تراجعات أهل الجحيم!
يحكي لنا القرآن الكريم في أكثر من آية، وأكثر من سورة عن أحوال القوم، وما أصابهم، وما يتمنوه في هذا الجحيم -نعوذ بالله من النار ومن ساكني النار- ثم يُعقِّب القرآن الكريم على هذه الحوارات سيما ما يقولونه من تراجعات، بآيات معجزات، وردود مفحمة للقوم، مكذبة لموقفهم من هذه التراجعات إن هم عادوا إلى دار الدنيا.
النار موعود الظالمين المستكبرين، حذَّرهم منها ربهم في دار الدنيا، فأرسل إليهم الرسل مبشرين ومنذرين، لكنهم استكبروا وأعرضوا، وازدادوا طغيانًا وكفرًا، وعنادًا لدين الله ورسل الله، فلم يترك هؤلاء البغاة المستكبرين -من ساكني النار- مجالًا لمُذكِرٍ أو مُنذِرٍ إلا ضيقوه، وتصدوا له.
يقول الله عز وجل واصفًا حال نبيه نوح عليه السلام مع قومه -وهو حال أغلب الرُسل والمُنذِرين مع أقوامهم- يقول الله تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا . فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا . وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا} [نوح:5-7].
بل أصاب منذريهم منهم الأذي، الذي تعدى في حالات كثيرة إلى قتل هؤلاء المنذرين من الرسل والأنبياء والمصلحين، يقول الله تعالى: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} [البقرة:87].
وهو إعراض مركب، ليس سهوًا أو جهلًا أو غفلةً لحظية تزول بموعظة مُوعظٍ، وتذكرة مُذكرٍ؛ ولهذا استحقوا النار جزاءً وفاقًا على إصرارهم وعنادهم وكفرهم، يقول المولى عز وجل: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التغابن:10].
لكن أمر أهل النار لم ينته عند هذا الحد، فلم تنقطع أخبارهم، بل نقل لنا القرآن الكريم أحاديث وحوارات لأهل النار، حوت من العظات والعبر الكثير، كما حوت تراجعات كبرى لأهل النار عن أعمالهم واعتقاداتهم وسلوكياتهم في الدنيا، فتمنوا الرجوع إلى دار الدنيا، ليصلحوا ويتبرؤوا من الغاوين الذين اتبعوهم في الدنيا وأضلوهم، وأوردوهم سوء العذاب.
فيحكي لنا القرآن الكريم في أكثر من آية، وأكثر من سورة عن أحوال القوم، وما أصابهم، وما يتمنوه في هذا الجحيم -نعوذ بالله من النار ومن ساكني النار- ثم يُعقِّب القرآن الكريم على هذه الحوارات سيما ما يقولونه من تراجعات، بآيات معجزات، وردود مفحمة للقوم، مكذبة لموقفهم من هذه التراجعات إن هم عادوا إلى دار الدنيا.
- تراجع (الإقرار)، إقرار الظالمين بوعد الله ووعيده:
أول حوار يُطالِعنا به أهل النار، يحوي على تراجع هو رأس (التراجعات النارية)، ففيه يعترف أهل النار إلى أهل الجنة بصدق موعود الله لهم، وأنهم وجدوا ما وعدهم الله به من جحيم وعذاب، يقول المولى عز وجل في كتابه العزيز الكريم حاكيًا هذا الحوار: {وَنَادَىٰ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا ۖ قَالُوا نَعَمْ ۚ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [الأعراف:44].
يقول سيد قطب رحمه الله تعليقًا على هذه الآية: "وفي هذا السؤال من السخرية المرة ما فيه.. إن المؤمنين على ثقة من تحقق وعيد الله كثقتهم من تحقق وعده، ولكنهم يسألون. ويجيء الجواب في كلمة واحدة.. نعم..! وعندئذ ينتهي الجواب" (في ظلال القرآن، لسيد قطب: [3/225]).
وفي هذا من العذاب النفسي -فضلًا عن العذاب الجسدي- ما فيه، فعذاب أهل النار عذابان، عذاب النار إذ تلفح أجسادهم وتأكلها بلهيبها، وعذاب رؤية النعيم الذي يقيم فيه أهل الجنة، وحسرتهم على ذلك، ولعل قلة كلامهم ووجازة إجابتهم تكون راجعة لهذا السبب، فلم يزيدوا على أن قالوا: {نَعَمْ}، ثم أسكتتهم حسرتهم، فلم ينطقوا بعدها.. ليؤذن مؤذن يسمع الجميع: {أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}.
- تراجع (التبرؤ)، تبرؤ الأتباع من المتبوعين والمتبوعين من الأتباع:
من التراجعات الكبرى لأهل النار تبرؤ الأتباع من المتبوعين والمتبوعين من الأتباع، فجهنم ستكون بحق ساحة تبرؤ، لم ولن يُشهد مثلها، فالجميع نادم على ما قدم، يعض أصابع الندم على كِبره واستكباره في الدنيا، يقول المولى عز وجل، حاكيًا عن تبرأ المتبوعين: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ . قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} [القصص:62-63].
يقول السعدي رحمه الله مُفسِّرًا لهذه الآية: "هذا إخبار من اللّه تعالى، عما يسأل عنه الخلائق يوم القيامة، وأنه يسألهم عن أصول الأشياء، وعن عبادة اللّه وإجابة رسله... ومن المعلوم أنه يتبين لهم في تلك الحال، أن الذي عبدوه، ورجوه باطل، مضمحل في ذاته، وما رجوا منه، فيقرون على أنفسهم بالضلالة والغواية. ولهذا {قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} الرؤساء والقادة، في الكفر والشر، مقرين بغوايتهم وإغوائهم: {رَبَّنَا هَؤُلاءِ} التابعون {الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا} أي: كلنا قد اشترك في الغواية، وحق عليه كلمة العذاب" (تفسير السعدي، ص: [622]).
فهذا اعتراف من المتبوعين بالغواية وتبرؤ من تابعيهم، ومن سلك مسلكهم، وهو هو ذات المشهد الذي يتبرأ فيه الأتباع من المتبوعين يقول تعالى في سورة البقرة جامعًا لتراجعات الفريقين: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ . وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة:166-167].
يقول ابن عاشور في معنى التبرؤ (تبرؤ الأتباع من المتبوعين) في مثل هذه الآيات: "التبرؤ تكلف البراءة وهي التباعد من الأمر الذي من شأن قُرْبه أن يكون مضرًا، ولذلك يقال تبارآ إذا أبعد كلٌ الآخر من تبعةٍ محققة أو متوقعة... ومعنى براءتهم منهم تنصلهم من مواعيد نفعهم في الآخرة الذي وعدوهم في الدنيا والشفاعة فيهم، وصَرْفُهم عن الالتحاق بهم حين هَرَعُوا إليهم" (التحرير والتنوير للطاهر بن عاشور: [2/97]).
وعن تمنى الكافرين العودة إلى الدنيا يقول ابن عاشور: "والمعنى أنهم تمنوا أن يعودوا إلى الدنيا بعدما علِموا الحقيقة وانكشف لهم سوء صنيعهم فيدعوهم الرؤساء إلى دينهم فلا يجيبونهم ليَشفوا غيظهم من رؤسائهم الذين خذلوهم ولتحصل للرؤساء خيبة وانكسار كما خيبوهم في الآخرة" (التحرير والتنوير للطاهر بن عاشور: [2/86]).
- تراجع (التصديق بصلاح المؤمنين في الدنيا):
من التراجعات التي سوف تشهدها ساحة أهل الجحيم شهادتهم لأهل الإيمان في الدنيا بالخيرية والصلاح، بعد أن كانوا يعدونهم من شرار القوم، يقول الله تعالى: {وَقَالُوا مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الأشْرَارِ . أَأَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأبْصَارُ . إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ}، حيث يفتقد أهل النار أهل الدنيا من المؤمنين، يقول الحافظ ابن كثير: "هذا إخبار عن الكفار في النار أنهم يفقدون رجالًا كانوا يعتقدون أنهم على الضلالة وهم المؤمنون في زعمهم قالوا: ما لنا لا نراهم معنا في النار؟" (تفسير ابن كثير: [7/79]).
ومن قبل وصفوهم في الدنيا بالسفهاء، واستهزؤوا بهم، يقول الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا كَمَا آَمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آَمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ . وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة:13-14].
لكنهم في مواضع أخرى يشهدون لأهل الإيمان بإيمانهم، بل يتمنون العودة إلى دار الدنيا ليكونوا من حزبهم، يقول المولى عز وجل حاكيًا قولهم: {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء:102]، وهو تمنٍ كاذب، لا فائدة منه، فلا عودة ولا رجوع إنما خلود في هذا الجحيم، فتمنيهم ليس بمجدي لهم ولا نافع، وإنما يزيدهم حسرة على حسرتهم، وهل تنفع الحسرة أو يجدي الندم؟
فليت أن أهل الدنيا من البغاة والمستكبرين ينظرون إلى سلفهم ممن شاركوهم البغي والاستكبار وسبقوهم إلى الآخرة، فيتعظوا ويأخذوا بتراجعاتهم الاعتقادية وتصحيحاتهم السلوكية إن هم عادوا للدنيا، ولن يكون.
رمضان الغنام
كاتب إسلامي مصري التحصيل العلمي: "باحث بالدكتوراه"، تخصص الدراسات الإسلامية، جامعة طنطا.
- التصنيف: