)
الناشر: دار الحديث  القاهرة
عدد الأجزاء: 1
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي]

المصدر: المكتبة الشاملة
المقال السابق
(50) زكاة المواشي: (2)
المقال التالي
(52) زكاة الزروع (4)