كثر خير الله وطاب
أشد ما يحزن المرء أن يجد كثيرًا من الناس لا يقدرون هذه الأيام حق قدرها، ولا يتعاملون معها من منطلق الفرصة الذهبية والصفقة الرابحة، وتجد أن علاقتهم بالعمل الصالح فيها لا تداني علاقتهم به في رمضان، رغم أنها أيام -كما سبق وأوضحت- لا تقل عنه فضلاً إن لم تزد، إن من الأدب مع الله جل وعلا أن يتعرض العبد لنفحاته ويقبل عطياته وهباته، ومن تلك النفحات هذه الأيام التي نحن مقبلون عليها.
- يا بلال! التفت الرجل داكن البشرة إلى مصدر الصوت الذي يناديه في ذلك اليوم المهيب..
من؟ إنه حبيبه وقرة عينه، هل مر اليوم بهذه السرعة؟! لقد كان ينظر إليه قبل قليل وهو في وقفته المنكسرة بين يدي مولاه منذ الظهيرة، يرفع يديه في ضراعة المسكين ويبتهل ابتهال الخاضع الذليل طوال نهار، ذلك اليوم العظيم في ذلك الشهر الحرام في هذا البلد الحرام، يوم عرفة، ها هي الشمس قد غربت أو كادت، وها هو يناديه لبيك سيدي وقرة عيني وحبيبي.
- « » (صحيح الترغيب:1151)، انطلق مؤذن الحبيب لينادي الصحب والآل المنتشرين على صعيد عرفات، ما بين مبتهل وباك وضارع إلى ربه يناجي، هلموا إلى إمامكم وأسوتكم وهاديكم وقدوتكم، فهو لا شك يطلبكم لأمر عظيم.. اجتمع الخلق من كل حدب وصوب، ووقفوا جميعًا بين يدي رسولهم صلوات ربي وسلامه عليه ينتظرون وقلوبهم متشوقة، لماذا جمعهم وأنصتهم قبل الإفاضة إلى المشعر الحرام؟
- « » (صحيح الترغيب:1151)، الله أكبر الله أكبر يا له من فضل ويا لها من بشارة، ربهم الذي باهى بهم الملائكة اليوم وقال لهم في تلك العشية المباركة: « » (صحيح الترغيب:1112).
الآن يذكرهم مرة أخرى ويبعث جبريل في ذلك اليوم العظيم ليخبر سيد ولد آدم عليه السلام بتلك البشارة الجليلة، سبحانك ربي سبحانك ما أعظم شأنك، ما ألطفك وأكرمك وأحلمك، فشى السرور في الجمع المبارك وتهللت الأسارير بالقول الحسن، وصاح من بين الجمع رجل، لكنه ليس أي رجل! إنه فاروق الأمة ووزير رسولها، إنه عمر رضي الله تعالى عنه، صاح مناديًا يسأل ويطمئن على إخوان له لم يرهم..
قال الفاروق مستفهمًا: "يا رسول الله هذا لنا خاصة؟".
- « » (صحيح الترغيب:1151).
ما إن سمع عمر تلك الكلمات تخرج من الفم الشريف حتى صاح وقد تهلل الوجه، وساد الانشراح: "كثر خير الله وطاب، كثر خير الله وطاب"، صدقت يا عمر كثر خير الله وطاب، واشرأب الفضل وزاد، وتضاعف المن وفاض.
كلمات يسيرة قالها الفاروق لخصت معنى من أهم المعاني التي ينبغي للناسك أن يعيها في سيره إلى مولاه، كلمات تحمل أسرارًا عظيمة وفضائل كريمة "كثر خير الله وطاب"، كلما تأملت في آيات المثوبة وأحاديث الفضائل والمكرمات تتأكد لديك تلك الحقيقة، تتأكد وتتيقن أكثر فأكثر أن ربك شكور كريم ذو فضل عظيم.
مع كل نفحة من نفحات ربنا لا بد من تذكر هذا المعنى، معنى شكر الله لعباده الطائعين وكثرة خيره وفيض ثوابه، إن شكر الله موضوع هائل لا يستطيع أحد الوفاء بحقه في أسطر قليلة، وإن المرء ليذهل حين يتأمل قدر الشكر في مقابل العمل، الله يشكر على العمل القليل بالجزاء الجزيل، وهذا هو معنى الشكر لغةً وشرعًا..
في اللغة: الشكر هو الزيادة، يقال دابة شكور إذا أعطت النتاج الكثير الوفير مع العلف القليل، وهو معنى لغوي يستقيم مع المعنى الشرعي الذي كثرت عليه الأدلة من الكتاب والسنة، كقوله تعالى: {لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌشَكُورٌ} [فاطر:30].
فالشكور جل وعلا من معانيه السامية أنه هو الذي يغدق على عباده الطائعين بالجزاء الجزيل على العمل القليل: {وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ} [الشورى:23]، غالبًا ما تجد معنى الشكر في القرآن مصحوبًا بالزيادة والمضاعفة: {إِن تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ} [التغابن:17].
إن أقل الأعمال وأهون القربات تورث ما لا يسعنا وصفه من الخيرات والحسنات، وذلك اليوم الذي نحن فيه –يوم عرفة- نموذج واضح لذلك الشكر العظيم، ضمن تلك الأيام الذاخرة بمعاني الشكر أيام العشر، أيام يستطيع العامل فيها ويمكن للطائع من خلالها أن ينافس المجاهد في سبيل الله..
المجاهد! ذلك الذي ارتقى ذروة سنام الدين، وعمل العمل الذي لم يجد النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا يعدله به لما سئل عن ذلك؟ نعم تستطيع أن تنافسه بل تتفوق عليه: « » (صحيح الترمذي:757)، هذا فقط من لا تستطيع أن تتخطاه بعملك في تلك الأيام، كما ثبت عن خير الأنام، إنها حقًا أيام مختلفة، أيام فارقة قال عنها حبيبك صلى الله عليه وسلم أنها أفضل أيام الدنيا، هكذا تفضيل بإطلاق يجعلك تفكر هل معنى ذلك أنها أفضل من أيام رمضان؟
ستجد فريقًا كبيرًا من أهل العلم يجيبك بثقة: "نعم هي أفضل بنص ذلك الحديث محكم اللفظ"، أيام أقسم الله جل وعلا بها في كتابه فقال: {وَالْفَجْرِ . وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر:1-2]، والليالي العشر على قول جمهور المفسرين هي عشر ذي الحجة، وفيها هذا اليوم الذي شرفنا الله ببلوغه يوم يكفر صيامه عامين، يوم واحد بعامين! تخيل.
يوم عرفة الذي قدمت الكلام عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما سئل عن صيام يوم عرفة: « » (رواه مسلم في الصحيح)، ما أعظم هذا الكرم وما أطيب نفحات الله، والله إن المرء لا يجد من الكلمات ما يعبر به عن هذا الفضل الكبير إلا قول الفاروق مرددًا معه بكل جوارحه: "كثر خير الله وطاب، كثر خير الله وطاب"، أليس هذا الحديث وذاك الفضل وما كان على شاكلته مدعاة للتفكر والتأمل والتساؤل، ما الذي فعله الصائم ليستحق كل هذا الفضل؟
تكفير سيئات عامين كاملين ببضع سويعات من الإمساك عن الطعام والشراب والشهوة؟
هل بذل هذا الممسك مجهودًا خارقًا للعادة، أو ضحى بنفسه أو ماله لينال هذا الفضل العظيم؟
الجواب: لا. بل عمل عملاً سهلاً يسيرًا أطلق عليه السلف: "الغنيمة الباردة".
إن مجرد تذكر هذه الذنوب التي أقترفناها في عام كامل مضى أمر مرهق، بل قد يكون مستحيلاً على بعض الناس عد ذنوبهم، فما بالك بأنك لن تعد وحتى لن تتذكر بهذه السويعات القليلة تنال مغفرة كل تلك الذنوب -عدا الكبائر التي تحتاج إلي توبة منفصلة-، لا شك أنه ليس من سبب لذلك، والذي لا إله غيره إلا قوله سبحانه: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء} [الجمعة من الآية:4].
أنا إن تبت مناني وإن أذنبت رجاني
وإن أدبرت ناداني وإن أقبلت أدناني
وإن أحسنت جازاني وإن قصرت عافاني
إن تذكر هذا المعني لا بد أن يملأ القلب بالحماس والرغبة في المتاجرة مع الشكور جل وعلا، الشكور الذي يربحك أعلى الأرباح على أقل الأعمال وليست فقط هذه الغنيمة الباردة هي ما يُنال به هذا الأجر الهائل بل مثلها كثير، فصيام يوم عرفة يكفر عامين عامًا قبله وأخر بعده، وصيام يوم عاشوراء يكفر العام الذي قبله، والصلاة إلى الصلاة كفارة لما بينها، والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان، والعمرة إلى العمرة كذلك يكفرون، وكم عمل بسيط وذكر يسير يكفر أعتى الذنوب.
فها هي مئة تسبيحة بحمد الله تكفر ذنوبك ولو كانت كثل زبد البحر، وها هو استغفارك للمؤمنين والمؤمنات تنال به أكثر من مليار، حسنة بكل مؤمن حسنه، وذكرك في السوق موطن الغفلات ومرتع الشهوات تنال به مليون حسنة، ويحط عنك مليون خطيئة وترفع به مليون درجة، ويبني لك بيتًا في الجنة، نعم والله! مليون كما صرح بذلك النبي بلفظ ألف ألف، وصلاتك ووضوءك وعيادتك للمريض وغير ذلك من الأعمال اليسيرة التي لها من الفضائل ما لا نستطيع حصره في هذه السطور، ومكانها كتب الفضائل وإن شئت فانهل ولا تبخل على نفسك بالعشرات بل المئات من أسباب المغفرة التي لا تقل إن لم تزد عن فضائل تلك الأيام الحاسمة التي نحن فيها.
إن كل ما ذكرته من النعم والفضائل والنفحات ليملأ القلب بالفرح بالله والاعتزاز بهذا الدين: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58]، وكلما مرت الساعات ازداد الاشتياق وتضاعفت اللهفة لتلك اللحظات الغالية، التي لا أكون مبالغًا لو قلت أنها لحظات مصيرية في حياة المسلم ومستقبله وحياته الحقيقية.
أما أشد ما يحزن المرء أن يجد كثيرًا من الناس لا يقدرون هذه الأيام حق قدرها، ولا يتعاملون معها من منطلق الفرصة الذهبية والصفقة الرابحة، وتجد أن علاقتهم بالعمل الصالح فيها لا تداني علاقتهم به في رمضان، رغم أنها أيام -كما سبق وأوضحت- لا تقل عنه فضلاً إن لم تزد، إن من الأدب مع الله جل وعلا أن يتعرض العبد لنفحاته ويقبل عطياته وهباته، ومن تلك النفحات هذه الأيام التي نحن مقبلون عليها.
المؤمن الذي يوقن باسم الله الشكور ويرجو أن يتعبد لمولاه بمقتضاه، ويعلم علم يقين أن خيره قد كثر وطاب لا بد أن يحاول جاهدًا أن ينهل من هذا الخير ويدرك هذا الفضل، هذه أيام عمل خصوصًا هذا اليوم عرفة، ولئن حرم العبد فيه أعظم أعماله وهو حج الوقوف بصعيد عرفات المبارك فليس أقل من أن ينافس الحجيج والعمَّار في نفسياتهم المتوقدة، وإقبالهم الجميل الذي يرفعون فيه شعار: "لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك".
ألا فليلب الماكث بقلبه وليرفع شعار الكليم عليه السلام، وإن كان في قعر بيته قائلاً: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه من الآية:84]، فليكن العمل الصالح بكل أنواعه سبيلك ومعقد عزمك في هذا اليوم، تتنقل بين واحات الصيام والقرآن وتنهل من عيون التحميد والتكبير والتهليل، وتتنسم عبير الصدقات وصنائع المعروف، ولا تحرم نفسك من باب من أبواب الخير تلقي فيه بسهمك إن استطعت إلى ذلك سبيلاً.
ولتكن دومًا كلمات الفاروق نصب عينيك في تلك الأيام بلغنا الله إياها: "كثر خير الله وطاب، كثر خير الله وطاب".
- التصنيف: